عندما اندلعت الثورة المصرية في يناير الماضي كنت قد أكملت الثلاثين من العمر لم أشاهد خلالها رئيساً لمصر سوى محمد حسني مبارك الذي أتذكره جيداً وهو يجوب البلاد عبر القطار لتحية الجماهير التي اصطفت لترحب به تحت شعار "بالروح بالدم نفديك يا مبارك". كنت واحداً من بين الناس الذين اصطفوا بطول شريط السكة الحديد بأحد مراكز الصعيد لتحية الرئيس، لم أكن أعرف ماذا تعني كلمة الرئيس أو لماذا يحب الناس الرئيس أو لماذا يتملقون إليه؟، كنت طفلاً منذ رأى الدنيا وحتى بلغ الثلاثين من العمر وهو يشاهد صوراً للرئيس في الشوارع والميادين وعلى صفحات الجرائد وشاشات التلفزة وفي الكتب المدرسية، وكأنما مجّده الناس أو ألّهوه!! قبل قرون كان رئيس مصر هو الفرعون الذي أغرقه الله ومن معَه في البحر لأنه قال لشعبه: "أنا ربكم الأعلى"، و"استخف قومه فأطاعوه"، وقبل 25 يناير لم يكن مبارك في عيون شعبه سوى ديكتاتور مستبد استباح خيرات البلاد وأورثها بنيه. من المعروف عن مبارك أنه من أسرة متوسطة كان حسن السمعة وتدرج في المناصب حتى أصبح قائداً للقوات الجوية وجمعت الأقدار بينه وبين الرئيس الأسبق محمد أنور السادات فجعله نائباً له. مبارك بدا خلال العشر سنوات الأولى من عهده قادراً على تخطي العديد من العقبات على رأسها ملف طابا والنفور العربي لبلاده جراء معاهدة السلام مع إسرائيل، ثم بدت الأمور أفضل إذ عاد مقر جامعة الدول العربية لتحتضنه القاهرة بعدما نبذها العرب فحولوه إلى تونس. مبارك كان يعلم أن في المنطقة العديد من الأعداء وأن الصراع لم يأت فقط من الخارج ولكن أيضاً من الداخل، فالجماعات الإسلامية أشعلت صراعاً فاق المتوقع في تسعينيات القرن الماضي بعدما اعتبروا أن حمل السلاح واجب شرعي لإسقاط نظام قام بالتطبيع مع إسرائيل. وبعد اتفاقية نبذ العنف في عام 1997 والتي قادها حبيب العادلي الذي كان على رأس مباحث أمن الدولة ثم تولى وزارة الداخلية فعقد الاتفاق واستقر الجانبان على أن تتفرغ الجماعة للدعوة ولا تعود إلى رفع السلاح، ثم تغير المصريون من مجتمع لم يكن للحجاب فيه وجود إلا نادراً إلى مجتمع محافظ وفي زمن قياسي. علاقة مبارك بالتنظيمات الإسلامية وبرغم كونها عدائية إلا أنها كانت مطروحة للنقاش مع السلفيين والجماعة الإسلامية ولكنها تعاطت بحذر شديد تجاه جماعة الإخوان المسلمين. وعلاقة مبارك بشعبه لا تتعدى كونها علاقة الرئيس الذي صنع منه شعبه فرعوناً جديداً بعد مقتل سلفه السادات، وانتشار الفساد بهذا الحجم الهائل على مدى العقدين الماضيين يعني أن هناك خللاً أخلاقياً في النظام الاجتماعي فالفساد لم يقتصر على الرئيس أو رجاله ولكنه نال من قلب المجتمع فحوّل مصر إلى مجتمع رأسمالي يرتدي عباءة الإسلام. بعد اتفاقية نبذ العنف، يبدو أن مبارك اطمأن إلى جلوسه على العرش لسنوات قادمة فأهمل الناس وبدأ بتصعيد نجله جمال إلى السلطة وبات الأخير قريباً منها ولكن قوى المعارضة كانت أقوى منه لأنها حرّضت الشارع ثم عبّرت عنه فنجح الجميع في إسقاط نظام الحكم وتنحى