لكى يستطيع الناس ترتيب أمورهم فى الحياة، فقد جعل الله عز وجل لها نظاما تقوم عليه، وقوانين تسير عليها، وجعل سبحانه هذا النظام يقوم على قانون السببية، بمعنى أن الحصول على النتائج يأتى من خلال استخدام أشياء -مادية أو معنوية- هذه الأشياء لا تُحدث بنفسها أية نتائج، ولكنها سبب وشكل وستار يتنزل عليه المدد الإلهى، فالماء جعله الله سببًا للإرواء، والطعام سببًا للشبع، والنوم سببًا للراحة.. ولكن دون المدد الإلهى المتواصل فلا قيمة لهذه الأسباب، ويُجسّد هذا المعنى بوضوح قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 14-15]. وقول جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم: «بسم الله أرقيك والله يشفيك» [رواه مسلم]. مع الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة كانت تهيمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى كل أموره وأحواله، وكانت تصبغ كلماته وتوجيهاته لأصحابه ولأمته من بعده. فكان صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: «اللهم أنت عضدى، وأنت نصيرى، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» [رواه أبو داود والترمذى، وصححه الألبانى فى صحيح الجامع]. وكان يقول: «إنما أنا مبلغ والله يهدى، وإنما أنا قاسم، والله يُعطى» [رواه الطبرانى، وصححه الألبانى فى صحيح الجامع الصغير]. ويقول: «ما أوتيكم من شىء، ولا أمنعكموه، إن أنا إلا خازن أضع حيث أُمرت» [رواه الإمام أحمد أبو داود، وصححه الألبانى فى صحيح الجامع]. وعندما قال له البعض: يا رسول الله غلا السِّعر، فَسَعِّر لنا، فقال: «إن الله تعالى الخالق، القابض، الباسط، الرزاق، المُسَعِّرُ..» [رواه الإمام أحمد والترمذى وأبو داود، وأورده الألبانى فى صحيح الجامع الصغير]. مع الصحابة رضى الله عنهم فإذا نظرنا لجيل الصحابة -رضوان الله عليهم- نجد أن هذا المعنى كان حاضرا فى حياتهم بشكل أساسى، فهذا أنس بن النضر رضى الله عنه يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلته المشركين، لئن أشهدنى الله قتال المشركين، ليرين الله ما أصنع» [أخرجه البخارى]. وعندما خرج عبد الله بن عتيك فى سرية مع بعض الصحابة لقتل اليهودى أبى رافع -سلام بن أبى الحقيق- فى حصن خيبر، ودخل ابن عتيك الحصن، ووصل إلى أبى رافع وقتله، ثم عاد إلى أصحابه يبشرهم، ويحثهم على سرعة الخروج من المكان إذا به يقول لهم: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع. [السيرة النبوية لعلى الصلابى]. وهذه زنيرة الرومية يعذبها أبو جهل وعمر بن الخطاب -قبل إسلامه- حتى فقدت بصرها، فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزى هما اللذان أذهبا بصرك، فماذا قالت له وهى فى هذه الحال الصعبة التى قد تفتن أقوى الأنفس؟ قالت: «وما تدرى اللات والعزى من يعبدها، ولكن هذا أمر من السماء، وربى قادر على أن يرد بصرى» وبالفعل رد الله بصرها، فقالا: لقد سحرها محمد. وهذه حفصة رضى الله عنها تقول: سمعت عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول: «اللهم قتلاً فى سبيلك ووفاة ببلد نبيك صلى الله عليه وسلم» قالت: فقلت: وأنَّى يكون هذا؟! قال: يأتى به الله إذا شاء. (حياة الصحابة). هل نترك الأسباب؟! ليس معنى أن الله عز وجل هو الذى يبث الفاعلية فى الأسباب، وأنها لا قيمة لها دون إمداده أن نترك الأخذ بالأسباب، ونتجه مباشرة إلى الله عز وجل من أجل الحصول على النتائج، فهذا لا يجوز ولا يصح، لأنه -سبحانه- لو أراد منا ذلك ما خلق الأسباب، وما أمرنا بالأخذ بها، ولئن كانت الأسباب لا قيمة لها دون الله، إلا أنها تُعد بمثابة الستار الذى يتنزل عليه أمر الله وقدره، وعلى المسلم أن يقيم هذا الستار بالقدر المتيسر والمتاح أمامه. ومع أخذ المسلم بالأسباب، وإقامته لهذا الستار إلا أنه لا ينبغى عليه الركون إليها، أو الاعتماد عليها فى حصول النتائج، وإلا تحول هذا الستار إلى جدار يحجبه عن الله. انظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يوجه صاحب الناقة إلى ربطها -كسبب لعدم شرودها- ويوجهه كذلك إلى التوكل على الله فى إنجاح هذا السبب فقال له: «اعقلها وتوكل». [رواه الترمذى عن أنس، وأورده الألبانى فى صحيح الجامع]. وتأمل ما حدث للصحابة وقد نفد ماؤهم وأرادوا الوضوء والشرب فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرونه بذلك.. فماذا فعل عليه الصلاة والسلام؟ طلب منهم إحضار ما تبقى عندهم من ماء، ثم وضع فيه أصابعه الشريفة، فنبع من بينها الماء ليشرب الجميع ويتوضأ. [رواه البخارى وغيره]. فهنا استنفد صلى الله عليه وسلم الأسباب الموجودة، وشكَّل الماءُ القليل «الستار» الذى ينزّل من خلاله المدد الإلهى. فعلينا -إذن- أن نجتهد فى الأخذ بالأسباب المتاحة أمامنا، مع يقيننا بأنها لا تفعل شيئاً بذاتها، فالفاعل هو الله، وإنما نأخذ بها لأننا مأمورون بذلك.