لن تتوقف العقول الشيطانية عن الكيد للثورة وأهلها؛ وذلك لأن المصدر الذى يوسوس إليها بالأفكار الخبيثة، هو نفسه الذى توعد بنى آدم بألا يتوقف عن الكيد لهم حتى قيام الساعة. وإذا كان الله يملى لأصحاب هذه العقول ليزدادوا إثما، فهو سبحانه وتعالى أيضا يبتلينا ويمحصنا ويختبرنا ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)). وكما أن حزب الشيطان فى محكمة مبارك السفلى يتذاكى علينا، يعتقد العلمانيون أنهم ملوك الفهلوة، وأن الإسلامى بالضرورة ساذج، ذو قابلية عالية ل"القرطسة".. وأنهم يستطيعون خداعه وتلبيس الأمور عليه بسهولة، بقليل من الكلام المنمق والمصطلحات القانونية. هذا التذاكى صورة من صور الفهلوة التى يمارسها بعض العامة من الكسالى الأفاقين الذين يسعون دائما للكسب الحرام دون تعب، أو بأقل جهد ممكن. وقد طالعت منذ يومين مقالين لاثنين من أساتذة العلوم السياسية -د. حسن نافعة ود. عمرو حمزاوى- يعبران بدقة عن التذاكى العلمانى فى قضية تسييس الجيش والشرطة، وذلك على خلفية الحكم الأخير الصادر من المحكمة الدستورية، والتى عين قضاتها الرئيس المخلوع. ولكن قبل تناول المقالين، أشير إلى تصريح فهلوى آخر أطلقه د. محمد نور فرحات وآخرون زعموا أنه "لا يجوز الاستفتاء على قرارات المحكمة الدستورية وفقا لأحكام الدستور". ولكنى نظرت فى الدستور فلم أجد نصا واحدا يمنع استفتاء الشعب على أحكام "الدستورية".. بل على أى حكم قضائى. وما دام أن هذه المحكمة تتذرع بحرفية النصوص فى إصدار أحكامها، وأن قرارها بتصويت أفراد الجيش والشرطة جاء على أساس أنه لا يوجد نص صريح يحظر التصويت عليهم، على الرغم من وجود نص يحظر عليهم ممارسة السياسة بكل أشكالها.. فيجب علينا أيضا أن نتذرع بمبدأ أن الأصل فى كل شىء الإباحة، وأن التحريم لا يكون إلا بنص. وما دام أنه لا يوجد نص دستورى واحد يحرم استفتاء الشعب على أحكام هذه المحكمة أو أى محكمة أخرى، فإننا نطالب السيد الرئيس بدعوة الشعب إلى الاستفتاء على جميع الأحكام المسيسة التى تغولت على السلطتين التنفيذية (قرارات رئاسية) والتشريعية (حل البرلمان ومشاريع قوانين الشورى).. استفتاء يشرف عليه القضاة الشرفاء، أيا كانت أعدادهم، ومهما تعددت مراحل الاستفتاء وطال زمنه. إن هناك نصا دستوريا واضحا يقول إن "لرئيس الجمهورية أن يدعو الناخبين للاستفتاء فى المسائل المهمة التى تتصل بمصالح الدولة العليا، ونتيجة الاستفتاء ملزمة لجميع سلطات الدولة"، وعلى رأسها بالطبع السلطة القضائية. فهل هناك قضية ترتبط بمصالح عليا أخطر من تصويت العسكر والشرطة؟ أما "المساواة" التى تتذرع بها "الدستورية" لتبرير فضيحتها الأخيرة، فهى لا تعنى الإطلاق، وإنما تعنى المساواة المستوعبة للاختلافات القائمة بين الناس.. وإلا ما كان القرآن ليجعل القوامة للرجل على المرأة، على الرغم من أنه يساوى بين الاثنين.. وإلا ما كنا فرضنا التجنيد على الرجل دون المرأة، على الرغم من أن الدستور يساوى بينهما. أيضا فإن المساواة بين المدنى والعسكرى لا تعنى أن نتجاوز عن حقيقة أن أحدهما تتطلب مهنته حمل السلاح، ومن ثم فهو لا يصلح لأن يمارس أيا من أشكال الممارسة السياسية. إن المدنيين عندما يحتدم الخلاف السياسى بينهم، لن يتصارعوا إلا بالكلمات. أما من يحملون السلاح، فلا ينبغى أبدا أن نشغلهم بكل ما من شأنه إثارة الفتن والقلاقل بينهم. هذه أمور بديهية وواضحة، إما أنها غابت عن قضاة الدستورية بسبب غشاوة الكراهية للإسلاميين التى أعمت بصرهم وبصيرتهم، وإما أنها كانت حاضرة فى أذهانهم ولم يبالوا بعواقب ما يدعون إليه لأنهم يفكرون بمنطق أشباههم فى جبهة الخراب: "تتحرق مصر ومايحكمهاش الإخوان". وفى كلتا الحالتين فإن هؤلاء