حق براءة الذمة من التكاليف يعني أن الإنسان يولد بغير التزامات حتي يثبتها دليل خاص. فالأصل عدم التكليف. وعلي المدعي خلافه عبء الإثبات. فكل من يدعي أننا مكلفون بواجبات عليه أن يثبت ذلك بالدليل. وإلا فالإنسان برئ من كل تكليف لا دليل عليه. ويستند هذا الحق إلي الأصل المستقر في براءة الذمة من التكاليف استصحاباً للحال الأولي التي ولد عليها كل إنسان ولم يرد ما يغيرها. ولا يعني هذا الحق وهو البراءة من التكاليف إلا بدليل أننا لسنا مكلفين إلا بما ورد فيه دليل خاص. كما لا يعني أن ما لم يرد فيه نص من المسكوت عنه أو المستحدثات بعد عصر التشريع ليست محلاً للتكليف. وإنما المراد هو بيان إجماع الفقهاء علي أن وجود الدليل الملزم يثبت به التكليف الشرعي. أما عدم الدليل في المسألة. كالمسائل المسكوت عنها زمن التشريع. أو المسائل المستجدة بعد زمن التشريع. فقد اختلف الفقهاء والأصوليون فيها علي اتجاهين. الاتجاه الأول : يري أن الأصل في الأشياء التي لم يثبت دليل بإيجابها أو تحريمها. الإباحة. ثم يجتهد الفقيه انطلاقاً من هذه الإباحة وينظر إلي المصالح والمفاسد. فإن كانت المفاسد أظهر حكم الفقيه بالتحريم. وإن كانت المصالح ضرورية حكم الفقيه بالإيجاب. وإن تساوت المصالح والمفاسد بقي الحكم علي أصل الإباحة. وهو قول أكثر الفقهاء وجمهور الأصوليين. واحتجوا بالكتاب والسنة والمعقول. "1" أما دليلهم من الكتاب فالآيات الكثيرة التي تفيد أن الأصل في خلق الكون هو صالح الإنسان لينتفع به. ومن ذلك قوله تعالي: "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" "البقرة: 29". وقوله تعالي: "وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه" "الجاثية: 13". "2" وأما دليلهم من السنة فأحاديث كثيرة تفيد أن المسكوت عنه عفو. وهو المباح. ومن ذلك ما رواه الدار قطني والطبراني بإسناد حسن. عن أبي الدرداء. عن النبي. صلي الله عليه وسلم. قال: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام. وما سكت فهو عفو. فاقبلوا من الله عافيته. فإن الله لم يكن لينسي شيئاً". ثم تلا قوله تعالي: "وما كان ربك نسيا" "مريم: 64". "3" وأما دليلهم من المعقول فهو أن هذه الأشياء المسكوت عن حكمها يستحيل أن تكون مخلوقة لغير حكمة. وإلا كان عبثاً. وهو محال عليه سبحانه. فثبت أنه إنما خلقها لينتفع بها المحتاجون إليها. ويكون حكم أصلها الإباحة إذا لم يتحقق ضرر أشد. فتكون حراماً. الاتجاه الثاني: يري أن الأصل في الأشياء التي لم يثبت دليل بإيجابها أو تحريمها الحظر والمنع. لعموم ما أخرجه الشيخان من حديث أبي بكرة. أن النبي. صلي الله عليه وسلم. قال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام بينكم. كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب". فهذا أصل في تحريم الأشياء وهو مذهب المعتزلة البغداديين. وقول ابن حزم الظاهري قريب منه. حيث يري ابن حزم الظاهري أن المسائل التي لا نص فيها لا تخرج عن حالين: الأولي: مسائل قديمة وقت التشريع. فهذه عفو لا حكم لها وأصلها الإباحة. لأن مناسبة نزول التشريع مع تعمده ترك هذه المسائل قرينة قوية تجعل تلك المسائل في حكم المنصوص علي إباحتها. الثانية: مسائل مستحدثة بعد التشريع. وهذه ممنوعة وأصلها الحظر. لأن القول بإباحتها إدخال في الدين ما ليس فيه. فلا يحل منها إلا ما يدخل في حكم النص. ويمكن الجواب عن ذلك: أن المسائل المستحدثة تحتاج إلي اجتهاد المجتهدين لإلحاقها بالمسائل المنصوص علي إيجابها أو تحريمها تبعاً لموازنات المصالح والمفاسد. لعموم قوله تعالي: "فاعتبروا يا أولي الأبصار" "الحشر:2". وبهذا يتأكد أن الإسلام يجعل من حق البراءة من التكاليف إلا بدليل رسالة تعميرية إصلاحية للإنسانية. وليس ذريعة للتهرب من مصالح الناس أو لمحاولة الإضرار بهم.