منح الدكتوراه الفخرية للنائب العام من جامعة المنصورة تقديرًا لإسهاماته في دعم العدالة    مصطفى بكري ينتقد تعديل قانون الإيجار القديم: الحكومة دي حاسة بالغلابة؟    رينو تكشف عن Boreal SUV جديدة تستهدف أكثر من 70 سوقًا عالميًا    عهد جديد من النعمة والمحبة والرجاء.. الكنيسة الكاثوليكية بمصر تهنئ بابا الفاتيكان    اجتماع بين الهيئة القومية لسلامة الغذاء المصرية واللجنة الوطنية للمستهلك بجنوب إفريقيا لتعزيز التعاون في حماية المستهلك وسلامة الغذاء    المستشار الألماني الجديد ميرتس يدعو ترامب إلى زيارة ألمانيا    الهند وباكستان تتبادلان الاتهامات بإطلاق النار وسط مخاوف من تصعيد عسكري    عمرو دياب يشعل حفله بالكويت ويعلن موعد طرح ألبومه الجديد (فيديو)    إلغاء حفل مدحت صالح في 6 أكتوبر قبل إقامته اليوم (تفاصيل)    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    في عطلة البنوك .. آخر تحديث لسعر الدولار اليوم بالبنك المركزي المصري    مفاجأة بعيار 21 الآن بعد آخر تراجع في سعر الذهب اليوم الجمعة 9 مايو 2025    كيفية استخراج كعب العمل أونلاين والأوراق المطلوبة    المرور يغلق كوبرى 26 يوليو 10 أيام بسبب أعمال تطوير أعلى شارع السودان بالجيزة    البابا تواضروس يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة رعوية استمرت أسبوعين    أيمن عطاالله: الرسوم القضائية عبء على العدالة وتهدد الاستثمار    سفير باكستان لدى مصر: باكستان دولة مسلمة ولا تقبل العدوان    زيلينسكي: هدنة ال30 يومًا ستكون مؤشرًا حقيقيًا على التحرك نحو السلام    عاجل- مسؤول أمريكي: خطة ترامب لغزة قد تطيح بالأغلبية الحكومية لنتنياهو    موعد نهائى الدورى الأوروبى بين مانشستر يونايتد وتوتنهام    كيم جونغ أون يشرف على تجربة صاروخية ويؤكد جاهزية السلاح النووي    إلى سان ماميس مجددا.. مانشستر يونايتد يكرر سحق بلباو ويواجه توتنام في النهائي    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    الأهلي يتفق مع جوميز مقابل 150 ألف دولار.. صحيفة سعودية تكشف    موعد مباراة بيراميدز ضد البنك الأهلي في الدوري    مؤتمر النحاس: نلعب مباراة كل 4 أيام عكس بعض الفرق.. ورسالة لجماهير الأهلي    خبر في الجول - أحمد سمير ينهي ارتباطه مع الأولمبي.. وموقفه من مباراة الزمالك وسيراميكا    الكشف عن طاقم تحكيم مباراة الزمالك وسيراميكا بالدوري    موجة شديدة الحرارة .. الأرصاد تكشف عن حالة الطقس اليوم الجمعة 9 مايو 2025    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    جامعة المنصورة تمنح النائب العام الدكتوراه الفخرية لإسهاماته في دعم العدالة.. صور    تفحم سيارة نقل أعلى "صحراوي الجيزة"    في اليوم العالمي للحمار.. "بيطري" يكشف استخدامات جلده وأكثر الدول المستوردة    السجن المؤبد ل 4 متهمين قاموا بخطف طفل وطلب فدية 4 مليون جنيه    دراسة: 58% يثقون في المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي    ب«زفة روحية».. تطييب رفات القديس مارمرقس الرسول كاروز الديار المصرية ب«كاتدرائية الإسكندرية»    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    حدث في الفن- انهيار كارول سماحة ونصيحة محمود سعد بعد أزمة بوسي شلبي    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    مطاردات ولغز غرفة الهرم السرية.. طرح الإعلان التشويقي لفيلم "المشروع X"    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    جامعة القاهرة تكرم وزير العدل ورؤساء الهيئات القضائية    منافسات قوية فى الدورى الممتاز للكاراتيه بمشاركة نجوم المنتخب    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    مصطفى خليل: الشراكة المصرية الروسية تتجاوز الاقتصاد وتعزز المواقف السياسية المشتركة    سهير رمزي تعلق على أزمة بوسي شلبي وورثة الفنان محمود عبد العزيز    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. انتخاب الكاردينال الأمريكى روبرت فرنسيس بريفوست بابا للفاتيكان.. إعلام عبرى: ترامب قرر قطع الاتصال مع نتنياهو.. وقيمة عملة "بتكوين" تقفز ل100 ألف دولار    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    «الصحة» تنظم مؤتمرًا علميًا لتشخيص وعلاج الربو الشعبي ومكافحة التدخين    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    انطلاق المؤتمر الثالث لوحدة مناظير عائشة المرزوق في مستشفى قنا العام    محافظ سوهاج يوجه بسرعة استلام وتشغيل مركز الكوثر الطبي خلال أسبوعين    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    نائب وزير الصحة يتفقد وحدتي الأعقاب الديسة ومنشأة الخزان الصحية بأسوان    سبب إلزام النساء بارتداء الحجاب دون الرجال.. أمين الفتوى يوضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الوصايا العشر لاسترضاء الله واستمطار الرحمة والنصر
نشر في الشعب يوم 17 - 11 - 2013

الكون الذي نعيش فيه لا يحكمه في الحقيقة إلا الله عز وجل، ولا يشترك معه أحد في حكمه: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } [الكهف: 26]
وهو وحده الذي يدبر أمر هذا الكون: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]
وعنده خزائن كل شيء: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21]
فالقوة من عنده: {لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] والنصر من عنده: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [الأنفال: 10]
أحاط بكل شيء علما وقدرة وتدبيرا: {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]
نواصي العباد كلها بيده: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56]
ماشاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر: 2]
... هذه الحقائق ينبغي دوام التذكير بها، وبخاصة هذه الأيام، ونحن نعيش في محنة وكرب شديد، لعلها تدفعنا نحو التعلق والاعتصام التام به سبحانه، وعمل كل ما يمكن عمله لاسترضائه، واستجلاب نصره بإذنه ومشيئته، فهو الوحيد القادر على كشف ما حاق بنا من ضر وبلوى: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64]
ولقد كثر الحديث عن الأسباب المادية والوسائل العملية لمجابهة ما حدث من زلزال وانقلاب، ونحسبه حديثا وافيا بعون الله، لكنه يحتاج إلى ربطه الدائم بضرورة الأخذ بالأسباب المعنوية وأعمالها التي لا تقل أهمية – بل تزيد – في استجلاب النصر بإذن الله.