القضاة أثبتوا أنهم عار على قضاء مصر وغير مؤهلين لحمل أمانته. أما السيد عمرو حمزاوى الذى فضح موقفه من الديمقراطية العام الماضى، عندما طالب الدكتور مرسى -بعد فوزه فى الجولة الأولى بانتخابات الرئاسة- بالتخلى عن موقعه لحمدين صباحى حتى تكون المنافسة على المنصب بين صباحى وشفيق، وكأن أصوات الناخبين ليست أمانة، ليس من حق أى مرشح أن يتنازل عنها لآخرين (وهى الفضيحة التى كان يجب على حمزاوى إزاءها أن يتوارى خجلا)، فإنه آخر من يجوز له الحديث عن الديمقراطية.. ولكن ماذا نفعل عندما ينعدم الحياء؛ فنراه يدافع باسم الديمقراطية عن قرار "الدستورية" بتصويت العسكر؟ طبقا لفهلوة الحمزاويين، فإن المطلوب فقط هو التصويت.. لا دعاية ولا تحزب ولا لقاءات ولا مؤتمرات. يقول حمزاوى إن "اليمين الدينى" -يقصدنا نحن- يصدر "مقولات زائفة تفرّغ الديمقراطية والإرادة الشعبية من معانيهما، لأن القوانين المصرية تستطيع أن تحظر الدعاية الحزبية والانتخابية بالقوات المسلحة وهيئة الشرطة وأن تمنع النشاط الحزبى والسياسى بالكامل بالجهتين". إذن كيف يتعرف الناخب العسكرى على المرشحين؟ لماذا لا يتساوى العسكر مع المدنيين فى حق التعرف على مختلف المرشحين والالتقاء بهم والتحاور معهم؟ كيف يختار الناخب بين المرشحين ويحدد موقفه منهم دون دعاية ومؤتمرات ولقاءات.. أم أن المطلوب فقط أن يصوت طبقا لما يأمره به قادته العسكريون؟ لماذا تكون المساواة فقط فى حق التصويت؟ لا أظن أن الإجابة تخفى عن أحد؛ فالشرطة والجيش مؤسستان علمانيتان منذ ستة عقود؛ وبالذات فى الشرطة، يصعب جدا أن ترى ضابطا يقول كلاما طيبا عن (الإخوان)؛ فالضباط يرضعون كراهية (الإخوان) فى أكاديمية الشرطة. هذا واقع مكشوف للجميع. غير أن الحمزاويين الفهلوية يستخفون بالعقول كعادتهم. ثم لم يقل لنا الحمزاويون: أين كان كل هذا الحماس لحق تصويت العسكر من قبل؟ أم أنهم يتحركون ويتحمسون فقط عندما يأذن لهم المايسترو الذى يديرهم، تماما كما رقصوا على جثة البرلمان السابق؟. أما السيد نافعة -الذى كان أحد المحرضين على انقلاب الجيش على الرئيس- فيرى أن "عملية التحول الديمقراطى باتت محشورة بين مطرقة الجماعة وسندان الجيش"، بينما هى فى الحقيقة محشورة بين مطرقة المحكمة الدستورية وسندان جبهة الخراب. ويقول: إن "رفض الجماعة منح أفراد الجيش حق التصويت لا يعود إلى خشية من تسييس الجيش بقدر ما يعود إلى خوف من اتجاهات التصويت داخل الجيش الذى تعتقد أنه لا يمكن أن يكون لصالحها بأى حال من الأحوال". والصحيح أن أى وطنى حريص على الثورة والديمقراطية يجب أن يشعر بالرعب من أى اقتراب للعسكر إلى الساحة السياسية. غير أن المواقف تستمر فى فرز الأدعياء الذين يسمون أنفسهم "مدنيين"، وهم عشاق للبيادة حتى النخاع. إن السماح بالتصويت للعسكر خطوة أولى وضرورية للانقلاب على الحكم، ليس بالسلاح وإنما بالتزوير.. فكرة شيطانية جديدة للتزوير من رفاق مبارك فى العلمانية. ويفضح نيتهم فى التزوير ما يقولونه هم على أنهم لا يريدون سوى التصويت. يقول نافعة أيضا بفهلوة مكشوفة: "إن العقبة الكأداء فى طريق التحول الديمقراطى لا تكمن فى السماح لأفراد الجيش والشرطة بالتصويت، وإنما فى وجود جماعة دينية يقوم تنظيمها على مبدأ السمع والطاعة، ولا تزال تصر على ممارسة السياسة". بتعبير آخر، هذه مقابل تلك. إنه اعتراف آخر بعجزهم أمام الصندوق، وأنه لا خيار للاستقواء على الشعب إلا بتسييس الجيش بعد أن نجحوا فى تسييس القضاء والإعلام. لقد كان الرد على حكم حل البرلمان هو إعلان نوفمبر الدستورى، فكيف سيكون الرد على حكم تسييس الجيش.. هذا الرد يجب أن يتشاور حوله الرئيس مع الثوريين الحقيقيين، ويجب أن يكون حاسما وقاصما.