إن فهم القرآن الكريم فرض واجب. ولا يتم هذا الفرض إلا بتعلم العربية. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولاشك أن الحفاظ علي لغتنا هو حفاظ علي هويتنا العربية الإسلامية يقول الحق سبحانه في شأن القرآن الكريم ولغته: "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" "الزخرف:44". وكان سيدنا عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" يقول: "تعلموا العربية فإنها من دينكم". وتتميز لغة القرآن الكريم بأن كل لفظة أو مفردة من مفرداتها قد وقعت موقعها. حيث يقتضي المقام ذكرها دون سواها أو مرادفها. فإذا جاءت الكلمة معرفة أو نكرة كان لاقتضاء المقام ذلك. وإذا جاءت مفردة أو جمعاً كان ذلك لغرض يقتضيه السياق. وقد يؤثر النص القرآن كلمة علي أخري وهما بمعني واحد. ويختار كلمة ويهمل مرادفها الذي يشترك معها في أصل الدلالة. وما كان للمتروك أن يقوم مقام المذكور أو يدانيه بلاغة لو ذكر مكانه. ومن نماذج ذلك: 1- كلمة "إصلاح" في قوله تعالي: "ويسألونك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم" "البقرة:220". فلو تأملنا هذه الآية جيداً. ونظرنا علي وجه التحديد في موقع كلمة "إصلاح". ثم فكرنا في بدائلها اللغوية ومشتقاتها وما يرادفها. وحاولنا أن نضع أي بديل لغوي رأسياً أو أفقياً في موضعها لوجدنا أن العربية علي عمقها واتساعها عاجزة عن أن توافينا أو تمدنا بكلمة يمكن أن تقوم مقام كلمة "إصلاح" في هذا الموضع. فالإصلاح أمر جامع لما يحتاج إليه اليتيم. فقد يحتاج إلي المال فيكون الإصلاح براً وعطاء مادياً. وقد يحتاج إلي من يتاجر له في ماله أو من يقوم علي زراعته أو صناعته فيكون الإصلاح هو القيام بذلك. وقد لا يحتاج اليتيم إلي المال. إنما تكون حاجته أشد ما تكون إلي العطف والحنو والإحساس بالأبوة. فيكون الإصلاح إشباع ذلك عنده. وقد يكون الإصلاح في تقويم زيغه أو اعوجاجه. فقد جاء أحد الناس يسأل النبي "صلي الله عليه وسلم": مم أضرب يتيمي؟ فقال "صلي الله عليه وسلم": "مما كانت ضارباً منه ولدك". فالنبي "صلي الله عليه وسلم" يطلب من السائل أن يعامل اليتيم معاملة ولده. فينظر إلي ما يصلحه ويقومه ويشد عضده. ومن هنا تلتقي البلاغة النبوية في إيجازها ووفائها بالمراد مع النص القرآني. وإن كان الحديث النبوي قد ركز علي جانب واحد من جوانب الإصلاح. وهو التأديب والتقويم. فإن الإصلاح في النص القرآني هو الكلمة الجامعة لما يحتاج إليه اليتيم وما يصلحه. 2- كلمة "بحرب" في قوله تعالي: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" "البقرة:278-279". فكلمة بحرب هنا وقعت موقعاً لا يمكن لأي بديل لغوي أن يقوم مقامها فيه. فهي المعادل اللغوي الأنسب والأدق. القادر علي ردع النفوس المتعلقة بالمال. القابلة للربا أو المتحايلة عليه. فتعلق بعض الناس بالمال. وبخاصة الكسب السهل السريع عن طريق الربا لا يردعه إلا علم هؤلاء بأنهم إنما يحاربون الله ورسوله. وهي حرب معلومة النتائج. مدمرة لمن يتعدي حدود الله أو يخرج علي شريعته. وقد سئل سيدنا عبدالله بن عباس: "أي آية في كتاب الله أشد؟ فقال لقد قرأت ما بين الدفتين فما وجدت آية في كتاب الله تعالي أشد من آية الربا لقوله تعالي: "إن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله". ويقول نبينا "صلي الله عليه وسلم": "ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله". 3- كلمة "فاستعصم" في قوله تعالي: "ولقد راودته عن نفسه فاستعصم" "يوسف: 32". فكلمة استعصم هي المعادل اللغوي الأدق لتصوير عفة يوسف "عليه السلام". ووقوفه كالجبل الشامخ الأشم في مواجهة إغراء امرأة العزيز له. فهو لم يعتصم بحبل الله فحسب. لكنه استعصم. وإذا كانت زيادة المبني زيادة في المعني فغنه قد قابل زيادة إغرائها تارة وتهديدها أخري بمزيد من الاستعصام بحبل الله المتين. يقول الزمخشري: إن الاستعصام بناء مبالغة تدل علي الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها. بل إن يوسف "عليه السلام" قد قابل تهديدها له بالسجن بدعائه ربه "عز وجل" أن يصرف عنه كيدهن حتي لو كان ذلك بإلقائه في السجن. حيث قال كما تحدث القرآن الكريم علي لسانه "رب السجن أحب إلَّي مما يدعونني إليه" "يوسف:33". فقد طلب يوسف "عليه السلام" العصمة واستمسك بها في صلابة ورباطة جأش حتي استجاب له ربه. وهو ما يصوره قول الحق سبحانه وتعالي: "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم" "يوسف:34". 4- كلمة "الخاطئين" في قوله تعالي: "يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين" "يوسف:29". يقول النحويون إن جمع المذكر قد يطلق علي جمع المؤنث علي سبيل التغليب. لكن النحويين والأصوليين يتفقون علي أن ما جاء علي أصله لا يسأل عن علته وما جاء علي خلاف الأصل فلابد لخروجه علي هذا الأصل من علة. هنا نقطة مهمة في العدول عن صيغة جمع المؤنث: "الخاطئات" إلي صيغة جمع المذكر: "الخاطئين". ذلك أن الأصل في المرأة أن تكون مطلوبة وأن تكون معززة. وأن تكون ممنعة. وأن تكون متأبية. والمرأة العربية الأصيلة تمتدح بالإباء والتمنع. والأصل في الرجل أن يكون خطاباً وطالباً ومتودداً وفق شرعة الله ومنهجه. فهي التي طلبت. وهي التي راودت. وهي التي هيأت فلما فعلت ذلك جاء التعبير اللغوي علي خلاف الأصل ليناسب حالها المعكوس. وكأن النص القرآني يلفت أنظارنا إلي أن ما كان من امرأة العزيز هو خلاف ما تقتضيه الفطرة الإنسانية النقية. فكان التعبير بلفظ الخاطئين هو المعادل اللغوي الأنسب والأدق لما كان من امرأة العزيز.