وفي هذه الأسطر سيتم بأمر الله التعرف على أهم تلك الأعمال التي ينبغي القيام بها بصورة عاجلة، والتي من شأنها بعون الله أن تضعنا في الطريق الصحيح للتعرض لنفحات الله ورحماته ونصره وتأييده، وهي على صورة عشر وصايا، علينا أن نجتهد في التحقق بها وبغيرها من الأسباب المعنوية والمادية، وأن نتواصى بها، ويتابع بعضُنا بعضاً في القيام بها.
الوصية الأولى
الصبر وعدم اليأس
احذر أخي اليأس والإحباط، ولا تستجب لخطرات النفس بأنه لا جدوى ولا فائدة مما نفعله أو سنفعله بإذن الله، ولا تخدعنك الحسابات المادية التي تكشف أن كل الأدوات مع الطرف الآخر، وليس معنا شيء سوى هذا الجهد الذي يبذل والأصوات التي تهتف بعودة الشرعية.
إن التفكير بطريقة الحسابات المادية يتعارض مع مقتضيات الإيمان بأن الله وحدَه هو من يدبر أمر هذا الكون، وأنه هو الذي يخفض ويرفع، ويقدم ويؤخر، ويقبض ويبسط، ويعز ويذل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]
فلا يعلم الغيب إلا الله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
ولا يملك خزائن النصر سواه: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160]
وهو سبحانه يريد منا إخلاص التوجه والاستعانة به، واستفراغ الوسع فيما هو متاح أمامنا من أسباب وإن كانت يسيرة.. يريد أن يرى منا الرغبة الصادقة في الثبات والتضحية وبذل ما في الوسع من أجله، وهذا هو ما نصح به الرجلان من بني إسرائيل لقومهما عندما رأيا منهم جبنا وتخاذلا عن دخول الأرض المقدسة: {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
وهو ما جهرت به القلة الباقية التي ثبتها الله عز وجل مع طالوت عندما خاف غيرهم من مواجهة جيش جالوت الكبير، فقالوا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]
وظل هذا التعلق بالله مع قلة الأسباب أثناء المعركة: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 250] فكانت النهاية السعيدة.. جاءت تؤكد تلك الحقيقة: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة: 251]
لقد قتل "الفتى" داود قائد جيشهم "العملاق" جالوت بشيء يسير: بحجر رماه بمقلاعه فجعله الله سببا في قتله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [الأنفال: 17] فهل بعد ذلك تستصغر ما تقوم به؟
إياك أخي من السماح لليأس والإحباط أن يتسربا إليك: { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } [الطلاق: 1]
ولنعلم جميعا أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]
ولئن نالوا منا اليوم، فلا ينبغي أن يضعف ذلك ثقتنا في وعد الله، فإلى الله يُرجع الأمر كله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]
ولقد وعد سبحانه بالانتقام من المجرمين: "إنا من المجرمين منتقمون" [السجدة: 22] ونحن في انتظار فعله في هؤلاء الذين أجرموا وتجبروا وقتلوا وحرقوا: فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون" [الدخان: 22]
الوصية الثانية
الاعتراف بأخطائنا والتوبة منها
حقيقة ما حدث أنه ابتلاء شديد من الله عز وجل، هذا الابتلاء له أسبابه العديدة، وحِكَمُه المتنوعة، وله أكثر من جانب يمكننا النظر من خلاله، ومن مصلحتنا في هذا الوقت وبشكل مُلِحٍّ أن ننظر إلى الجانب الذي يفيدنا في تصحيح مسارنا على المستوى الفردي وعلى المستوى الدعوي، لعل الله عز وجل أن يرفع بهذا التصحيح ما ابتلانا به، فإن كان الأمر كذلك فإن أهم جانب ينبغي أن ننظر إليه في هذه الأحداث هو اعتبار أن السبب الرئيس لهذا الابتلاء هو ذنوبنا وتقصيرنا وأخطاؤنا، وصدق الله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فما نزل بلاء إلا بذنب : {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]
ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث للصحابة رضوان الله عليهم بعد هزيمة أحد، فقد انتابتهم الحيرة من سبب الهزيمة رغم تضحياتهم العظيمة في المعركة فنزل القرآن يجيب عليهم ويبدد حيرتهم: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165] ولقد كان عدد الرماة الذين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتركوا أماكنهم على الجبل لجمع الغنائم أربعين رجلا، أي أنهم كانوا يشكلون حوالي ستة بالمئة من حجم الجيش البالغ سبعمئة فرد، ومع ذلك كانت مخالفتهم سببا في الهزيمة.
