جاءت إطاحة الجنرال عبد الفتاح السيسي للواء محمد عرفان من "هيئة الرقابة الإدارية"، يوم الخميس الماضي 30 أغسطس 2018م، صادمًا للبعض ومفاجئًا للكثيرين؛ لأن السيسي بهذا القرار خالف الدستور والقانون من ناحية، كما أن جميع وسائل الإعلام كانت دائمة الإشادة بالرجل وجهوده في الرقابة الإدارية، ومنحه السيسي مساحة الحديث العلني في كل مناسبة رسمية وعن كل المجالات تقريبا، من الفقر المائي إلى مشاريع النقل والمواصلات، ومن تجديد البنية المعلوماتية للموانئ الجوية والبحرية، إلى التباهي بإحصائيات تزعم أن مصر باتت من أعلى 20 دولة في مكافحة الفساد. وعرفان الذي كان يحتفظ بدرجة وزير، كان قد عُيّن رسميا رئيسا للرقابة الإدارية في 5 أبريل 2017، إذ صدر قرار السيسي بتعيينه في ذروة قوة عرفان وهيئته، كشريك للواء عباس كامل في إدارة الدائرة المحيطة بالسيسي من ضباط المخابرات والرقابة، وكحاكم باسم السيسي على أروقة الوزارات والهيئات الحكومية. ليس هذا فحسب، بل إن تعيين السيسي لعرفان رئيسا للهيئة بعد عامين من توليه منصب "قائم بأعمال الرئيس"، اعتُبر في وقتها ترسيخا لقوة شخصية عرفان وصلاحياته ونفوذه، ودفع به هذا التعيين إلى صدارة ترشيحات رئاسة الحكومة خلفًا لرئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل، في ظل رئاسة عرفان الفعلية لحكومة ظل تتمثّل في ضباط الرقابة الإدارية المتحكمين مباشرة في تصرفات الوزارات والمصالح الحكومية والمرتبطين بمكتبه الفني، الذي يشغل عضويته نجل السيسي، الضابط مصطفى السيسي. واختار السيسي اللواء شريف سيف الدين، قائد سلاح المشاة السابق، رئيسا جديدا للرقابة الإدارية، علما أنه لم يسبق له العمل في الشأن الرقابي على الإطلاق، إذ سبق وتولى قيادة المنطقة الجنوبية العسكرية، وترأس أركان المنطقة نفسها فقط. وبعد الإطاحة بعرفان بيومين، أعلن السيسي عن تعيين رئيس الرقابة الإدارية السابق مستشارا له لشئون الحكومة والبنية المعلوماتية، لكن تبقى أسباب الإطاحة به محل غموض كبير، ما يحتاج إلى تفسير القرار وأبعاده وربطه بالسياق العام وتوجهات النظام العسكري الحاكم بقوة السلاح، في ظل افتقار المجتمع للشفافية وتداول المعلومات. إطاحة غير دستورية وينص دستور الانقلاب في مادته 216 على أن "يُعيّن رئيس الجمهورية رؤساء الهيئات والأجهزة الرقابية، بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفى أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويحظر عليهم ما يحظر على الوزراء". ومن بين المواد الجديدة التي صدرت في قانون هيئة الرقابة الإدارية الصادر في أكتوبر 2017م، المادة 12 التي تنص على أن "يعيّن رئيس هيئة الرقابة الإدارية بدرجة وزير لمدة واحدة مدتها 4 سنوات، بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه". أما في حالة رغبة رئيس الجمهورية في عزل رئيس الهيئة، فيُطبّق عليه قانون تحديد حالات إعفاء رؤساء الهيئات الرقابية، الذي أصدره السيسي في يوليو 2015، واستخدمه مرة واحدة فقط لعزل المستشار هشام جنينة من رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات، وهو ينص على وجوب توافر حالة واحدة من أربع حالات ليصدر رئيس الجمهورية قرارا بعزل رئيس الهيئة الرقابية؛ وهي: "إذا قامت بشأنه دلائل جدية على ما يمس أمن البلاد وسلامتها، أو إذا فقد الثقة والاعتبار، أو إذا أخلّ بواجبات وظيفته بما من شأنه الإضرار بالمصالح العليا للبلاد أو مصلحة إحدى الشخصيات الاعتبارية العامة، وإذا فقد أحد شروط توليه منصبه لغير الظروف الصحية". فالسيسي إذًا خالف الدستور ولم يجتمع البرلمان للموافقة على القرار لأنه في إجازة، كما لم يحدد أسباب الإطاحة بعرفان وفق القانون؛ لأن تعيينه مستشارا له يعني عدم اتهامه