تعدد المعايير ظاهرة كونية أقرّها الإسلام فى تشريعاته لإعطاء الإنسانية خيارات أو بدائل ينتقى المسلم منها ما يحقق مصالحه ويدفع عنه السوء، وليس لبناء شخصيته على الازدواجية التى تكيل بمكيالين فى الموضوع الواحد لظلم الناس، كما سيتضح فى استعراضنا لقضية الفيلم المسىء للرسول (صلى الله عليه وسلم). فلو نظرنا إلى الزمن لوجدنا أن اليوم الواحد يتكون من ليل ونهار ويصلح كل منهما أن يكون معياراً فى التعامل، والأسبوع الواحد يتكون من سبعة أيام ويصلح كل منها أن يكون معياراً للتعامل. ولو نظرنا إلى المكان لوجدنا أنه يتكون من جهات أربع؛ شمال وجنوب وشرق وغرب ويصلح كل منها أن يكون معياراً للتعامل. هذه التعددية الكونية فى المعايير هى التى بنى عليها الإسلام تشريعه فترى إقراره لقاعدتين متعارضتين هما: (1) قاعدة الأخذ بالأيسر؛ عملاً بعموم قوله تعالى: « يريد الله بكم اليسر» (البقرة: 185)، وما أخرجه الشيخان عن عائشة قالت: ما خُيِّر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً. (2) قاعدة الأخذ بالأحوط؛ عملاً بعموم قوله تعالى: «تلك حدود الله فلا تقربوها» (البقرة: 187)، وما أخرجه مسلم عن النعمان بن بشير أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام». كما ترى تحمّل التشريع الإسلامى لحكمين متعارضين فى التعامل مع المستجدات أو المستحدثات؛ وهما التحريم والإباحة، وهذا ما يُعرف فى علم أصول الفقه بحكم الأصل فى الأشياء. فلك أن تختار فى المستجدات حكم الحظر أو التحريم إلا عند الحاجة أو الضرورة؛ عملاً بعموم ما أخرجه الشيخان عن عائشة أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وما أخرجه أحمد وأبوداود عن العرباض بن سارية أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة». ولك أن تختار حكم الإباحة أو الحل فى المستجدات إلا عند الضرر أو المفسدة؛ عملاً بعموم قوله تعالى: «هو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعاً» (البقرة: 29)، وما أخرجه الطبرانى والدارقطنى عن أبى الدرداء أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «إن الله سكت عن أشياء من غير نسيان فلا تكلفوها رحمة من ربكم فاقبلوها». وبشأن التعامل مع الإساءة فى حق النبى (صلى الله عليه وسلم) ترى التشريع الإسلامى محتملاً لطريقتين متعارضتين اتباعاً لمنهج التعددية فى المعايير؛ الطريقة الأولى: هى الشدة والغلظة من أجل الردع والزجر؛ خاصة مع من ناصب المسلمين العداء سواء أكان مسلماً أو غير مسلم. ويؤيدها آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة والمنطق العقلى: (1) أما الآيات فمنها قوله تعالى: «يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم» (التوبة: 73 - التحريم: 9)، وعموم قوله تعالى: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم» (البقرة: 194)، وعموم قوله تعالى: «وجزاء سيئة سيئة مثلها» (الشورى: 40). (2) وأما الأحاديث فمنها ما أخرجه الشيخان عن عائشة قالت: ما انتقم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لنفسه من شىء قط إلا أن تُنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. (3) وأما المنطق العقلى فهو أن ترك المتطاولين فيه صغار وهوان على المسلمين يزيد من تطاول أعدائهم. وللحديث بقية.