والملاحظ أن الله عز وجل خاطب الصحابة وكأنهم جميعا قد وقعوا في الخطأ على اعتبار أنهم كالجسد الواحد، والمسئولية بينهم تضامنية: ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون" [آل عمران: 152]
إن أي ابتلاء يصيب الفرد أو الدعوة ينبغي التعامل معه ابتداء على أنه بسبب الذنوب والأخطاء، ويكفيك تأكيدا لهذا المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحضره أول ما استحضر أثناء عودته من الطائف بعد أن لاقى فيها ما لاقى من صنوف الإيذاء والسخرية، فنجده قد تعامل مع الحدث من هذا المنطلق بالفعل، وقد عبر عنه في مناجاته لربه بقوله: "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي .. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى" أي لك أن تعاتبني حتى ترضى، فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم ما حدث عتابا من الله عز وجل له، فماذا اقترف لكي يعاتب؟ وماذا علينا أن نقول نحن؟
إن الابتلاءات تعد بمثابة السياط التي يؤدب الله بها عباده عقابا على أفعالهم، وكذلك لدفعهم نحو التوبة وتصحيح المسار: :وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون" [الزخرف: 48]، والعاملون في حقل الدعوة هم من أول من تصيبهم تلك السياط إذا ما حادوا عن الطريق لأنهم يسيرون تحت راية عظيمة، وحملوا أمانة ثقيلة، فلا ينبغي لهم أن يتراخوا في سيرهم أو ينحرفوا عن طريقهم، وعليهم أن يسارعوا بتصحيح المسار كلما حدث ابتلاء.
ولئن كان الابتلاء الذي نحياه شديدا فإن هذا يعني أن هناك أخطاء كثيرة استدعته: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49] وعلى كل منا أن يبحث ويفتش في نفسه عن تلك الأخطاء.
إن من الخطورة بمكان أن يعتبر البعض أن ما حدث من ابتلاء شديد هو دليل على أفضليتنا وأننا نسير في طريق الدعوة الصحيح، ومن ثم فعلينا أن نستمر فيما نحن عليه، لأن من سنة الله مع أصحاب الدعوات أن يبتليهم بين الحين والآخر.. وأن شعار المؤمنين لما رأوا البأس أن قالوا: "هذا ما وعدنا الله ورسوله"!!
هذا الطرح الآن ضرره شديد لأنه يعمي عن الأخطاء التي وقعت وتقع، ويضيع إلى حد بعيد فرصة تصحيحها، فإذا كان من سنة الله تعالى مع أصحاب الدعوات أنه يبتليهم ليمحصهم ويطهر قلوبهم، فإن هذا ليس معناه أن الابتلاء يكون عبثا بلا سبب.
فمن المعقول أن الذي يتحرك ويعمل هو الذي يكون عرضة للخطأ والزلل، ومن ثم يحتاج كل فترة إلى مراجعة وتصحيح، فكذلك عندما يتحرك أصحاب الدعوات بدعوتهم يتعرضون للفتن والشهوات، وقد يصيبهم منها شيء، فيجعل الله عز وجل البلاء تصحيحا لهم وردا للمسار الصحيح، رحمة بهم وحبا لهم، كما وقع بعض الصحابة في حب الدنيا فأنزل الله بهم هزيمة أحد.
ولئن كانت هناك أسباب أخرى للابتلاء غير الذنوب والتقصير، إلا أنه من المفيد لمن يقع عليهم أن يتعاملوا معه على أنه بسبب ذنوبهم.. ولعل ما حدث للمسلمين الأوائل في إحدى معاركهم التي تأخر فيها النصر ما يؤكد هذا المعنى، فعندما شعروا بتأخر النصر بحثوا عن أوجه تقصيرهم فوجدوها في تركهم للسواك فسارعوا إليه.
إذن علينا سريعا أن نفتش في أفعالنا ونحاسب أنفسنا على مستوى الفرد والدعوة، فنحدد أخطاءنا، ويقينا سنجد ما هو أعظم وأخطر من ترك السواك!!
ولل يكفي تحديد الأخطاء بل لابد من التوبة إلى الله منها مع عزم أكيد على عدم تكرارها، ونؤدي الحقوق، ونرد الأمانات ونرفع المظالم، ونسترضي أصحابها مهما طال عليها الزمن.
وعلينا كذلك ألا نتهاون في فعل أي معصية تحت أي مسمى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور: 15]
وعلى كل منا أن يرفع شعار: "أأنا السبب فيما يحدث؟" فيتهم نفسه أن ما نزل بنا كان بسببه هو... بسبب ذنوبه وأخطائه، وتهاونه في القيام بالواجبات، أو بعبارة أخرى يقوم بتوجيه المرآة إلى نفسه، ويفتش في أفعاله ويبحث عن أوجه التقصير، فيسارع بعلاجها والتوبة الحقيقية إلى الله منها: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]
وينبغي كذلك علينا ونحن نراجع أنفسنا ألا نستغرق في مراجعة الأخطاء التي لا تخرج بإذن الله عن دائرة الخطأ في الاجتهاد، فالعبد متى صحت نيته لله، واجتهد وسعه، وتوكل على الله.. فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر بإذن الله، فليس على هذا الخطأ يتنزل البلاء، إنما يقع البلاء على الذنوب التي تصيب علاقة العبد بربه، كأن يقصر في واجباته مع الله، أو ينسى حقوق الله عليه، أو ما أمره به في حق العباد، أو ينشغل بالدنيا عن دعوته، ونحو ذلك والله أعلم.
