بثت قناة الجزيرة فيلم "العساكر"، وقلبت مواجع شعب يشرب ويأكل وينام ويتزوج ويتناسل وينجب بالخطوة العسكرية "معتدل مارش"، فيما أكد مراقبون أن العسكر يضعون أصابعهم في كل كبيرة وصغيرة وأدق تفاصيل الحياة المدنية في مصر. ومثال على ذلك قرار تدريس مادة "التربية العسكرية" كمادة أساسية إجبارية من مواد الدراسة لطلاب الجامعات الخاصة، أسوة بالجامعات الحكومية والمعاهد العالية، تحت مزاعم تنمية الوعي العسكري وغرس روح الولاء والانتماء للوطن لدى الطلاب! بعد ذلك أثيرت تساؤلات كثيرة طرحها تعيين "جنرال عسكري" وزيرا للتموين، بعد ضجة إقالة الوزير السابق "خالد حنفي"، إثر إثارة قضية إقامته في فندق 5 نجوم بالقاهرة منذ توليه الوزارة، بتكلفة تجاوزت 7 ملايين جنيه، و"اتهامات بالفساد" تلاحقه يجرى التحقيق فيها حاليا، في ظل مسلسل الأزمات المعيشية، التي يعاني منها السواد الأعظم من المصريين، ومطالبات السيسي للشعب بالتقشف. تحالف 30 يونيو اختار "العسكرة" في انقلاب يوليو 1954، بدأت عسكرة الدولة المصرية رويدا رويدا التي كانت مدنية في عهد الملك فاروق، وحل الأحزاب السياسية وأسس ما يعرف بالاتحاد الاشتراكي وهو كيان سياسي يديره النظام العسكري، ويدين بالولاء للجنرال القابع في السلطة. زج عبدالناصر بقادة الجيش في الاتحاد الاشتراكي للسيطرة على كل مفاصل البلاد، لتصبح مصر على ما هي عليه الآن، دولة تحكمها عصابة بمنطق البيادة العسكرية، جيشها عبارة عن مؤسسة جشعة تمامًا مهمته حماية الرئيس وأمن كرسيه وعائلته وأعوانه وكل ما نهبوه وسرقوه من خيرات البلد". القيادي في حركة الاشتراكيين الثوريين، محمود عزت، أكد ل"الحرية والعدالة" أن "التحالف السياسي ل30 يونيو كان جزءا من انقلاب 3 يوليو"، مضيفًا "كل القوى المدنية في تحالف 30 يونيو اختارت من البداية عسكرة حراكها بالتحالف مع القوات المسلحة، ومن ثم كانت النتيجة محتومة، وهي حكم عسكري". وتابع: "الانقلاب العسكري ضللهم، وخدعهم، ورفض إشراك مدنيين معه في الحكم، وفرض قوانينه وقراراته على الجميع". بالأسماء.. 23 لواء يسيطرون على حركة المحافظين في حكومة الانقلاب الجنرالات.. أولا تعيين الجنرالات وزراء ومحافظين، طرح قضية “عسكرة الدولة”، رغم نص الدستور في ديباجته على أن “مصر دولة ديمقراطية نظام حكمها مدني”، وأن “الشعب هو مصدر السلطات”، فإن هذه النصوص صارت مجرد “حبر على ورق”، في ظل سيطرة ذوي الخلفيات العسكرية -الشرطة والجيش- على معظم مناصب الدولة ذات الثقل والأهمية، في غياب واضح للمدنيين من الكفاءات المؤهلة لإدارة شئون البلاد في هذه المرحلة الحرجة. أضف إلى ذلك عدم ثقة "الجنرال السيسي" في المدنيين، والحاجز النفسي بين "العسكريين" الذين يحكمون، ويتحكمون في كل شيء، وبين المدنيين الذين يشعرون بأنهم "ينفذون تعليمات". الأمر الذي يطرح “عسكرة الدولة”، ليس من خلال