في مثل هذا اليوم 9 يونيو 1967 وبعد الهزيمة بأيام، أعلن جمال عبد الناصر للشعب تنحيه عن رئاسة الجمهورية التي اغتصبها بالانقلاب على الرئيس محمد نجيب، وفي مفارقة لا تحدث كثيرًا، أو إن شئت الدقة لا تحدث على الإطلاق، أن يعلن ديكتاتور تنحيه بعد هزيمة عسكرية فادحة فتخرج مظاهرات جماهيرية تطالبه بالبقاء، أن تُفاجأ بعد أيام قليلة بدعاية إعلامية جبارة تبشر بالنصر الكاسح؛ فبدلًا من أن يعلقه الشعب على المشانق، كما توقع هو، يتمسك به ويهتف باسمه في جنون كما لو كان تمكّن من غزو تل أبيب كما أشاعت صُحفه!. ومع أن سائق القطار يحاكم عندما يخرج قطاره عن القضبان، وعامل المزلقان يحاكم بتهمة التقصير عندما يتسبب في حادث تصادم، فقد نجا عبد الناصر من المحاسبة بسبب حيلة التنحي التي كتب خطابها محمد حسنين هيكل. يقول الناشط سمير وهدان: "حسبنا الله ونعم الوكيل فيه.. كان فاسدا ظالما مستبدا.. ضيع البلد بجهله.. عليه من الله ما يستحق، وحوار التنحي كان تمثيلية هو أخرجها وأنتجها ومثلها.. اللي ما فيه حرب دخلها إلا واتمسح بكرامته الأرض". "لقد خسرنا المعركة، ليس بسبب أخطاء القيادات السياسية والعسكرية، ولكن لأن القوى الاستعمارية المتآمرة كانت تحارب إلى جانب إسرائيل"، هذه هي الكذبة الكبرى التي استطاع بها عبد الناصر استدرار عطف الجماهير البسيطة على قائدهم المحبوب الذي تكالبت عليه قوى الشر.. ألا تذكرك تلك المقولة بوريثه السفيه قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي؟. مسرحية التنحي بعد هذا التمهيد النفسي، ألقى عبد الناصر الكذبة الكبرى، فكشف عن الدول التي شاركت في الحرب إلى جانب العدو، فتحدث ناصر عن "حاملات طائرات أمريكية وبريطانية كانت بقرب شواطئ العدو تساعد مجهوده الحربي. كما أن طائرات بريطانية أغارت في وضح النهار على بعض المواقع في الجبهة السورية وفى الجبهة المصرية، إلى جانب قيام عدد من الطائرات الأمريكية بعمليات الاستطلاع فوق بعض مواقعنا". وأخيرا بعد كل هذا القصف الثقيل من الأكاذيب على نفوس الناس المتعبة، قال ناصر إنه قرر التنحي، وطبعا خرج الناس للشوارع يطالبونه بالبقاء، وكانت هذه هي بالضبط الخاتمة التي اختارها مؤلف مسرحية التنحي بعد أن حول الجمهور إلى ممثلين، فظن هؤلاء أنهم مشاركون وشركاء يصنعون التاريخ، مع أنهم كانوا مجرد كومبارس يعملون بلا أجر في مسرحية "إنقاذ البطل"، أو مسرحية "التنحي" التي يمر عليها اليوم 51 عاما بالتمام والكمال. ومن أشد المناصرين لفكرة أن ما قام به عبد الناصر من خطاب التنحي هي مجرد "مسرحية"، الكاتب المصري الدكتور جلال أمين، إذ يرى في كتاباته في أكثر من مقال، أن حزن عبد الناصر البادي على الشاشة مؤثر بالطبع، ولكنه لم يكن كافيا بالمرة لوضع حد لغضب الشعب بسبب الهزيمة العسكرية، لذلك لم نستطع أن نغفر له ما حدث، كما أننا وجدنا الكلام عن "اقتصاد الحرب"، "أي ضرورة الاستعداد الاقتصادي لحرب جديدة"، وهو ما بدأت في ترديده وسائل الإعلام بعد الهزيمة، فهي مجرد محاولة لذر الرماد في الأعين، إضافة للحديث عن خصائص الاشتراكية العربية ومزاياها. فيما روى صلاح نصر، الذي يعد أشهر رئيس للمخابرات العامة المصرية أثناء فترة حكم عبد الناصر، في مذكراته بشأن خطاب التنحي، "كنت أعلم مسبقا بالاتفاق بين عبد الناصر وعامر على ترك موقعيهما، لذلك لم يكن النبأ جديدا بالنسبة لي؛ ونظرت إلى ساعتي وقال حسن عامر "دي لعبة سياسية من عبد الناصر للتخلص من عبد الحكيم، الاثنان يتنحيان، ثم يعود عبد الناصر بتمثيلية ويترك عبد الحكيم"، وفجأة قطع صوت عبد الحكيم عامر حديثنا، قائلا: "فات الوقت يا حسن، واللي اتفقنا عليه هو من مصلحة مصر". فشل الممثلين! ويشير في مذكراته إلى أن عبد الناصر قد اتفق مع المشير على التنحي، وأن يستمر حكم الثورة من خلف ستار، وفكر عبد الناصر في تولية زكريا محيي الدين، وكان موجز اللعبة أن يقوم عبد الناصر بالتنحي، ويعين شخصا ما مكانه، ثم يتحرك الجهاز السياسي، وخلفه الشعب، مطالبا بعودة الزعيم باسم الشعب، وبعد ترشيح اسم زكريا محيي الدين كان عبد الناصر يخشى أن تفلت منه الفرصة، فألمح إلى رئاسة الاتحاد الاشتراكي كي تقود التظاهر وتحرك الجماهير، والواقع أن هناك جموعا كثيرة خرجت وراء عبد الناصر من تلقاء نفسها، ولكن الأمر الذي لا جدال فيه أن التنظيم السياسي كان لديه في اليوم تعليمات من رئاسته بالخروج والمناداة بعودة عبد الناصر". ولفت نصر بسخرية "من الأمور المضحكة المبكية أن بعض وحدات الاتحاد الاشتراكي التابعة للأقاليم أخطأت التقدير في الوقت، فوصلت إلى مشارف القاهرة قبل إعلان التنحي مساء التاسع من يونيو بساعة أو أقل، فتجمعت بعرباتها ولافتاتها في مداخل القاهرة؛ ووصل فوج بني سويف قبل إلقاء البيان بساعة". فيما ذكر أن اليوم السابق للتنحي كان عبد الناصر قد اتصل هاتفياً بحسنين هيكل ودار الحديث "الرئيس: خلاص يا حسنين زي ما اتفقنا. هيكل: يا خبر، أنا خايف لتفلت، الرئيس: ما تخفش.. برقبتي"، ويكمل نصر حديثه "كان يسيطر على ذهن عبد الحكيم عامر في ذلك الوقت، وبعد أن صُعد الخلاف، فكرة أن عبد الناصر يريد أن يجعل منه دمية، وتوقع أن يقوم عبد الناصر بالتنكيل بالضباط، فيصبح موقف عبد الحكيم عامر أشبه بموقف المتفرج من الأحداث". وفي مذكراته يقول عمرو موسى، وزير الخارجية في عهد المخلوع مبارك، إن عبد الناصر كان ديكتاتورًا قاد مصر إلى الهزيمة، مضيفا أن مظاهرات التنحي مسرحية، وأن عبد الناصر اختصر مصر في شخصه، فكل ما هو جيد له جيد لها، واعتبر أن سياسات عبد الناصر هي سبب اندلاع ثورة 25 يناير2011.