الوصية الثالثة
أخذ العهد والميثاق مع الله عز وجل
من أهم فوائد المحن والشدائد أنها توقظ المرء من غفلته وتشعره بضعفه واحتياجه الشديد إلى ربه ليهرع إليه ويسترضيه ويعاهده على فتح صفحة جديدة معه، يكون فيها كما يحب ربه ويرضى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } [يونس: 22]
بل إن من أسباب المحن والبلايا هو هزّ القلوب وزلزلتها لكي تستشعر ضرورة أخذ الأمور بقوة وجدية وعدم التراخي في تنفيذ أوامر الدين ونواهيه كما فعل الله عز وجل مع بني إسرائيل الذين كانوا يراوغون في القيام بالتكاليف، فرفع الله عليهم الجبل، وعندما أصبحوا تحته طلب منهم في هذا الوضع الرهيب أن يأخذوا تكاليف دينهم بقوة فكان العهد والميثاق على ذلك.
ولقد ذُكِر هذا الموقف في القرآن أربع مرات لبيان أهميته وضرورة الاستفادة منه: بأن عدم أخذ أمور الدين بقوة وجدية قد يؤدي إلى حدوث مثل هذا الأمر.. وقد كان: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأعراف: 171]
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أوحى إلى يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فكأنه أبطأ بهن، فأتاه عيسى فقال: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تخبرهم وأما أن أخبرهم، فقال: يا أخي لا تفعل فإني أخاف إن سبقتني بهن أن يخسف بي أو أعذب.. ثم قام فأخبرهم [رواه الترمذي والنسائي وصححه الحاكم والألباني]
وكأن الله عز وجل لم يرض من يحيى عليه السلام أن ينتظر الوقت الذي يراه مناسبا لتبليغها لبني إسرائيل، وعندما أخبره عيسى عليه السلام بأنه سيقوم بالبلاغ مكانه استشعر الخطر على نفسه وسارع بالتنفيذ دون تردد.
ولعل ما حدث يوم الرابع عشر من أغسطس من مجزرة فض اعتصام رابعة والنهضة قريب الشبه من رفع الجبل على بني إسرائيل، فقد كان الموت قريبا من كل المحاصرين الذين عاشوا ساعات عصيبة لعلهم لم يمروا بمثلها في حياتهم، وكما نعلم فإن كل شيء يحدث في هذا الكون فإنما يحدث بعلم الله ومشيئته: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ } [آل عمران: 166] ولقد شاء سبحانه لنا هذا الأمر لحكم كثيرة لعل منها أن نفيق من غفلتنا، ونفتح صفحة جديدة نأخذ فيها أمور ديننا بقوة، فقد تأثرنا بالحياة المادية التي تحيط بنا وتراخينا في القيام بالواجبات الدينية على الوجه الصحيح، وظننا أنه يمكن الجمع بين الدنيا والآخرة فانغمسنا في الدنيا، وبدلا من أن نؤثِّر في المجتمع تأثيرا إيجابيا ونقدم له نماذج يقتدى بها، تأثرنا به سلبيا وأصابتنا بعض جراثيمه الاجتماعية..
تعاملنا مع العديد من النصوص بعدم وضوح وحزم، وحاولنا الإمساك بالعصا من المنتصف، واجتهدنا في إرضاء الناس على حساب الدين، وقل فينا أصحاب رسالة رفعة الإسلام الذين يطوعون حياتهم من أجلها، فكان ما كان من زلزال شديد أصاب الجميع، وهو كما أسلفنا قريب الشبه برفع الجبل على بني إسرائيل والمطلوب الآن وسريعا أن نعاهد الله عز وجل بأن نأخذ أمور ديننا بقوة وجدية، ونترك الميوعة وإمساك العصا من المنتصف، وأن نؤثر الآخرة على الدنيا، وأن نكون أصحاب رسالة رفعة الدين، ولنحذر أن نكون كبني إسرائيل الذين تولوا عن تنفيذ هذا العهد، وأضاعوا الفرصة فكان ذلك من أسباب هلاكهم والاستبدال بهم: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 93]
الوصية الرابعة
التوكل على الله والاستعانة الدائمة به
الحقيقة التي لا مرية فيها أن الله عز وجل له القوة جميعا ، وأنه سبحانه هو من يقيم ويبث الفاعلية في كل شيء: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئا مهما صغر بدون إمداده سبحانه: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} [سبأ: 50] وهذا هو جوهر ذكر: "لا حول ولا قوة إلا بالله"
ومن رحمته بعباده إمدادهم بالفاعلية دون سؤال منهم، ولكن – بلا شك – أن من يستعين به ويطلب مساعدته ويوكل أمره إليه فإنه يعطيه ويميزه على من لم يفعل ذلك.. من هنا كانت الاستعانة بالله والتوكل عليه من أهم أسلحة المؤمنين التي يتميزون بها على خصومهم: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
ولقد ربط سبحانه إمداده لمن يتوكل عليه بقوة هذا التوكل، فكلما اشتدت حاجة العبد إلى مدد الله، وألح في طلب المساعدة الكاملة منه سبحانه، واستعان به في تحصيل طلبه استعانة "العاجز عجزا كاملا" بالقادر "قدرة كاملة" فإنه حينئذ يفتح له خزائنه، يقول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا" [الصحيحة: 310]
إن حق التوكل على الله يستلزم أن يستبد بنا شعور عظيم بالفقر المطلق والذاتي، وأن الواحد منا طفيلي على الله لا قوام لحياته إلا به، وأنه لا يمكن لنا أن نفعل شيئا بدونه سبحانه، وأن نستشعر كذلك بأنه لو تركنا لأنفسنا لهلكنا كما عبر عن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه: وأشهدك أنك إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة وإني لا أثق إلا برحمتك [رواه أحمد]
ولئن كانت هذه الحقيقة كثيرا ما تغيب عن أعيننا خلف ستار الأسباب، فلقد وضعنا الله عز وجل خلال هذه الأحداث الأخيرة في وضع انكشف فيه ضعفنا وعجزنا أمام أعيننا من غير ستار، خصوصا حينما يهاجم الظالمون الحشود السلمية بآلات القتل، وهم لا يملكون دفعا لأنفسهم، ولا لمن معهم، .. فأى عذر لنا بعد ذلك إذا تجاهلنا هذه الحقيقة؟
علينا إذن قبل القيام بأي عمل في هذه الأيام وفي كل الأيام أن نستعين بالله ونطلب منه المساعدة الكاملة والتامة في إتمامه وإنجاحه وألا يتركنا لأنفسنا ولو طرفة عين.