الرئيس في 11 فبراير 2011 بمباركة الجيش المصري والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. تنحي مبارك لم يكن بالحدث البسيط ولكنه كان كما وصفه جون ألترمان مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بالولاياتالمتحدة ب "الزلزال" الذي اهتزت ولا تزال تهتز له المنطقة بأسرها، قائلاً: "برغم من أن مصر فقدت منذ أمد بعيد عباءتها كقائد للعالم العربي، إلا أنها لا تزال تمثل بكل تأكيد مركز جاذبيته، والوضع الذي سيؤول إليه المشهد السياسي- الذي يسوده عدم اليقين - سيشكل العقود المقبلة". وقال ألترمان "إنه في حال تغير السياسة المصرية وتبنيها نهجاً مختلفاً، فهذا سيعيد هيكلة البيئة السياسية من المغرب إلى الخليج، وعدائية مصر ضد الولاياتالمتحدة ستجبر الدول الأخرى على إعادة موازنة علاقتهم معها، وتردد مصر في مناوشة إسرائيل سيدفعهم لإعادة التفكير في موقفهم مع الدولة العبرية". ومضى ألترمان يقول "إن مغادرة الرئيس مبارك المفاجئة من المشهد السياسي خلفت وراءها فراغاً، يخشى العرب أن يملأه شخص عدائي يعارض مصالحهم، وهنا تظهر عدم وحدة الدول العربية، وإذا ما صدق المرء ما يقال في شوارع القاهرة، فسيكون القطريون وراء جماعة الإخوان المسلمين، والسعوديون يدعمون السلفيين، والإسرائيليون راضين عن الجيش وفلول الحزب الوطني، وهلم جرا، ورغم أنه لا يوجد تقييم واضح للجهة التي يؤيدها الإيرانيون، إلا أن الاعتقاد السائد هو أنهم يسعون لتحقيق مصالحهم". لقد كان مبارك محنكاً سياسياً لكنه أهمل شعبه منذ عام 1995 فسقط وشاهده العالم خلف قفص يدافع عن نفسه وتولى الجيش زمام الأمور بقيادة مجلس عسكري على رأسه المشير محمد حسين طنطاوي وزير الدفاع بحقبة مبارك، وتوالت التحديات وانتشرت أعمال العنف والبلطجة وسط حراك سياسي تهتز له المنطقة بأسرها فالثورات تندلع في ليبيا وسوريا واليمن وتونس، كما أن حركتي فتح وحماس وقعتا اتفاقية مصالحة فيما توجه رئيس السلطة الفلسطينية إلى الأممالمتحدة لطلب عضوية كاملة لبلاده التي اغتصبها المحتل الصهيوني، وفي الخارج هناك أزمة اقتصادية تعصف بأمريكا وأوروبا وربما بالعالم أجمع. ثبات السلطة في مصر في هذه الظروف الحرجة ضروري ولكن وفقاً لعلاقة واضحة بين المجلس العسكري وبين الشعب، أما الارتكاز إلى بعض القوى السياسية فإن ذلك سيؤدي حتماً إلى وقوع كارثة لأن الشارع لديه آمال عريضة في مستقبل أفضل على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. قانون مجلس الشعب الأخير يشير إلى اعتراف سياسي بقوة الإخوان المسلمين في مواجهة فلول الحزب الوطني المنحل لا تزال تعبث بمصر، واقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة يقول إن الصراع على السلطة في مصر تجاوز الحدود وأصبح يستبيح أمن مصر للضغط على المجلس العسكري لتنفيذ مطالب سياسية تختص بالبرلمان، وهذا لا يبشر بالخير لأنه وبرغم ملايين المصريين الذين لا حديث لهم سوى عن الثورة فهؤلاء تختلف رؤيتهم لها وفقاً لواقع المعيشة، فالفقراء وهم