يدخل الناس السجن في بلادي لغير أسباب.. أحياناً من باب العتاب.. عرفته جميع الفصائل السياسية ومختلف الأعمار. ويفلت اللصوص! لا بأس. فذلك هو "عشم" الحاكم في رعاياه.. والسجن علي أي حال تأديب وتهذيب. وقطع لسان! يتميز في بلادنا بأنه لا يحتاج إلي محاكمة. وأنه بطعم الإهانة والعذاب. ألا يكفي الحبس وراء الأسوار. فيتركون لأسيرهم أدني حد للحياة الآدمية. كانت أول دهشتي عند دخولي "مزرعة طرة" أن النوم علي الأرض والمخدة جزمة قديمة. وشرب الشاي من الجردل.. فلما تعودت وتأقلمت من أول ليلة. أزعجني أنني لا أملك حرية فتح الباب من الداخل.. السجان وحده له الحق إذا شاء. في حوار مع "يوسف إدريس" وقد اعتقل رحمه الله بعض الوقت تطرق الحديث عن الحريات مع الفنان التشكيلي "محسن شعلان".. وهو محبوس حتي اليوم.. كان "يوسف" يشهد معرضاً للوحات "محسن".. فسأله: يعني إيه حرية؟!.. قال كلاماً كثيراً عاماً كله فلسفة.. ولكن يوسف أجابه بكلمة واحدة: الحرية هي أكرة الباب التي لا تمتلك فجأة تحريكها بيدك أو بإرادتك.. شيء بسيط لا يخطر علي بال مَن لم يفقد حريته. أما المحظوظ الذي يذهب إلي المحكمة فأزمته هي القفص. دخلته مرة بعد أن فوجئت بحكم شهور وكفالة تسمح بالاستئناف في قضية مرور لم أرتكبها.. لم يسألني أحد. حتي يصدر الحكم غيابياً.. طمأنني صديقي الأديب والمحامي "صبري العسكري" بأنها براءة من أول جلسة. ولكن لابد من حضوري. وقد طلب من قاضي الجلسة أن يعفيني من دخول القفص.. ولكني ما أن دخلت باب المحكمة حتي أخذوني بخشونة لأدخل مع المتهمين والمتحفظ عليهم. فلا تتاح لهم فرصة الهرب.. زملائي معظمهم لصوص. وبعضهم هيئته لا تبعث علي الاطمئنان. والزحام يكاد يخنق الأنفاس. لم أكن قد شاهدت بعد "حسني مبارك" ورجاله الأكابر خلف أقفاص مكيفة الهواء.. كلها تصلح لحديقة الحيوانات. قبله وبعده وقف رؤساء ومشاهير في القفص يلقون من الإهانة أكثر مما ينتظرهم من أحكام. لست أدري لماذا يتصرف جنود الحراسة والمخبرون بكل تلك الكراهية للآخرين. مع أنهم مطحونون مثلهم؟!.. من أين تعلموا القسوة إلي هذا الحد. إن لم يكن فعدم المبالاة بمشاعر الآخرين وهم إخوتهم. ألا يمكن السيطرة داخل جدران المحكمة بغير قيود وأقفاص. أم أنه إمعان في الإذلال؟! لعل أحداً من الأشاوس عندنا وعندهم يسمع. ولا أقول يعجب. بقرار وزير العدل اللبناني بإلغاء قفص الحيوانات واستبداله بحجرة زجاجية ضد الرصاص؟! قرأت بالصدفة مقالاً عن بلدة في "بوليفيا" بأمريكا اللاتينية. تحولت إلي سجن كبير. يعيش السجناء مع أسرهم. ويمارسون حياة عادية فيها مطاعم ومتاجر. بل وفندق يستقبل السياح الذين تستهويهم التجربة. في "البلدة السجن" طبقات. إذ يقيم ميسورو الحال في زنزانات هي في الواقع غرف مريحة مزودة بحمام ومطبخ وتليفزيون.. وأحياناً "جاكوزي".. لكن كل بثمنه. إيجاراً. وتمليكاً لمن تطول سنوات سجنه. تحولت السياحة إلي شراء مخدرات يتقن بعض السجناء صناعتها. ويبيعونها للأجانب. فصدرت أوامر بمنع السياحة إلي سجن "سان بيدرو" المفتوح.. وتلك قصة أخري غير أكرة الباب في الزنزانة وقفص القرود في المحكمة!