ومن أخطر الممارسات المضادة لهذا المعنى والتي قد تتسبب في تأخير المدد والنصر: الوثوق الذاتي في النفس وأننا بذواتنا نستطيع أن نفعل كذا، والتحدث عن المستقبل بطريقة وبألفاظ ومصطلحات جازمة مثل "مكملين" و "يوم كذا مرسي سيكون في القصر" و "6 أكتوبر آخر يوم" "هنحبط الإحباط" دون أن نربط هذا الكلام بمشيئة الله وإذنه، ولا يجوز التعلل بأننا في وضع يسمح لنا بهذه التجاوزات، فنحن عبيد لله في كل الأوقات، وإن هذه الطريقة في الكلام لها مخاطر جمة في تأخير النصر لأنها تبعدنا عن دائرة إخلاص الاستعانة بالله عز وجل، والإخلاص كما نعلم هو من أهم شروط استجلاب النصر.
فعن صهيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى همس شيئاً لا أفهمه ولا يخبرنا به، قال : أفطنتم لي؟ فقال: إني ذكرت نبياً من الأنبياء أعطي جنداً من قومه فأعجب بهم، فقال: من لهؤلاء الجند؟ أو قال: من يقوم لهؤلاء؟ أي من يغلب هؤلاء أعجب بجنده وكثرتهم وقوتهم
فأوحى الله عز وجل إليه أن يختار إحدى ثلاث عقوبات إما أن نسلط عليهم عدواً من غيرهم، أو الجوع، أو الموت، فاستشار النبي أصحابه فقالوا: أنت نبي الله، كل ذلك إليك، فقام إلى الصلاة، ثم قال: أي ربّ، أما عدو من غيرنا فلا، وأما الجوع فلا، ولكن الموت، فقتل من جنده في ذلك اليوم سبعون ألفاً. [صحيح أخرجه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم]
ثم بعد أن قص النبي على أصحابه هذه القصة قال مبينا لهم ما كان يهمس به دبر كل صلاة، كان يقول إذا انصرف من صلاته: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول، ولا حول ولا قوة إلا بالله)).
فكان هذا من أذكاره ، إذا انصرف من صلاته، ورأى من حوله من الصحابة، وتعجبه كثرتهم وشدتهم وقوتهم، فكان يتذكر ما حصل لذلك النبي الكريم، فيتبرأ من الحول، ويتبرأ من القوة، ويقرر هذه الحقيقة: ((اللهم بك أقاتل، وبك أصاول وفي رواية: بك أحول وبك أصول وبك أجادل وبك أقاتل ولا حول ولا قوة إلا بك))، فكان يتبرأ دبر كل صلاة من الحول والقوة إلا بالله.
علينا إذن سريعا أن نعيد صياغة ألفاظنا وأن نحرص على صبغها في الشعارات والأناشيد والكلمات بصبغة العبودية لله، وربط كل أمر مستقبلي بإذنه ومشيئته ومدده وتوفيقه، وأن نعمل على استحضار المعنى الحقيقي للاستعانة والتوكل وممارسته قبل كل عمل، فهو سلاحنا الذي نواجه به مؤامرتهم وكيدهم: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} [الأعراف: 127، 128
الوصية الخامسة
فلنحذر الإعجاب بالنفس ولننسب النجاح لله.
إن سبب كل نجاح يحققه العبد هو الله ... هذه هي الحقيقة، فلولا الله ما صلينا، ولا صمنا، ولا تصدقنا، فلا طاقة لأحد منا أن يقاوم هوى نفسه التي تضغط عليه دوما لتحصيل الشهوات وترك الواجبات، لذلك فمن العدل أن ننسب كل نجاح نحققه لصاحبه الحقيقي وهو الله، وكل إخفاق لأنفسنا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] وكما جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" [رواه مسلم]
ومن الضروري أن تستبد بنا هذه الحقيقة، وأن تصطبغ بها كلماتنا وشعاراتنا.
ولكن هل من الممكن تطبيق هذه الوصية بسهولة؟!
