بعدما استلم الفاشيون الحكم في إيطاليا قويت عزيمتهم لغزو ليبيا فاشتدت الضغوط على محمد بن إدريس السنوسي مما اضطره لمغادرة ليبيا واللجوء إلى مصر، وعهد بالأمور السياسية والعسكرية إلى عمر المختار شيخ الشهداء وأسد الصحراء، فبدأ جهاده للطليان وعمره 53 عامًا، ولمدة عشرين سنة اشتبك معهم فيما يقارب ألف معركة أنهك فيها المحتل وكبده خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات. لقد أبهر عمر المختار العالم ببطولاته وذكائه في إدارة معاركه؛ فبالرغم من ضعف إمكاناته وقلتها في مواجهة جيوش الاحتلال الإيطالي الجرارة وأسلحته الثقيلة والتآمر الدولي ضده، فقد انتزع من العدو اعترافًا ببطولاته حيث قال عنه موسولوني: إننا لا نحارب ذئابًا كما يقول غراتسياني بل نحارب أسودًا يدافعون بشجاعة عن بلادهم... إن أمد الحرب سيكون طويلًا. لقد كان تميز عمر المختار عن أقرانه بارزًا منذ بلوغه، وكان متصفًا بالصفات التي أهلته للقيادة مثل الشجاعة والذكاء والحكمة. وعندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد، كان عمر المختار الشاب من ضمن القادة الذين انتدبوا للتصدي له، فأبلى بلاءً حسنًا حتى قال فيه محمد المهدي السنوسي: لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا، فكان رجل المهمات الصعبة بحق مهما كانت هذه المهمات. وقد ظل يجاهد ببسالة وشرف إلى آخر حياته حتى استشهد وهو في الثالثة والسبعين من عمره، وكان آخر كلمة قالها للمستعمر قبل استشهاده: نحن لا نستسلم ننتصر أو نموت وهذه ليست النهاية، بل سيكون عليكم أن تحاربوا الجيل القادم والأجيال التي تليه، وأما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر شانقي. وهكذا غادر المجاهد الكبير بعدما باع الدنيا وزينتها زهدًا فيها ورغبة فيما عند الله تعالى كما قال الشاعر: عليه ثياب لو تقاس جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا وفيهن نفس لو تقاس ببعضها نفوس الورى كانت أجل وأكبر إن هذا البطل الذي حفر اسمه بأحرف من نور في سجل الخالدين، وأصبح علمًا على الحرية ومقاومة الظلم، كان هو بالذات ملهمًا للثورة الليبية الحديثة في الربيع العربي. إن هذا البطل ذاق مرارة اليتم صغيرًا، حيث توفي والده وهو طفل في رحلة إلى الحج، وأوصى صديقه حسين الغرياني أن يتولى تربية عمر وأخيه محمد، فنهض الرجل الصالح بالأمانة على أحسن وجه، فرباهما على حفظ القرآن ومكارم الأخلاق والتقوى والورع، وخص عمر المختار بدراسة علوم الشريعة وكان فقيهًا يختم القرآن كل سبعة أيام. إن هذه التربية التي كفلها مجتمع الرحمة هي التي خرجت هذا البطل العظيم والمجاهد الخالد والورع التقي. فمجتمع الرحمة الذي يجد فيه اليتيم والمسكين والفقير مكانًا ورعاية هو أحد الثمرات الحقيقية للمجتمع المبني على قيم الإسلام وتعاليمه فلا تمييز ولا عنصرية ولا حرمان ولا طبقية ولا ظلم ولا قهر. وكم بين الأيتام من كنوز ثمينة ودرر نفيسة وشخصيات متميزة ممن ظلموا بالقسوة والإهمال ولو وجدوا من أحسن التعامل معهم وأخذ بأيديهم إلى الخير لقدموا خدمات جليلة وإنجازات فذة نافعة للأمة بل وللبشرية جمعاء. إننا سننجح بلا شك لو بذلنا ما نستطيع بإخلاص من أجل تحويل مجتمعاتنا إلى مجتمعات الرحمة والتكافل ومراعاة الاحتياجات الإنسانية للفئات الضعيفة والمهمشة، وفي مقدمتها الأيتام فيشعرون بأنهم عناصر فعالة في مجتمعهم، ومسهمون إيجابيًا في تنميته، وحسب الأيتام فخرًا أن سيد البشر وأفضل الرسل مات والده وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو ابن ست سنين فذاق اليتم صغيرًا. ومن أجل بناء مجتمع الرحمة والتعاطف ونزع مسببات الأحقاد قال: إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، وخص اليتيم بمزيد عناية فقال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى. • أكاديمى وكاتب قطرى