مكث الاستعمار البريطاني في السودان سبعين عاما فعمد علي فصل الجنوب عن شماله فأصبح الجنوب منطقة مقفولة ومعزولة عن الشمال تماما وصبغوه بالصبغة البريطانية من ثقافة ولغة وتقاليد بينما انفتح الشمال علي الدول العربية كمصر والشام وبقية الدول العربية فأخذ منهم الثقافة والمصير المشترك ورغم عزل الجنوب عن الشمال فإن الجنوبيين المسلمين احتفظوا بدينهم الإسلامي لأن الفضل يرجع إلي الشماليين الموجودين في الجنوب آنذاك كالموظفين والمعلمين والجنود والتجار والقضاة بالمحاكم الشرعية ومشايخ الطرق الصوفية وفي عام 1956 رحل البريطانيون من السودان وسلموا السلطة للشماليين لأنهم الأقدر والأجدر لحكم البلاد فجاء الجنوبيون إلي الخرطوم بأعداد كبيرة لمشاركة اخوانهم الشماليين في الحكم ولكن حدث تنافر غريب بينهم بسبب عوامل كثيرةمنها جهل الجنوبيين للغة العربية والعادات والتقاليد واللون والتوجه الديني والفوارق الاجتماعية بصفة خاصة فتجاهلوهم وملأوا الشواغر التي خلت برحيل الانجليز وهام الجنوبيون في شوارع الخرطوم اياما حياري يتخبطون بعد أن فقدوا الأب الروحي لهم وهم الانجليز وشعروا أن الشماليين غدروا بهم وانفردوا بالحكم وحدهم فأضمروا في قلوبهم شرا ورجعوا إلي الجنوب لتنفيذه فقرروا إبادة أي عنصر شمالي في الجنوب واتفقوا أن يكون التنفيذ في توقيت واحد بالمديريات الجنوبية الثلاثة أعالي النيل الاستوائية بحر الغزال فقامت قبيلة اللاتوكا من حامية توريت بتنفيذ أول مذبحة ضد الشماليين عبارة عن إبادة عشوائية لكل شمالي في الجنوب وجاء رد الفعل من حكومة الخرطوم سريعا وحاسما لكنه بدون حكمة وعالجوا الخطأ بالخطأ فأرسلوا جيشا جرارا إلي الجنوب لينتقموا من الجنوبيين فسقط ضحايا من الجانبين واستمر تهور الحكومة بإرسال أعداد كبيرة من الجيش لقمع المتمردين الذين اتخذوا من جبل بوما قاعدة لهم فانضم اليهم طلاب المدارس والموظفين والعمال والممرضين بالمستشفيات ورجال البوليس والجيش وفي داخل مدينة جوبا فرضوا الاتاوات علي التجار شهريا لتمويل جيش التمرد الذي تعاطف معه قادة الدول الأفريقية المجاورة فمدوهم بالمال والسلاح وكان الامبراطور هيلا سلاثي امبراطور اثيوبيا من أكثر الذين ساعدوا الجنوبيين في حربهم مع الشمال وبمرور الأيام أخذت الحرب أبعادا خطيرة بالمفاهيم لأنها تحولت إلي حرب بين العنصر الزنجي والعنصر العربي الذي يمثله الشماليون ثم تحولت إلي حرب بين المسيحية والإسلام بالإضافة إلي الكراهية وعدم الثقة بين الطرفين فماتت مشاريع التنمية في الجنوب الذي فقد أبسط مقومات الحياة فلا توجد مدارس ولا مستشفيات لعلاج المرضي ولا مصانع للأيدي العاملة رغم الثروات الهائلة التي توجد في جنوب السودان وحجة الخرطوم دائما أنهم لا يستطيعون بناء التنمية في الجنوب بسبب الحرب التي تدور هناك ولكن في الحقيقة انهم تعمدوا عدم بناء التنمية في الجنوب وجعلوه كما مهملا وكانوا يعتقدون أنهم قادرون علي إخماد التمرد في أي لحظة فازداد التمرد شراسة وقوة بقيادة الزعيم زقري جادين الذي وجد الدعم الكبير من قادة الدول الأفريقية ومن أهم العوامل التي ساعدت علي استمرار الحرب هو التكتيك الناجح للمقاتلين الجنوبيين وهم دائما يحاربون في موسم الخريف حيث الطبيعة الوعرة التي تعوق تقدم الجيش الحكومي من كثرة الأمطار والوحل والغابات الكثيفة وحيواناتها المفترسة والوباء الذي يفتك بأفراد من الجيش السوادني دائما وجاء بعد الزعيم قدري اقري جادين القائد المعتدل والمحبوب عند الشماليين وليم دينق نيال فكان وحدويا ينادي بالمساواة بين الشمال والجنوب في الحقوق والواجبات وتقسيم الثروات بالعدل وكان يقوم بزيارات كثيرة للخرطوم ويتفاوض مع المسئولين بخصوص المساواة في الحقوق والواجبات ورغم اقتناع الخرطوم بأفكاره الصائبة لكن الفوارق الاجتماعية بين الشمال والجنوب وقفت حائلا دون تحقيق رغبة ذلك القائد الذي أوصل قضية جنوب السودان إلي المجتمع الدولي فتفاعل معها