الجواب: لا، لأن النفس تريد دوما أن تُحمد على كل نجاح، وأن تضيف كل إنجاز لحسابها وهو ما يعرف ب "العُجب" لذلك فإن من أخطر ما يواجه العبد هو هذا الداء، وهو من المهلكات لأنه يُعرِّض المرء لغضب الله .. قال صلى الله عليه وسلم: فأما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" وفي رواية قال: وهي أشدهن [صحيح الجامع: 3045]
والعجب يمثل عقبة رئيسة في طريق النصر، لأنه يضاد الإخلاص: إخلاص الاستعانة بالله، وينحرف بالمرء عن طريق العبودية، وبدلا من أن يفرح بربه ويحمده على إنجاح العمل إذا به يفرح بنفسه ويحمدها، من هنا ندرك كيف أن الإعجاب بالنفس يمثل سببا رئيسا في تأخير النصر وتذوق مرارة الهزيمة،
وقد مر بنا حديث النبي الذي أعجب بجنده وعددهم وقوتهم، فعاقبه الله عز وجل، وهذه سنة شرعية ينبغي على العبد أن يؤمن بها، وأن يضعها نصب عينيه، ما أعجب عبد قط بما عنده من قوة أو جاه أو مال أو سلطان إلا عاقبه الله وعاقب من معه، ولو كان فيهم سيد الخلق، وخيرة الصحابة، وليس أدل على ذلك مما حدث في بداية غزوة حنين: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [التوبة: 25]
ومن مظاهر الإعجاب بالنفس التي يمارسها البعض وتضر بالكل هو الحديث عن النفس بما يزكيها والإكثار من استخدام ألفاظ: "أنا"، "لي" ، "عندي" ، "رأيي" ، "خبرتي" ، "توقعاتي" ،... فإن كان ولابد من الحديث عن النفس فعلينا أن نرفق ذلك بالحقيقة وهي إعانة الله وتوفيقه، فمثلا نقول: بعون الله وفضله فعلت كذا، الله أكرمني وقلت كذا، الله عصمني ولم أفعل كذا... إلخ.
ولقد ضرب الله عز وجل أمثلة كثيرة في القرآن لمن رأى نفسه، وعمله، وإمكاناته، ونسي أن كل ذلك من عند الله، إن شاء وهبه، وإن شاء منعه، كيف سخط الله عليهم، ومن ذلك ما قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)} [الزمر: 49 - 51
الوصية السادسة
عدم الرياء والتسميع بالعمل
الإخلاص لله هو أهم سبب للنصر، فإن فقدناه فقدنا كل شيء، وأخطر ما يواجه الإخلاص هو حب النفس للتميز على غيرها، لذلك نجدها تلح علينا في إظهار العمل، وتعريف الناس به، وتجدها تسعد سعادة بالغة عندما تُرى في موضع محمود، وبالعكس يضيق الصدر ويتكدر الحال عندما تُرى في موضع مشين.
ويشدد الشرع على ضرورة الإخلاص لله عز وجل والعمل من أجله، وعدم وجود أي دافع آخر يدفع المرء للعمل الصالح سوى إرضائه سبحانه وابتغاء مثوبته، وإلا أحبط العمل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [البقرة: 264] وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا اشرك فيه معي غيري تركته وشركه" [رواه مسلم]
فعلينا أن نجتهد في تجريد دوافعنا أن تكون لله وحده ومما يعيننا على ذلك بإذن الله هو عدم التحدث بالعمل بعد انتهائه، وعدم إظهاره والتسميع به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سمَّع الناس بعمله سمَّع الله به سامع خلقه، وصغَّره وحقَّره" [رواه الطبراني]
وهذا مثل يضربه الله عز وجل في القرآن على إحباط عمل المرائي، وأنه لا ينفعه منه شيء، رغم ما بذل فيه من الجهد، فيقول تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون} [البقرة: 266]
ولذلك لما جاء رجل يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: صمت الدهر يا رسول الله، فقال له: ما صمت ولا أفطرت" [رواه مسلم]
وسمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رجلا يقول: قرأت البارحة سورة البقرة فقال: ذاك حظه من قراءته.
وعندما تحدث أبو موسى الأشعري عن غزوة ذات الرقاع وما حدث له فيها من مشقة ظهرت الكراهة على وجهه كما يقول راوي الخبر مخافة أن يكون قد أفشى شيئا من عمله.
وللأسف فإن اشتراك الكثير في مواقع التواصل الاجتماعي استدرجهم للتحدث عن أنفسهم وأعمالهم وإظهارها أولا بأول وهذا أمر خطير من شأنه أن يبعدنا عن طريق الإخلاص لله عز وجل، ومن ثم تلقي نصره.
فإن كان ولابد من تعريف الناس بعمل ما فعلينا أن نخرج أنفسنا منه، فنتحدث عن العمل دون التحدث عن ذواتنا، ولنجتهد في إخفاء أعمالنا ويكفينا علم الله بها: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28]
إن الله عز وجل حكم عدل، لا يظلم الناس شيئا، ولكن العبد إذا لم يقصد بعمله وجه الله، فإن الله يترك له عمله وما قصد إليه، ولكم ضاعت على الأمة جهود عظيمة، وأموال ضخمة، أحبط الله أجرها على صاحبها، وجعل أثرها في الناس هباء، لا نفع فيها، لما شابها من رياء، وعدم إخلاص لله فيها.
