فترات الكفاح ضد الاستعمار الأجنبى والاحتلال الوطنى يجب أن تأخذ حقها فى التدوين والتأريخ، لأنها أيام تحمل الكثير والكثير من الآلام، والأشجان، والمحن، ضَلَّ فيها من ضل، وزل فيها من زل، وثبت فيها من ثبت، وعلا فيها رجال، وصمد فيها أبطال، ودفعوا من سعادتهم، وأوقاتهم، ودمائهم، بل حياتهم الشىء الكثير الذى يجب أن يُوضع على دروب السالكين، وسبل القاصدين، وطرق المكافحين. مرت على الأمة حوادث، ووقائع، ومهازل يجب أن تنتفع بها، وأن تعتبر منها حتى تصحو على نهار لا على ليل، وتستيقظ على ضياء لا على ظلمات، والوقائع والدروس خير مُعَلِّم، وأفضل رائد، فطريق البغى واحدة، وأساليبها مكرورة، وزبانيتها متشابهة، وجلادوها على كلمة سواء، ترى الظالم الأجنبى أو الوطنى يراوغ ليخدع ويمكر ليضلل، يتظاهر بالعدالة، وهو أس الظلم والحيدة، وهو القاضى والمدعى، أو الجانى والحكم، وقد أرَّخ الوطنيون لكثير من المحاكمات الهزلية، والجلسات العسكرية التى استعملت فى أعصر متفاوتة لإجهاض الكفاح ضد المظالم، ووأد النهضات وكبت الحريات، ولنضرب أمثلة فى العصر الحديث لرجال أرَّخوا تلك الفترات. فنرى الشاعر أحمد شوقى الذى كان شاهدًا لواقعة دنشواى، وللمحاكمة الهزلية العسكرية التى ألفها المستعمر من قضاة اشتراهم بالمال والمناصب، وكان رئيس قضاة تلك المحكمة: أحمد فتحى زغلول، كان قاضيا لمحكمة ابتدائية فرقى بعد المحاكمة إلى وكيل وزارة الحقانية، وأُعطى الباشوية بأمر اللورد كرومر، حاكم مصر الإنجليزى، لأنه حكم بأمر الإنجليز على المصريين بالإعدام، فأرَّخ لذلك شوقى قائلا: يا دنشواى على رُبَاكِ سلامُ * ذهبتْ بأُنْسِ ربُوعك الأيامُ شهداءُ حكمك فى البلاد تفرقوا * هيهات للشمل الشتيت نظامُ مرت عليهم فى اللحود أهلَّةٌ * ومضى عليهم فى القيود العَامُ كيف الأراملُ فيك بَعْدَ رجالها؟ * وبأى حالٍ أصبح الأيتامُ؟ (نَيْرونُ) لو أدركتَ عهدَ كرومرٍ * لعرفتَ كيف تنفذ الأحكامُ السوط يعمل والمشانق أربعٌ * متوحِّدات والجنودُ قيامُ والمستشار إلى الفظائع ناظرٌ * تدمَى جُلود حوله وعظامُ وعلى وجوه الثاكلين كآبةٌ * وعلى وجوه الثاكلات رُغامُ وكان عمر الظالمين قصيرا، فقامت ثلة وطنية بقيادة مصطفى كامل واستطاعت أن تفضح ظلمه فعزلته إنجلترا عن حكم مصر، فشيعه شوقى بقصيدة من المطولات منددا، قال فيها: أيامكم أم عهد إسماعيلا؟ * أم أنت فرعون يسوس النيلا؟ أم حاكم فى أرض مصر بأمره * لا سائلًا أبدًا ولا مسئولا لما رحلت عن البلاد تشهدت * فكأنك الداء العياء رحيلا وتبنى الأمم بتاريخها الناصع على أكتاف رجال عمالقة وعزائم عظيمة ومثل كريمة تستطيع وضع بصمة على جبين الأمة وعلى عقول شبابها إذا التفتت إلى هويتها وتاريخها ووعت واقعها واقتدت بمثلها، وحرصت على التتلمذ على رجال الصدق، الذين تتحقق فيهم صفات القدوة من الإخلاص، والعمل الصالح، وعلو الهمة، وموافقة القول العمل، والسعى نحو الهدف العظيم، فهؤلاء ثروة ينهل منها أهل الفلاح والرشاد. وأمامنا الآن شخصية بطل قدوة سنلقى الضوء عليها كقدوة للأجيال ومثل تحتاج الأمة إلى التأسى به، وهو: عمر المختار محمد فرحات ابريدان امحمد مومن بوهديمه عبد الله، بطل ليبيا وعملاق تاريخها النضالى، تربى يتيما، حيث وافت المنية والده المختار بن عمر وهو فى طريقه إلى مكةالمكرمة، وكانت بصحبته زوجته عائشة. بعد الانقلاب الفاشى فى إيطاليا فى أكتوبر 1922، وبعد الانتصار الذى تحقق فى تلك الحرب إلى الجانب الذى انضمت إليه إيطاليا، تغيرت الأوضاع داخل ليبيا، واشتدت الضغوط على السيد محمد إدريس السنوسى، واضطر إلى ترك البلاد، عاهدًا بالأعمال العسكرية والسياسية إلى عمر المختار، فى الوقت الذى قام أخوه الرضا مقامه فى الإشراف على الشئون الدينية. تظاهر الحاكم الجديد لليبيا برغبته فى السلام لإيجاد الوقت اللازم لتنفيذ خططه وتغيير أسلوب القتال لدى جنوده، وطلب مفاوضة عمر المختار، تلك المفاوضات التى