لم يهتم القرآن الكريم بتلقين الناس التعاريف، فلا تجد فى القرآن سورة تُحدِّثك عن الإيمان، ولكنها تُحدِّثك عن المؤمنين وقد اصطبغوا بصبغة الإسلام، فجعل الإيمان حياة تُرى، فإن أردت تعريفًا للإيمان فهو حياتهم، وإن أردت وصفًا للإسلام فهو سلوكهم، وإن أردت تطبيقًا فهو واقعهم، وأنت ترى كتاب الله تعالى عارضًا مؤمن يس، ومؤمن فرعون، وسحرته أصحاب الموقف المعروف الذى خلَّده القرآن، حين قال لهم فرعون: (فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ولأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ولَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وأَبْقَى* قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا* إنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ومَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ واللَّهُ خَيْرٌ وأَبْقَى)(طه: 71 -73). ثم أعطانا القرآن صورة لحياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، التى وجدناها ترجمة حيَّة لنصوصه، حتى أصبح خُلُقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، فكانت حياته ترجمة لنصوص القرآن، فمن أراد تفسير نصٍّ بحث عنه فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك أثنى عليه القرآن فقال:(وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، فأنت تراه -صلى الله عليه وسلم- أعلم الناس وأتقاهم وأخشاهم وأحلمهم وأسخاهم وأعطفهم، يخصف النَّعْل ويخدم فى مهنة أهله، ولقد تأثر الصحابة به صلى الله عليه وسلم فتأسّوا به واقتدوا بنهجه رضوان الله عليهم أجمعين؛ ولذلك رأينا القرآن لكى يُعمِّق الإيمان فى قلوب المؤمنين أعطاهم صورة مشرقة عن حياة الصحابة مع رسولهم صلوات الله وسلامه عليه، وأنت تجد القرآن إذا تكلم عن الذين آمنوا يربط إيمانهم بالعمل، ربطا متلازما، فلا يذكر الإيمان إلا ومعه العمل (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) (البقرة: 25)، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97)،(إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) (مريم: 96). وصدق الرسول الكريم حين قال فى حديث ما معناه: "ليس الإيمان بالتمنِّى ولا بالتحلِّى، ولكن ما وَقَر فى القلب وصَدَّقه العمل، وإن قوما ألهتهم الأمانى وخرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا نُحْسِنُ الظنَّ بالله، وكذبوا؛ لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل". من صفات عمر بن الخطاب رضى الله عنه: كما أخرج ابن عساكر عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال: ما علمت أحدا هاجر إلا متخفيا، إلا عمر بن الخطاب؛ فإنه لما همَّ بالهجرة تقلَّد سيفه، وتنكَّب فرسه، وانتضّ فى يده سهما، فأتى الكعبة -وأشراف قريش بفنائها– فطاف سعيا، ثم صلَّى ركعتين عند المقام، ثم أتى حلقهم واحدة فواحدة فقال: شاهت الوجوه، من أراد أن تثكله أمه، ويؤتم ولده، وترمَّل زوجته، فليلقنى وراء هذا الوادى، فما تبعه منهم أحد. هؤلاء هم الرجال الذين تخرجوا من دار الأرقم، مُعلِّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهاجهم القرآن، دانت لهم الدنيا بعد أن كانوا حفاة عراة، وعزُّوا بالإسلام بعد أن كانوا أذلة.. فأين نحن من هؤلاء تربية ومنهاجا؟ ألا نستحيى من الله أن نسأله النصر وهذا حالنا؟ البون شاسع؛ ففرقٌ بين من حفظوا نصوص القرآن وتعريف الإيمان، ومن جعلوا النصوص حياة، والتعاريف واقعا ملموسا، إنه الفرق بين الثرى والثريا. المؤمنون والإيمان والعمل: كم مسلما يستطيع أن يعطيك تعريفا دقيقا إن سألته؟ وكم مسلما يستطيع أن يحدِّد لك معانى الإيمان والإسلام والإحسان، ويفرق بينها؟ وكم مسلما يجيبك إذا سألته فى أدق أحكام الإسلام إجابة شاملة؟ عددٌ لا يحصى، فما أكثر النسخ المكررة من الكتب الإسلامية والعلوم الدينية التى يحملها كثير من المسلمين فى عقولهم ويحفظونها فى رءوسهم، ولكن كم مسلما يعمل بما يقول؟ ويتخلَّق بخُلُقِ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ويخشى من قول الله عز وجل فيمن يقولون ما لا يفعلون: (كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3)، ويا لها من صفة تنفر منها الطبائع الكريمة والنفوس السليمة فى قول الله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ واللَّهُ لا يَهْدِى القَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5). وما أُحِبّ أن أُعلِّق هنا بشىء؛ لأنى أريدك أن تسأل نفسك عن مبلغ رضاك واطمئنانك إلى سداد هذه الإجابة التى تصل بينك وبين هذه المعانى بصلات قلبية وثيقة.. فعليك يا أخى بهذا النَّهج الفطرى العملى، فإنه نهج يعرض عن كل ما لا تأثير له بالموضوع، ويتناول ألوان الأحاسيس التى هى ثمرة ذلك كله، والتى ينبعث الإنسان بقوَّتها إلى البر أو الإثم. معالم الشخصية الإسلامية: وبعد هذا الوضوح الذى رأيت فى معانى الإيمان العملية وصفات المؤمنين