بقوة وضغطوا علي الفريق إبراهيم عبود لتحقيق مطالب الجنوبيين فطرد كل بعثات التبشير الموجودة بالسودان اعتقادا منه انها تساعد المتمردين فازدادت عليه الضغوط حتي خلعه الشعب السوداني بانتفاضة كانت حديث العالم كله واراد القائد وليم دينق نيال أن يكون زعيما للجنوبيين بطريقة ديمقراطية فجرت انتخابات عامة وبعد أن أدلي بصوته في دائرته بمسقط رأسه وفي أثناء عودته تربص له مجهولون في الطريق فأردوه قتيلا في ظروف مازالت غامضة حتي اليوم وبلغت الحرب ذروتها فاحتل المتمردون مدينة الكرمك البوابة الشرقية للسودان وذات الأهمية الاستراتيجية واحتلوا مناطق هامة في جبال النوبة وفي أوائل الثمانينات من القرن الماضي فتحت مصر أبواب فرص التعليم للطلبة الجنوبيين وقدمت اليهم المنح السخية فالتحقوا بكل الجامعات والمعاهد المصرية فرجعوا إلي وطنهم رجالا مؤهلين ونافعين وهذا هو دور مصر الثابت مع كل الشعوب لأنها تعطي ولا تأخذ. وكان الزعيم جون قرنق دي مابيور ومعه سلفا كير يعملان في رئاسة القوات المسلحة بالخرطوم ومعهما آخرون من رفاقهما فتمردوا وذهبوا إلي الادغال ونصب جون قرنق نفسه زعيما لجيش الجنوب ونال ثقتهم ووحد كلمتهم واستطاع بشخصيته القوية أن يقنع المجتمع الدولي بقضية جنوب السودان فتوالت الضغوط علي البشير من كل الاتجاهات بسبب تصرفه الخاطئ في مشكلة دارفور ففرضوا عليه حصارا اقتصاديا عالميا واجبره المجتمع الدولي أن يجري مفاوضات مع جون قرنق لاتفاقية سلام تنهي الحرب الطويلة بينهما فاضطر إلي إجراء مفاوضات مع الجنوب طويلة وشاقة تعرضت للانهيار مرات كثيرة لكن التنازلات التي قدمها البشير ساعدت علي نجاح المفاوضات برعاية المجتمع الدولي نتجت عنها اتفاقية نيفاشا التي أعطت أهل الجنوب حق الاستفتاء بعد 6 سنوات وتركوا لهم حرية الاختيار بين الانفصال أو الوحدة مع الشمال وفجأة خطف الموت القائد جون قرنق في ظروف غامضة فآلت المسئولية الي سلفاكير وجاءت الفرصة الذهبية إلي حكومة الخرطوم لكنهم اضاعوها فكان من المفروض أن تنقل حكومة الخرطوم كل الامكانيات المطلوبة إلي جوبا وتبدأ في بناء مشاريع التنمية خلال السنوات الستة فترة الاختبار حتي إذا جاء موعد الاستفتاء يقتنع الجنوبيون بالتنمية التي بناها اخوانهم الشماليون عمليا وفي هذه الحالة يختارون الوحدة بنفس راضية وقناعة تامة ولكن حكومة الخرطوم فوتت هذه الفرصة الذهبية وخلقت مشكلة معقدة مع الجنوب هي النزاع في منطقة ابيي التي رفعوا أمرها إلي محكمة العدل الدولية وقبل موعد الاستفتاء بشهرين ارتكبت حكومة الخرطوم حماقة كبري عندما احتلت منطقة ابيي وكان احتلالها لابيي هي القشة التي قصمت ظهر البعير وفهم الجنوبيون أن احتلال ابيي يهدف إلي ضرب عملية الاستفتاء حتي ينشغلوا ويفكروا في استعادتها من الشماليين فتضيع عملية الاستفتاء لكن القيادة في الجنوب أرجأت مشكلة ابيي إلي ما بعد الاستفتاء وساعد ذلك علي رغبة كل الجنوبيين في الانفصال وصوتوا له بالدرجة الكاملة وجاء قادة دول العالم إلي جوبا للاحتفال بهذه المناسبة فاضطر الرئيس البشير أن يأتي إلي جوبا ويرفع علم دولة جنوب السودان اعترافا منه كدولة مستقلة ذات سيادة وقامت دولة الجنوب وسط ظروف صعبة ووجد سلفاكير نفسه أمام مسئولية كبيرة .ورغم هذه الصعوبات فإن شعب الجنوب قادر علي اجتياز هذه المرحلة الصعبة وان المستقبل المشرق ينتظر الجنوب وأهله فإذا كان العدل ظلم الجنوبيين كل هذه السنوات الطويلة فإن الواقع الذي يعيشون فيه حاليا قد أنصفه بدرجة ممتاز. أخيرا التحية لكل رجال سفارة جنوب السودان بالقاهرة علي اخلاصهم في العمل وأسلوبهم الراقي والمهذب مع كل أبناء وطنهم بالمعاملة الطيبة والتوجيه السليم وتسهيل كل الصعوبات وهم بذلك يعكسون الوجه الحضاري والثقافي لدولة جنوب السودان فالتحية إلي السفير جون ونائب السفير جون بوقو والقنصل العام السيد أشرف والاستاذ محمود حسن سرور الدينكاوي وبالاستقبال السيد وليم والسيد كوال.