الوصية الرابعة التوكل على الله والاستعانة الدائمة به الحقيقة التى لا مرية فيها أن الله عز وجل له القوة جميعا، وأنه سبحانه هو من يقيم ويبث الفاعلية فى كل شىء: {هُوَ الَّذِى يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئا مهما صغر دون إمداده سبحانه: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَى رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] وهذا هو جوهر ذكر: "لا حول ولا قوة إلا بالله" ومن رحمته بعباده إمدادهم بالفاعلية دون سؤال منهم، ولكن –بلا شك– أن من يستعين به ويطلب مساعدته ويوكل أمره إليه فإنه يعطيه ويميزه على من لم يفعل ذلك.. من هنا كانت الاستعانة بالله والتوكل عليه من أهم أسلحة المؤمنين التى يتميزون بها على خصومهم: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]. ولقد ربط سبحانه إمداده لمن يتوكل عليه بقوة هذا التوكل، فكلما اشتدت حاجة العبد إلى مدد الله، وألح فى طلب المساعدة الكاملة منه سبحانه، واستعان به فى تحصيل طلبه استعانة "العاجز عجزا كاملا" بالقادر "قدرة كاملة" فإنه حينئذ يفتح له خزائنه، يقول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" [الصحيحة: 310] إن حق التوكل على الله يستلزم أن يستبد بنا شعور عظيم بالفقر المطلق والذاتى، وأن الواحد منا طفيلى على الله لا قوام لحياته إلا به، وأنه لا يمكن لنا أن نفعل شيئا بدونه سبحانه، وأن نستشعر كذلك بأنه لو تركنا لأنفسنا لهلكنا كما عبر عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فى دعائه: وأشهدك أنك إن تكلنى إلى نفسى تكلنى إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة وإنى لا أثق إلا برحمتك [رواه أحمد] ولئن كانت هذه الحقيقة كثيرا ما تغيب عن أعيننا خلف ستار الأسباب، فلقد وضعنا الله عز وجل خلال هذه الأحداث الأخيرة فى وضع انكشف فيه ضعفنا وعجزنا أمام أعيننا من غير ستار، خصوصا حينما يهاجم الظالمون الحشود السلمية بآلات القتل، وهم لا يملكون دفعا لأنفسهم، ولا لمن معهم،.. فأى عذر لنا بعد ذلك إذا تجاهلنا هذه الحقيقة؟ علينا إذن قبل القيام بأى عمل فى هذه الأيام وفى كل الأيام أن نستعين بالله ونطلب منه المساعدة الكاملة والتامة فى إتمامه وإنجاحه وألا يتركنا لأنفسنا ولو طرفة عين. ومن أخطر الممارسات المضادة لهذا المعنى والتى قد تتسبب فى تأخير المدد والنصر: الوثوق الذاتى بالنفس وأننا بذواتنا نستطيع أن نفعل كذا، والتحدث عن المستقبل بطريقة وبألفاظ ومصطلحات جازمة مثل "مكملين" و"يوم كذا مرسى سيكون فى القصر" و"6 أكتوبر آخر يوم" "هنحبط الإحباط" دون أن نربط هذا الكلام بمشيئة الله وإذنه، ولا يجوز التعلل بأننا فى وضع يسمح لنا بهذه التجاوزات، فنحن عبيد لله فى كل الأوقات، وإن هذه الطريقة فى الكلام لها مخاطر جمة فى تأخير النصر لأنها تبعدنا عن دائرة إخلاص الاستعانة بالله عز وجل، والإخلاص كما نعلم هو من أهم شروط استجلاب النصر. فعن صهيب رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همس شيئًا لا أفهمه ولا يخبرنا به، قال: أفطنتم لى؟ فقال: إنى ذكرت نبيًا من الأنبياء أعطى جندًا من قومه فأعجب بهم، فقال: من لهؤلاء الجند؟ أو قال: من يقوم لهؤلاء؟ أى من يغلب هؤلاء أعجب بجنده وكثرتهم وقوتهم. فأوحى الله عز وجل إليه أن يختار إحدى ثلاث عقوبات إما أن نسلط عليهم عدوًا من غيرهم، أو الجوع، أو الموت، فاستشار النبى أصحابه فقالوا: أنت نبى الله، كل ذلك إليك، فقام إلى الصلاة، ثم قال: أى ربّ، أما عدو من غيرنا فلا، وأما الجوع فلا، ولكن الموت، فقتل من جنده فى ذلك اليوم سبعون ألفًا. [صحيح أخرجه الإمام أحمد، وأصله فى صحيح مسلم]. ثم بعد أن قص النبى على أصحابه هذه القصة قال مبينا لهم ما كان يهمس به دبر كل صلاة، كان يقول إذا انصرف من صلاته: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)). فكان هذا من أذكاره، إذا انصرف من صلاته، ورأى من حوله من الصحابة، وتعجبه كثرتهم وشدتهم وقوتهم، فكان يتذكر ما حصل لذلك النبى الكريم، فيتبرأ من الحول، ويتبرأ من القوة، ويقرر هذه الحقيقة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول وفى رواية: بك أحول وبك أصول وبك أجادل وبك أقاتل ولا حول ولا قوة إلا بك))، فكان يتبرأ دبر كل صلاة من الحول والقوة إلا بالله. علينا إذن سريعا أن نعيد صياغة ألفاظنا وأن نحرص على صبغها فى الشعارات والأناشيد والكلمات بصبغة العبودية لله، وربط كل أمر مستقبلى بإذنه ومشيئته ومدده وتوفيقه، وأن نعمل على استحضار المعنى الحقيقى للاستعانة والتوكل وممارسته قبل كل عمل، فهو سلاحنا الذى نواجه به مؤامرتهم وكيدهم: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 127، 128].