الوصية السابعة
الإكثار من ذكر الله
علينا أن نتذكر دوما ربنا الإله العظيم الذي يدير وحده أمر هذا الكون، ونتذكر قدرته وقيوميته وإحاطته بخلقه، ولئن كنا بحاجة دائمة لهذه التذكرة طيلة حياتنا إلا أننا نحتاج إليها على أشد ما يكون الاحتياج في هذه الأيام التي يعلو فيها صوت الباطل، وتُقلَب الحقائق، ويتم التدليس على الناس، ويشوه أهل الحق.
وأهم وسيلة لتحقيق هذه التذكرة هي الإكثار من ذكر الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]
فبذكر الله تتحول الصورة الذهنية والحالة المعنوية من الضيق إلى الراحة والسعادة: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} [الحجر: 97 - 98]
ولنعلم أخي أن تذكر الله هو الوسيلة الأكيدة لمواجهة موجات الضعف البشري التي تنتابنا بين الفينة والفينة عندما نرى علو الباطل وانتفاشه وبطشه.
والمقصود من الذكر هو التذكر والحضور الذي ينافي الغفلة والنسيان، فذكر الله هو تذكر الله، واستحضار معاني أسمائه وصفاته ومعايشتها بالقلب واللسان معا فإن هذا هو الذي يؤثر في زيادة الإيمان والثبات على الحق، وليس المراد به مجرد ترديد الألفاظ دون وعي لمعانيها مثلما اعتاد كثير منا من قبل.
وذلك مثلما يذكر الإنسان المسافر أهله، فيتذكر احتياجاتهم وما يحبونه، فيجلبه لهم، لا أن يردد أسمائهم على لسانه فقط، كذلك ولله المثل الأعلى كما قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]
وأفضل الذكر هو قراءة القرآن، ففيه نتعرف على الله وعلى أسمائه وصفاته: نتعرف على قدرته وأفعاله بالظالمين، وما أعده لأهل الحق من حسن العاقبة، فالقرآن من أهم الوسائل لتثبيت القلوب في كل وقت، وبخاصة في هذه الأيام: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]
فعلينا أن نطيل المكث معه، نقرؤه بتفهم وتدبر وتركيز، ونعيش مع معانيه ونتصل بالله من خلاله، وما أجمل نصيحة أحد السلف حين قال: اجعل القرآن مفزعك الذي تلجأ إليه، و حصنك الذي به تعتصم، و كهفك الذي إليه تأوي، و دليلك الذي به تهتدي، و شعارك و دثارك . و متهجدك و سبيلك، و إذا التبست عليك الطرق ، وصرت في ضيق من أمرك فارجع إلي القرآن الذي لا حيرة فيه ،فقف علي دلائله من الترغيب و الترهيب و الوعد و التشويق إلي ما ندب الله إليه المؤمنين من الطاعة و ترك المعصية فإنك تخرج من حيرتك ، و ترجع عن جهالتك ، و تأنس بعد وحشتك ، و تقوي بعد ضعفك ... فليكن دليلك دون المخلوقين ؛ تفز مع الفائزين.
الوصية الثامنة
التضرع في الدعاء
من أهم أسباب استجلاب ما عند الله عز وجل: الدعاء: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60] فكيف بدعوة المظلوم؟! يقول صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين [الصحيحة: 868]
ويقول: "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة" [الصحيحة: 871]
فبين أيدينا سلاح عظيم علينا أن نحسن استخدامه، فالدعاء كالسهم، والسهم بقوة ضاربه، ولكي يبلغ الدعاء هدفه علينا أن نتضرع فيه بإظهار البؤس والافتقار لله عز وجل، وأن تهتز مشاعرنا وتنتفض أعضاؤنا معه بقدر المستطاع: { فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } [الأنعام: 43] ولنعلم جميعا أنه سبحانه هو وحده القادر على كشف هذا الكرب الذي حاق بنا وهو القادر على إزالته في لمح البصر: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50]
وهو الذي طلب منا أن ندعوه ووعدنا بالإجابة، فعلينا إذن أن نجتهد ونجأر إليه بأن يخلصنا وينجينا من الغم ويكشف الكرب، ولنجتهد أن يكون دعاؤنا كدعاء المشرف على الغرق الذي يصارع الأمواج، دعاء المضطر: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } [النمل: 62]
ولنجتهد في الدعاء بتضرع كلما تيسر ذلك وبخاصة في ثلث الليل الآخر .. يقول صلى الله عليه وسلم: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له؟" [متفق عليه]
الوصية التاسعة
تحفيز المشاعر للقيام بالعمل
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [متفق عليه]
فعلى قدر النية والقصد والدافع يكون بإذن الله الأجر والثواب، لذلك لابد من تهيئة القلب وتحفيز المشاعر قبل القيام بالعمل لاستثارة الدافع القوي للقيام به، يقول صلى الله عليه وسلم : "لا أجر لمن لا حسبة له" [السلسلة الصحيحة: 2415]
وليس ذلك فحسب، بل إن استثارة المشاعر لأهمية العمل وفضله له وظيفة عظيمة في توليد القوة الدافعة للقيام به، وعدم الملل منه، فكلما قوي التحفيز تولدت الرغبة بإذن الله.
ومن الملاحظ أن القرآن كثيرا ما يذكر عند التكليف بالعمل ما يدفع النفس للرغبة فيه والإقبال عليه، مثل قول الله تعالى عند الأمر بالإنفاق: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]
لابد إذن من القيام بعملية التهيئة قبل الشروع في أي عمل حتى لا يضيع علينا أجره عندما نتحرك بلا دوافع، وحتى لا تكون حركتنا عادة أو حياء فنحرم ثوابا عظيما كان قريبا منا بإذن الله، وحتى لا نشعر باستثقال القيام به، وكما قيل: من لم يعرف ثواب الأعمال ثقلت عليه في جميع الأحوال.
