إنه الكرسي.. من أجله يدوس الصديق علي صديقه. ويقطع الابن رقبة أبيه. ويشرب الأخ دماء أخيه في كوب أنيق مع مكعبات الثلج وشرائح الليمون. ساحر جذاب. في فلكه يدورون. ولمجاله المغناطيسي ينجذبون.. لا فرق هنا بين كرسي رئيس دولة. أو رئيس وزارة أو وزير أو رئيس شركة أو حتي رئيس مطعم أو فرن أو ورشة.. الجميع في عشقه. والفناء من أجله يتبارون ويخططون وللمكائد والدسائس والفتن يدبرون. فالكل يعتقد أنه الأحق. وأن الكرسي واسع علي من فيه وأنه وحده الذي يستحقه لأنه علي مقاسه وأن خراط الكراسي قد خرطه من أجله وحده. هنا فتش عن السلطة وجنون العظمة.. فالسلطة لها بريق ونار ونور. تجذب الباحثين عنها مثلما تجذب النار الفراشات.. من يسعي للرئاسة قد يتفنن في قتل الرئيس السابق باستخدام آلاف الباترونات والكتالوجات التي تم تنفيذ بنودها مع عشرات رؤساء سابقين راحوا في شربة عصير أو سم مدسوس في الثقة العمياء. والاطمئنان المفرط في حرمة العيش والملح. كثيرون من فرط شبقهم للكرسي واشتياقهم لسحره "يلسعون ورؤوسهم تجيب زيت"لدرجة أنه يعيش الدور بعقله الباطن طالما أنه لم يتمكن أن يعيشه في الواقع.. فيتصرف وكأنه مسئول. وألف باء مسئولية هي نظرية التركي الذي يتحكم في القلل. فيصر أن يعذب العطاش ويتحكم فيهم بأن يقول اشرب من هذه ولا تشرب من تلك. ولذلك نجد أن معظم المتعطشين للسلطة عندما يلسعون وتهرب منهم رؤوسهم يقفون في الاشارات وينظمون المرور. إذ كل همهم أن يحركوا الناس.. باشارة منهم يتوقفون. وبأخري يتحركون يميناً أو يساراً. لو ذهبت إلي سيدنا الحسين ستجد أحد ضحايا السلطة يعيش دور لواء شرطة.. ولأن الرجل "دماغه في الكازوزة" فقد حرص علي أن يزين أكتافه بأغطية زجاجات المياه الغازية وريش الديك الرومي وراح يسير منتفخاً. يمشي في الأرض مرحاً رأسه تناطح السحاب وكتفاه تبلغان الجبال طولا. ولأن كل "فولة ولها كيال". فكل مجنون وله تابعوه والمؤمنون بأنه من الفاتحين الملهمين. ولذلك فإن الأغرب من لواء الشرطة الذي يعيش الدور ورأسه في الطراوة. هو وجود شخص يسير أمامه لكي يفسح له الطريق ويقول للناس في صرامة "وسع أنت وهو لسيادة اللواء"! الطريف أن معرضاً لكراسي الحكم يقام كل عام في مدينة "ايندهومن" الهولندية. تعرض فيه كل أشكال وأنواع كراسي السلطة بدءاً من كرسي رئيس مجلس الإدارة ومروراً بكرسي الوزير ورئيس الوزراء وحتي كرسي الرئيس. مع المعرض توجد كتب وسيديهات تتحدث عن الكراسي وأنواعها وسحرها والأحداث التاريخية التي ارتبطت بها. وكيف أن الكرسي له سحر وبريق ومن يجلس عليه مرة لا يتركه بالمرة لأنه يلتصق به ويتوحد معه حتي يصبح جزءاً منه. ولذلك من أجله دارت دسائس ونشبت معارك. وفي ذات الوقت اتخذت منه قرارات حرب ومعاهدات سلام. بعض الحكام يخافون إذا تركوا