التطبيقية، نستطيع أن نُحدِّد معالم الشخصية الإسلامية المطلوب تحقيقها، فنقول: - إنها شخصية ربَّانية تعرف ربها، وتعرف حقيقة ذاتها ورسالتها فى الوجود. - تتلقى منهج حياتها من خالقها رب العالمين. - تتعهَّد نفسها بالتربية والتنمية لتحقق استخلاف الله لها فى الأرض بإقامة الإسلام فى نفسها أولاً. - دعوة غيرها لهذه الرسالة السامية، ودين الله القويم، وصراطه المستقيم بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتى هى أحسن؛ ليتحقق واقع الجماعة المسلمة الرائدة التى تحمل هذه الأمانة. - تحقق الشخصية الجماعية التى تقيم منهج الله سبحانه على أرض الواقع؛ لتكون كلمة الله هى العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، ولتقام خير أمة أُخْرِجت للناس بالوسائل التى ذكرناها سلفا. وشخصية هذه معالمها وهذه أخلاقها، وهذا منهاجها، لا بد أن تصقل وتمحص لتعمق جذورها ويشتد عودها، وتمتد فروعها، وتؤتى أُكُلها كل حين بإذن ربها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بابتلائها بلاء شديدا؛ لتأخذ الكتاب بقوة، وتؤدى الأمانة بدقة، وتنفذ ما عهد إليها، متبعة لا مبتدعة، لا تخشى فى الله لومة لائم. تابع تسخيرَه الكونَ لمحمد صلى الله عليه وسلم: وعِش ما أورده البخارى عن البراء رضى الله عنه لترى كيف سخَّر المولى ما فى هذا الكون للمؤمنين على يد رسوله الأمين، صلى الله عليه وسلم، روى البخارى عن البراء رضى الله عنه قال: تعُدُّون أنتم الفتح (فتح مكة) وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نَعُدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر مائة والحديبية بئر فنزحناها، فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء، فتوضأ ثم تمضمض، ودعا ثم صبَّه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا وركائبنا. كما روى البخارى أيضًا من حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطلَّ يوم الحديبية على الثنية التى تهبط به على قريش بركت ناقته فزجرها فألحَّت فقالوا: خلأت القصواء (أى حرنت)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، ثم قال: والذى نفسى بيده لا يسألوننى خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت فعدل عنهم، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل من الماء يتبرضه الناس تبرضا، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشُكِى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش فانتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنانته سهما، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالرِّى حتى صدروا عنه. وهكذا ترى الكون وما فيه مسخرا للإنسان تذليلا كى يعيش فيه، ومعينا للمؤمنين ليحققوا رسالة الله سبحانه وتعالى على الأرض ومهلكا للكافرين؛ ليكونوا عظة وعبرة لمن خلقهم: (وسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) (إبراهيم: 45)،أفبعد هذا يعبد الإنسان بعض ما فى الكون؟!.. قضية مؤمن بنى إسرائيل: عن أبى هريرة رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر رجلا من بنى إسرائيل سأل بعض بنى إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتنى بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدا، قال: فائتنى بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمَّى، فخرج فى البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبا يركبه يقدم عليه الأجل الذى أجَّله، فلم يجد مركبا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أنى كنت تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألنى كفيلا، فقلت كفى بالله كفيلا، وسألنى شهيدا، فقلت كفى بالله شهيدا، فرضى بذلك، وإنى جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذى له فلم أقدر، وإنى أستودعكها، فرمى بها فى البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف هو فى ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذى كان أسلفه ينظر لعلَّ مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التى فيها المال، فأخذها لأهله حطبا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذى كان أسلفه فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدا فى طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذى أتيت فيه، قال: هل كنت قد بعثت إلىَّ بشىء؟ قال: أخبرك أنى لم أجد مركبًا قبل الذى جئت فيه، قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذى بعثت فى الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدا. هكذا كان حال المؤمنين السابقين مع ربهم، يوقنون بأنه القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، وأن السماوات والأرض ومن فيهن من خلقه مربُوبون طائعون يخضعون لألوهيته وربوبيته على حدٍّ سواء، فأتَنَسُوا بالكون واطمأنوا له ولم يرهبوه، بل هو معين لهم ومسخَّر.