والطريقة السهلة للتحفيز هي إجراء حوار داخلي مع نفسي أجيب فيه عن سؤال: "لماذا أقوم بهذا العمل؟" وأذكر نفسي بالأسباب التي تدفعني للقيام به، مع استحضاري النصوص الدالة عليه قدر المستطاع.
فمن الأسباب التي تدفعنا للوقوف في وجه الانقلاب هو: إقامة الحق والعدل بين الناس، وهذه من المقاصد العظيمة التي ندب الله إليها: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25]
.. ولإصلاح وطننا: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [البقرة: 251]
.. ولنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 71] قال القرطبي: جعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقانا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال ابن النحاس: وفي ذكر قوله "والمؤمنات" هنا دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على النساء كوجوبه على الرجال حيث وجبت الاستطاعة.
.. ولكي نجهر بكلمة الحق أمام سلطان جائر، قال صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" [أبو داود والترمذي] وقال: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" [السلسلة الصحيحة: 374]
يقول ابن النحاس: وإنما كان أكرم الشهداء لأن الشرط في الشهيد في سبيل الله تعالى أن يبذل نفسه لكي تكون كلمة الله هي العليا، وهذا قد بذلها لذلك، غير أن الأول قد شفى نفسه ببسط يده إلى عدوه فقتل عزيزا وهذا قد تعرض للقتل مع كف يده فقتل ذليلا فجزاه الله على ذله فيه بإكرامه له.
.. ومن الدوافع كذلك: نصرة المظلوم.. يقول صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يخذل مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه عرضه إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته.
الوصية العاشرة
الانتظار والترقب
مع استمرار بذل الجهد المادي والمعنوي على النحو الذي ذُكر وغيره علينا أن ننتظر ونترقب نزول فضل الله ونصره: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]
إن انتظار الفرج عبادة من العبادات القلبية.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وأفضل العبادة: انتظار الفرج" [رواه الترمذي]
ولكن علينا أن ننتظر الفرج في المكان الصحيح: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)} [هود: 121 - 123]
إننا جميعا نترقب حكم الله فيما حدث: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الإنسان: 24]
ننتظر رحمة من عنده يكشف بها كربنا، ويشف صدورنا، ويرفع رايتنا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)} [البقرة: 106، 107]
ونحن في هذا الانتظار علينا ألا ننسى أن الرصاصة في صدر الشهيد ستكون في ميزانه هو لا ميزاننا نحن، وأن ساعات الألم التي تمر بالمعتقلين في ميزانهم هم كذلك، وأن صور المسيرات الحاشدة في ميزان من نزل وغبر قدماه في سبيل الله لا من تابع أخبارها جالساً في بيته، إن الحقيقة التي لا مرية فيها أنك ستلقى الله وحدك: "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا" [مريم: 95]، وستلقاه بعملك أنت: "ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره" [الزلزلة: 7]؛ فماذا أعددت لهذا اليوم من عمل؟
والواقع أن الحافز للعمل الآن كأقوى ما يكون، ففضلاً عما تمر به الأمة من أحداث جسام لم تمر بمثلها منذ عقود طوال، فاستشعار دنو الأجل في مناسبات متقاربة للغاية والاستعداد بكتابة الوصية ونحوه يمثل حافزاً يدفعنا لمواجهة أنفسنا ومحاسبتها، ويجعلنا نشعر بالأسف لكل فرصة أضعناها، فها سأموت دون أن أصل رحمي، ودون أن أنفق في سبيل الله، ودون أن أرد الأمانات لأصحابها... إلى آخر تلك الطاعات التي كنا سنلقى الله دون أن ندركها ثم نعود كل مرة معافين بفضل الله وقد منحنا فرصة جديدة، فماذا صنعنا بتلك الفرص؟ ولِمَ لم نستفد منها حق الإستفادة؟
وعلينا ألا ننسى أننا أولا وآخرا: عبيد لله قد خلقنا وهو غني عنا، ونحن الفقراء إليه، خلقنا لنعبده: نسجد له، ونسبح بحمده، ونقوم له قانتين.
هذه وظيفتنا التي خلقنا لنقوم بها، فلا ينبغي أن يشغلنا عنها شاغل، أو ينسينا عنها حدث مهما كان عظيما، فإن الله عز وجل لم يعذر أحدا عن الصلاة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)} [البقرة: 238، 239]
ولما كان البلاء يشتد على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان الله عز وجل يثبتهم، ويذكرهم بالوعد الحق منه سبحانه بالنصر والتمكين، ويأمرهم بالصبر، ولكن الأهم من كل ذلك هو تذكيرهم بوظيفتهم الأساسية التي خلقوا لها وهي التسبيح والحمد والثناء والتعظيم لله سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] ولقد تكرر مثل هذا أربع مرات في كتاب الله.
فهذا هو المقصود الأعظم من إقامة الدين، ومن التمكين للمشروع الإسلامي الذي نسأل الله عز وجل أن يستخدمنا فيه، ومن الدعوة إلى الله، فأي عذر لنا إن هدمنا الأصل ورحنا نبحث عن الأسباب والطرق والوسائل؟!
وأخيرا فنحن عبيد من عباد الله نعيش في ملكه، ونطمع في رحمته، وهو سبحانه يعلم ما لا نعلمه، وما علينا إلا الرضا بقضائه والاستسلام لحكمه، ومواصلة السعي بعونه في القيام بما كلفنا به: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى: 13]
والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.