الأغلبية الكاسحة من الشعب إذا ما شعروا بأن الثورة لم تجن لهم منفعة فإنهم سينتفضون ضد الغلاء والإهمال. المشير يتجول بالزي المدني في قلب العاصمة أسعدتني كثيراً رؤية المشير طنطاوي بالزي المدني خلال جولته المفاجئة إلى وسط القاهرة ولكنها ليست في الاتجاه الصحيح، فالناس بحاجة إلى المزيد من الشفافية وغيابها يعني أن المجلس العسكري نفسه ليست لديه رؤية سياسية شاملة للمستقبل وأنه ينتظر ما ستؤول إليه الأحداث في المنطقة حتى يسلم السلطة. تشير المصادر إلى أن المشير كان عائداً من مناسبة عائلية خاصة وانتهز الفرصة للتعرف على مشاكل المواطنين ومشاهدة الوضع الأمني على الطبيعة، وأن الجولة ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بجس نبض الشارع بشأن ترشح المشير أو أي مسئول عسكري لرئاسة الجمهورية. استمعنا إلى العديد من التفسيرات الساذجة وإلى عدد من التعليقات التي لا تخلو تماماً من عنصر الأخلاق بشأن جولة المشير، ولعل أبرزها ما كتبه بلال فضل وعمر طاهر عبر صفحتيهما على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، وهذا هو المعتاد من تجار السياسة فإذا طلب المشير الاجتماع مع أحدهم فسيكون رجلاً ديمقراطياً أما إذا رغب في النزول إلى الشارع والتحدث مع البسطاء من عامة الشعب فإنه محط سخرية. الوضع الأمني الخارجي لمصر يبعث على القلق في ظل الثورة السورية واحتمال التدخل الأجنبي لإسقاط نظام بشار الأسد وهو ما سيشعل صراعاً في قطاع غزة بدأ الإعداد له مبكراً وطرفاه هما حركات المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، وفي الشرق هناك ثورة ليبية وحدود ممزقة وفي الجنوب دولة انقسمت إلى دولتين وبدأت حربها الأهلية. مطالب الثورة في مصر محددة من قبل الشارع وهي " حرية.. كرامة.. عدالة اجتماعية" ويجب العمل بقوة لتحقيق ذلك وإذا ما فشلت حكومة الدكتور عصام شرف في تلبية مطالب الشعب فعليها أن ترحل لأن المجلس العسكري يجني أخطاءها، فمن سلبيات الثورة أنها جعلت المصريين يلقون باللوم على رأس الدولة في كافة الأمور وقليلون هم من سيتعاطفون مع المشير لرؤيته يمشي بين عامة الشعب. رحل مبارك بعدما أفسد السياسة المصرية والشعب الآن مجتمع على ضرورة وحدة الجيش وأن تكون مهمته الأساسية هي الدفاع عن أرض مصر وليس من مهامه أن يكون بديلاً للشرطة في الشارع، ولكن الشعب في الوقت نفسه لديه تطلعات وآمال كبيرة يجب الالتفات إليها ومناقشتها من قبل الحكومة. الصراع القائم بين القوى الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمون وبين القوى اليسارية وفلول الحزب الوطني سيتطور في ظل قانون مجلس الشعب الجديد لتواجه مصر أعمالاً شبيهة بما حدث خلال الفترة الأخيرة وبالتأكيد سيقرر الجيش التزام الحياد وهذا لم يعد يجدي نفعاً فالسياسيون يستغلون فقر الشعب لحشده في الميادين وحثهم على الإضراب والعصيان المدني، والقائمون على السلطة دائماً ما يتحاورون مع السياسيين دون الالتفات إلى مخاطبة الشعب ومصارحته بحقيقة ما يجري على الأرض.