الوصية الثانية الاعتراف بذنوبنا والتوبة منها حقيقة ما حدث أنه ابتلاء شديد من الله عز وجل، هذا الابتلاء له أسبابه العديدة، وحِكَمه المتنوعة، وله أكثر من جانب يمكننا النظر من خلاله، ومن مصلحتنا فى هذا الوقت وبشكل ملِحٍّ أن ننظر إلى الجانب الذى يفيدنا فى تصحيح مسارنا على المستوى الفردى وعلى المستوى الدعوى، لعل الله عز وجل أن يرفع بهذا التصحيح ما ابتلانا به، فإن كان الأمر كذلك فإن أهم جانب ينبغى أن ننظر إليه فى هذه الأحداث هو اعتبار أن السبب الرئيس لهذا الابتلاء هو ذنوبنا وتقصيرنا وأخطاؤنا، وصدق الله: (وَما أَصَابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى: 30] فما نزل بلاء إلا بذنب: (كَذَلِكَ نبْلُوهُم بِما كَانوا يَفْسُقُون) [الأعراف: 163]. ومما يؤكد هذا المعنى ما حدث للصحابة رضوان الله عليهم بعد هزيمة أحد، فقد انتابتهم الحيرة من سبب الهزيمة رغم تضحياتهم العظيمة فى المعركة، فنزل القرآن يجيب عليهم ويبدد حيرتهم: (أَوَلَما أَصَابَتْكُم مصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مثْلَيْهَا قُلْتُم أَنى هَذَا قُلْ هُوَ من عِندِ أَنفُسِكُم إِن اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165] ولقد كان عدد الرماة الذين خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتركوا أماكنهم على الجبل لجمع الغنائم أربعين رجلا، أى أنهم كانوا يشكلون حوالى ستة بالمائة من حجم الجيش البالغ سبعمائة فرد، ومع ذلك كانت مخالفتهم سببا فى الهزيمة. والملاحظ أن الله عز وجل خاطب الصحابة وكأنهم جميعا قد وقعوا فى الخطأ على اعتبار أنهم كالجسد الواحد، والمسئولية بينهم تضامنية: (ولَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: 152]. إن أى ابتلاء يصيب الفرد أو الدعوة ينبغى التعامل معه ابتداء على أنه بسبب الذنوب والأخطاء، ويكفيك تأكيدا لهذا المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحضره أول ما استحضر أثناء عودته من الطائف بعد أن لاقى فيها ما لاقى من صنوف الإيذاء والسخرية، فنجده قد تعامل مع الحدث من هذا المنطلق بالفعل، وقد عبر عنه فى مناجاته لربه بقوله: "إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى.. أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بى سخطك أو يحل على غضبك لك العتبى حتى ترضى" أى لك أن تعاتبنى حتى ترضى، فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم ما حدث عتابا من الله عز وجل له، فماذا اقترف لكى يعاتب؟ وماذا علينا أن نقول نحن؟. إن الابتلاءات تعد بمثابة السياط التى يؤدب الله بها عباده عقابا على أفعالهم، وكذلك لدفعهم نحو التوبة وتصحيح المسار: (وأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 48]، والعاملون فى حقل الدعوة هم من أول من تصيبهم تلك السياط إذا ما حادوا عن الطريق لأنهم يسيرون تحت راية عظيمة، وحملوا أمانة ثقيلة، فلا ينبغى لهم أن يتراخوا فى سيرهم أو ينحرفوا عن طريقهم، وعليهم أن يسارعوا بتصحيح المسار كلما حدث ابتلاء. ولئن كان الابتلاء الذى نحياه شديدا فإن هذا يعنى أن هناك أخطاء كثيرة استدعته: (وَلَا يَظْلِم رَبُّكَ أَحَدًا ) [الكهف: 49] وعلى كل منا أن يبحث ويفتش فى نفسه عن تلك الأخطاء. إن من الخطورة بمكان أن يعتبر البعض أن ما حدث من ابتلاء شديد هو دليل على أفضليتنا وأننا نسير فى طريق الدعوة الصحيح، ومن ثم فعلينا أن نستمر فيما نحن عليه، لأن من سنة الله مع أصحاب الدعوات أن يبتليهم بين الحين والآخر.. وأن شعار المؤمنين لما رأوا البأس أن قالوا: "هذا ما وعدنا الله ورسوله"!! هذا الطرح الآن ضرره شديد لأنه يعمى عن الأخطاء التى وقعت وتقع، ويضيع إلى حد بعيد فرصة تصحيحها، فإذا كان من سنة الله تعالى مع أصحاب الدعوات أنه يبتليهم ليمحصهم ويطهر قلوبهم، فإن هذا ليس معناه أن الابتلاء يكون عبثا بلا سبب. فمن المعقول أن الذى يتحرك ويعمل هو الذى يكون عرضة للخطأ والزلل، ومن ثم يحتاج كل فترة إلى مراجعة وتصحيح، فكذلك عندما يتحرك أصحاب الدعوات بدعوتهم يتعرضون للفتن والشهوات، وقد يصيبهم منها شيء، فيجعل الله عز وجل البلاء تصحيحا لهم وردا للمسار الصحيح، رحمة بهم وحبا لهم، كما وقع بعض الصحابة فى حب الدنيا فأنزل الله بهم هزيمة أحد. ولئن كانت هناك أسباب أخرى للابتلاء غير الذنوب والتقصير، إلا أنه من المفيد لمن يقع عليهم أن يتعاملوا معه على أنه بسبب ذنوبهم.. ولعل ما حدث للمسلمين الأوائل فى إحدى معاركهم التى تأخر فيها النصر ما يؤكد هذا المعنى، فعندما شعروا بتأخر النصر بحثوا عن أوجه تقصيرهم فوجدوها فى تركهم للسواك فسارعوا إليه. إذن علينا سريعا أن نفتش فى أفعالنا ونحاسب أنفسنا على مستوى الفرد والدعوة، فنحدد أخطاءنا، ويقينا سنجد ما هو أعظم وأخطر من ترك السواك!! ولا يكفى تحديد الأخطاء بل لابد من التوبة إلى الله منها مع عزم أكيد على عدم تكرارها، ونؤدى الحقوق، ونرد الأمانات ونرفع المظالم، ونسترضى أصحابها مهما طال عليها الزمن. وعلينا كذلك ألا نتهاون فى فعل أية معصية تحت أى مسمى: (وَتَحْسَبُونهُ هَيِّنا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيم) [النور: 15]. وعلى كل منا أن يرفع شعار: "أأنا السبب فيما يحدث؟" فيتهم نفسه أن ما نزل بنا كان بسببه هو، بسبب ذنوبه وأخطائه، وتهاونه فى القيام بالواجبات، أو بعبارة أخرى يقوم بتوجيه المرآة إلى نفسه، ويفتش فى أفعاله ويبحث عن أوجه التقصير، فيسارع بعلاجها والتوبة الحقيقية إلى الله منها: (وتُوبُوا إلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31] وينبغى كذلك علينا ونحن نراجع أنفسنا ألا نستغرق فى مراجعة الأخطاء التى لا تخرج بإذن الله عن دائرة الخطأ فى الاجتهاد، فالعبد متى صحت نيته لله، واجتهد وسعه، وتوكل على الله.. فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر بإذن الله، فليس على هذا الخطأ يتنزل البلاء، إنما يقع البلاء على الذنوب التى تصيب علاقة العبد بربه، كأن يقصر فى واجباته مع الله، أو ينسى حقوق الله عليه، أو ما أمره به فى حق العباد، أو ينشغل بالدنيا عن دعوته، ونحو ذلك.