بدأت فى 20 إبريل 1929م، وعندما وجد المختار أن تلك المفاوضات تطلب منه إما مغادرة البلاد إلى الحجاز أو مصر أو البقاء فى برقة وإنهاء الجهاد والاستسلام مقابل الأموال والإغراءات، رفض كل تلك العروض، وكبطل شريف ومجاهد عظيم عمد إلى الاختيار الثالث وهو مواصلة الجهاد حتى النصر أو الشهادة، واستمر جهاده عشر سنوات، وفى معركة السانية فى شهر أكتوبر عام 1930م سقطت من الشيخ عمر المختار نظارته، وعندما وجدها أحد جنود الطليان وأوصلها لقيادته، رآها غراتسيانى فقال: "الآن أصبحت لدينا النظارة، وسيتبعها الرأس يومًا ما". وفى 11 سبتمبر من عام 1931م، وبينما كان الشيخ عمر المختار يستطلع منطقة سلنطة فى كوكبة من فرسانه، عرفت الحاميات الإيطالية بمكانه فأرسلت قوات لحصاره ولحقها تعزيزات، واشتبك الفريقان فى وادى بوطاقة، ورجحت الكفة للعدو فأمر عمر المختار بفك الطوق والتفرق، ولكن قُتلت فرسه تحته وسقطت على يده، مما شل حركته نهائيًّا، فلم يتمكن من تخليص نفسه، ولم يستطع تناول بندقيته ليدافع عن نفسه، فسرعان ما حاصره العدو من كل الجهات وتعرفوا على شخصيته، فنقل على الفور إلى مرسى، كان لاعتقاله فى صفوف العدو، صدىً كبيرًا، حتى أن غراسيانى لم يصدّق ذلك فى بادئ الأمر، وغراسيانى هو أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية.. حديث دار بين المجاهد المختار والمحتل غراسيانى، يذكر غراسيانى فى كتابه: "وعندما حضر أمام مكتبى تهيأ لى أن أرى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم فى أثناء قيامى بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التى أصيب بها فى أثناء المعركة، وكان وجهه مضغوطا لأنه كان مغطيا رأسه (بالَجَرِدْ) ويجر نفسه بصعوبة نظرًا لتعبه فى أثناء السفر بالبحر، وبالإجمال يخيل لى أن الذى يقف أمامى رجل ليس كالرجال، له منظره وهيبته على الرغم من أنه يشعر بمرارة الأسر، ها هو واقف أمام مكتبى، نسأله ويجيب بصوت هادئ وواضح: غراتسيانى: لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشستية؟ أجاب الشيخ: من أجل دينى ووطنى. غراتسيانى: ما الذى كان فى اعتقادك الوصول إليه؟ فأجاب الشيخ: لا شىء إلا طردكم.. لأنكم مغتصبون، أما الحرب فهى فرض علينا، وما النصر إلا من عند الله. ويكمل غراسيانى حديثه: "وعندما وقف ليتهيأ للانصراف كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به، فارتعش قلبى من جلالة الموقف، أنا الذى خاض معارك الحروب العالمية والصحراوية ولقبت بأسد الصحراء، ورغم هذا فقد كانت شفتاى ترتعشان، ولم أستطع أن أنطق بحرف واحد". وعقدت للشيخ الشهيد محكمة هزلية صورية فى مركز إدارة الحزب الفاشستى ببنغازى مساء يوم الثلاثاء عند الساعة الخامسة والربع فى 15 سبتمبر 1931م، وبعد ساعة تحديدًا صدر منطوق الحكم بالإعدام شنقًا حتى الموت، ويحاول القاضى أن يغريه بالعفو العام مقابل أن يكتب للمجاهدين أن يتوقفوا عن قتال الإيطاليين.. فينظر إليه عمر المختار ويقول كلمته المشهورة: إن السبابة التى تشهد فى كل صلاة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لا يمكن أن تكتب كلمة باطل، وهكذا فعل سيد قطب رحمه الله عندما طلب منه أن يطلب الرحمة من عبد الناصر قال: "إن السبابة التى تشهد لله بالوحدانية فى الصلاة لا تكتب كلمة تأييدا لطاغية"، نعم إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئًا كبيرًا بشرط واحد، هو أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم. كانت آخر كلمات عمر المختار قبل إعدامه: "نحن لا نستسلم.. ننتصر أو نموت.. وهذه ليست النهاية.. بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التى تليه.. أما أنا.. فإن عمرى سيكون أطول من عمر جلادى". وهكذا كان أبطال الإسلام دائما فى كل وقت وحين، مثلا فى التاريخ وذخرا فى الأجيال.. رحم الله هؤلاء الأبطال ونفعنا بهم وجعلهم ذخرا لأمتهم.. آمين.