الكرسي عند النوم أن ينقض من يخطفه أو يستيقظ مبكراً لكي يجلس عليه ويأخذ الحكم والعرش.. والبعض يخاف أن تسكنه العفاريت فيهتز المقعد من تحت الحاكم فيتشاءم لأن تلك من علامات الانهيار. ولذلك فإنه في بعض الدول الأفريقية تذبح الذبائح وتقدم القرابين حول الكرسي. وفي الليل وعند غياب الملك أو الحاكم توضع علي مقعده تعويذة تمنع جلوس الشياطين عليه. ومعظمنا بالتأكيد رأي أو تابع وعاش مع بعض هؤلاء المسئولين سواء علي مستوي رئاسة دولة أو شركة أو صحيفة.. فالناس دائماً يحترمون ويقدسون الجالس فوق الكرسي. ومن فرط الدوران فلكه والتهليل والتصفيق له صدق أنه أحد الأصنام أو آلهة العجوة الذي يتعبد من حوله في محرابه.. زاد علي ذلك أن أذنيه وكل خلايا جسده أدمنت النفاق وصار يهرش إذا غابت عنه الجوقة والزفة ولو حتي في الساعات القليلة التي يغيبها عن الكرسي لمجرد الراحة في البيت مع أولاده. لذلك بدأ يختصر رويداً رويداً من ساعات ابتعاده عن مكتبه وقرص الشمس الذي تتعامد أشعتها علي جسده طوال ساعات النهار لكي تباركه وتطرد الأرواح الشريرة من محيطه.. يوماً بعد يوم أصبح آخر من يغادر المكان وأول من يحضر إليه. لأنه لم يعد يطيق أن أن تفوته دقيقة نفاق واحدة. مثل هؤلاء لا يتخيلون أبداً أن يجيء الزمان الذي يمكن أن يتركوا فيه المكان. لذلك تكون الصدمة النفسية والعصبية إذا تركوا. وقد يصل الأمر إلي حدود العباسية والخانكة وكل أشكال السرايات صفراء وخضراء وحمراء. لأنه اندمج وندهته النداهة وقطع تذكرة في اتجاه اللاعودة. لذلك لا يصدق أن يجيء اليوم الذي سيعود فيه لمرحلة ما قبل الكرسي. قليلون بالطبع هم الذين يدافعون عن المبدأ قبل الدفاع عن الكرسي. وما الكرسي بالنسبة لهم إلا رمز ومعني. وبالتالي فهم يحاربون ويتمسكون. ليس من أجل الكرسي. وإنما لأنهم عاهدوا أنفسهم ألا تلين لهم قفاة وألا يخشوا في الحق لومة لائم وأن يظلوا قابضين علي جمر المباديء حتي آخر نفس. لكن هؤلاء أيضاً لا يصمدون ولا يستمرون لأن الشحن في بطاريات بقائهم يضعف يوماً بعد يوم. وأيضاً لأن من حولهم ينفضون عنهم ويلتفون حول آخر.. أشرقت الشمس وتعامدت أشعتها علي وجهه. وذلك عملاً بنظرية "البقاء للكرسي والبقاء لله فيمن تركه". فتش عن الكراسي.. تتعدد الأسباب.. تختلف المواقف والمواقع والمواضع لكن حب الالتصاق بمقاعد السلطة واحد.. الكرسي دائماً هو البطل.. من أجله يحيا البعض ويولي وجهه شطره ويضبط بوصلته عليه.. ونادرا ما نجد من يجلس عليه ويخرج يقبل يديه ويسجد لله شكراً لأنه دخل بسلام وخرج بأمان وغنائم لا حصر لها أهمها محبة الناس. وعدم الافتتان بالكرسي أو الالتصاق به. فقد كانت عيناه دائماً مركزتين علي باب الخروج وليس علي أبواب الدخول. وكان دعاؤه: اللهم أحسن مخرجي وعافني مما ابتليت به غيري.