بأي تهمة من التهم الأربع الموجبة لعزله. كما غادر عرفان بعد سنة واحدة من تعيينه ولم يكمل مدته القانونية 4 سنوات؛ تفسير ذلك أن الجنرال وصل إلى مرحلة الطغيان الكامل الذي لا يلتزم فيه بدستور أو قانون، فهو الدستور وهو القانون دون أن ينطق أحد أو يعترض أحد. «3» أسباب سياسية السبب الأول هو سياسة الجنرال السيسي نفسه، والتي تبعث برسالة لكل المسئولين أنه لا أحد عزيز على الإقالة، وقد بدأ هذه السياسة الجديدة منذ أكتوبر الماضي عبر الإطاحة بصهره رئيس الأركان السابق محمود حجازي، وتواصلت مع وزير الدفاع السابق صدقي صبحي الذي كان شريكا للجنرال في الانقلاب على الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي وإجهاض المسار الديمقراطي الذي تأسس بعد ثورة 25 يناير 2011م، ثم الإطاحة بمستشاره الشخصي إبراهيم محلب، ومدير المخابرات السابق خالد فوزي الذي كانت تجمعه صداقة قوية بالسيسي منذ فترة طويلة. السبب الثاني، هو رغبة مدير الاستخبارات، اللواء عباس كامل، في إخلاء الدائرة المحيطة بالسيسي، والتي شكّلت أساسا من قيادات الاستخبارات والرقابة الإدارية، من أي شخصيات قوية يمكنها ممارسة تأثير مباشر على السيسي من ناحية، أو من ناحية أخرى تتمتع بقبول يمكّنها من سرقة الأضواء من الجنرال. وهذا العامل الأخير اتسم به عرفان في الفترة الماضية، عندما بدأ يجري تحركات فردية في صورة الرقابة والمتابعة لمشاكل وأزمات، ونشر هذه التحركات إعلاميًا، ومع تآكل شعبية السيسي حتى الحضيض كان عرفان محل ترحيب وإشادة من أركان الدولة العميقة وأبواق النظام الإعلامية، وعلى الأرجح خشية السيسي من شعبية عرفان حتى لا يتحول إلى بديل للسيسي نفسه يمكن الدفع به للرئاسة، وهو أيضا ذو خلفية عسكرية، في سياق معادلة إقليمية ودولية تستهدف تهدئة الأوضاع المشتعلة في مصر ووضع حد للتمزق المجتمعي الحاد الذي يعصف بالبلاد منذ انقلاب 03 يوليو 2013م. السبب الثالث هو الدفع بنجل السيسي الضابط مصطفى، الذي يعمل حاليا في المكتب الفني لرئيس هيئة الرقابة الإدارية ليكون هو الشخصية المحورية في الجهاز الرقابي، الذي بات الأكثر أهمية بعد تقليص صلاحيات الجهاز المركزي للمحاسبات، بعد أزمة الإقالة غير الدستورية لرئيسه السابق المستشار هشام جنينه، على خلفية تصريحاته عن حجم الفساد الذي وصل إلى 500 مليار جنيه. كما منح السيسي صلاحيات أوسع لهيئة الرقابة الإدارية بعد التعديلات التي أجريت على قانونها في 2017م، بما يضمن توسيع صلاحياتها واختصاصاتها بتوسيع سلطة التحري والكشف والضبط في جرائم الاستيلاء ومحاولة الاستيلاء على المال العام، والتربّح مقابل تحقيق المنفعة بالنسبة للموظفين العموميين وجميع شاغلي المناصب العامة بالجهات المدنية. وكذلك الجرائم المذكورة في قانون البنك المركزي بما في ذلك جرائم تهريب النقود الأجنبية، والجرائم المنصوص عليها في قانون زرع الأعضاء البشرية وقانون مكافحة الاتجار بالبشر، وغيرها من الملفات التي لم تكن تدخل في اختصاص الرقابة الإدارية من قبل. وكان نجل السيسي هو الشخصية الثانية في الجهاز بعد عرفان، ومع الإطاحة بعرفان الذي كان ضابطاً في الجيش لكنه كان متخصصاً في الملفات المالية والإدارية وحاصلاً على الدكتوراه في التجارة، مقابل سيرة ذاتية عسكرية عادية لخليفته شريف سيف الدين، الذي تقتصر علاقته بالمحاسبة بحصوله على بكالوريوس تجارة من جامعة عين شمس بنظام الانتساب. كما أنه بلا خبرة في مجال الرقابة الإدارية، ما يدفع تلقائيا إلى أن يصبح نجل السيسي هو الشخصية المحورية والأهم في الرقابة الإدارية. وهو ما يعزز قبضة السيسي الأمنية على جميع مفاصل الدولة من خلال الدور الكبير الذي تقوم الرقابة الإدارية باعتباره حكومة موازية أكثر صلاحيات من الحكومة نفسها.