التعديلات الوزارية فحسب، بل وصلت إلى أدق مفاصل الدولة حيث الأجهزة التنفيذية والإدارية، فتم احتكار مناصب رؤساء المدن والمراكز بشتى محافظات مصر لصالح العسكريين ذوي الخلفيات الأمنية، سواء من الجيش أو الشرطة، كما أن حركة المحافظين الأخيرة كشفت عن التوجه الجديد للنظام الحالي في سيطرة جنرالاتهم على محافظات مصر، بدءًا من الإسكندرية حتى أسوان، مرورًا بمحافظات الوجه البحري والقبلي على حد سواء، وفي نظرة سريعة على أسماء المحافظين نجد أن هناك 15 جنرالاً يتصدرون المشهد، بما يعكس الوضع الحالي. ومنذ تولي جنرالات الجيش مقاليد الأمور في مصر في 3 يوليو، نجحت القوات المسلحة في فرض سيطرتها على كافة قطاعات الدولة الاقتصادية والمحلية والاجتماعية، لتنهي بذلك عصر المدنية. "التأميم العسكري" المقنع تعاني مصر من حالة من "التأميم العسكري" المقنع، لكنه ليس لخدمة المواطنين أنفسهم، بل لصالح فئة معينة من المجتمع، هذا ما أشار إليه الكاتب الصحفي المصري بلال علاء في مقاله المعنون ب"الدولة الحصينة والمجتمع العاري"، مشيرًا إلى أن الانقلاب يقوم بتأميم المجال العام ويتخلى عن التزاماتها الاقتصادية في الوقت نفسه، لا يقوم بذلك لصالح طبقات مدنية واسعة، مثلما كانت طبقة رجال أعمال وكبار البيروقراطيين وأغنياء الفلاحين المندمجين في منظومة الحزب الوطني في عصر مبارك، ولكن لصالح طبقات الجيش والقضاء والشرطة والمخابرات، وهي طبقات صغيرة متداخلة ومنغلقة على بعضها ويصعب أن تخترقها بقية الطبقات لتشاركها صعودها الطبقي. وأشار أيضًا في مقاله إلى الاحتكار التدريجي للأجهزة الأمنية للإعلام وللصناعات الخدمية المهمة سواء بشكل مباشر أو عن طريق واجهات مدنية، يعني أن الطبقات القديمة التي كان يمثلها الحزب الوطني، يجري تفتيتها وإضعافها لصالح الانقلاب. ونوه إلى أن انقلاب 3 يوليو 2013 يعتقد أن تماسك المنظومة البيروقراطية التي يديرها الجيش، يتمثل في تماسك سلطات الجيش والقضاء والشرطة، وأن بقية المنظومات المدنية، بما فيها المنظومات التاريخية للدولة مثل المجتمع ورجال الأعمال، يمكن الاستغناء عنها، بل ربما اعتبر الانقلاب هذه المنظومات جزءًا من المجال المفتوح الذي ينبغي تحجيمه، أي جزء من السلطات الخارجة عن سيطرته المباشرة جدًا والتي يريد استعادتها، ولذلك يروج الانقلاب لعدم كفاءة أجهزة الدولة المدنية وفسادها وتمثل الحملات المستمرة على الوزراء والوزارات المدنية جزءًا من هذا الترويج، ليصبح الجيش، هو المؤسسة الفاعلة الوحيدة ذات السمعة الجيدة في الدولة. ولعل هناك الكثير من الشواهد التي تؤكد صحة هذا الكلام، أحدثها واقعة "لبن الأطفال" التي تدخل فيها الجيش لإنقاذ ملايين الأطفال ممن فشلوا في الحصول على لبن لأطفالهم نتيجة ندرته في الصيدليات، وهو ما دفع الجيش للإعلان عن ضخ 30 مليون علبة لبن في الأسواق خلال الأيام المقبلة.