الحالة السودانية الاستثنائية أو ما يُعرف اختصارا بحرب "حميدتي والبرهان"، يتجلى فيها العجب والغرابة في اختلاف طبيعة المعركة ومنطلقاتها، مقارنة بثوابت مثل هذه المعارك في البلاد العربية. ويتركز الصراع في البلاد العربية بين الحاكم العسكري المستبد الذي يسعى لتوريث الحكم وفق نظام الملكية العسكرية وتوارث الحكم بين أبناء الكتيبة، ومن يطالب برجوع العساكر إلى ثكناتهم وأصل وظيفتهم، وترك الحرية للشعب في اختيار من يحكمه. الاتفاق الإطاري أما في السودان فإن الصراع نشب بين المكون العسكري نفسه، وفي زاوية الصورة هناك تيار مدني منفصل عن الواقع في أفكاره وتوجهاته، وينتظر من ينتصر من المعسكرين ليصل من خلال التحالف معه إلى الحكم، بإطالة أمد ما يُعرف بالفترة الانتقالية والاتفاق الإطاري، الذي يحرم الناخب السوداني من حق الاختيار لمدة عشر سنوات قادمة، وقابلة للتجديد بطبيعة الحال. فقد أكد الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان التزامه بالسلطة المدنية، وأوضح أنه لن يكون رافعة لأي كيان أو حزب أو جماعة للانقضاض على السلطة. وفي رد غير مباشر على الاتهامات التي أطلقها مرارا قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي، وكررها أمس أيضا، حول سعي البرهان إلى الاستحواذ على السلطة، وعرقلة تسليم الحكم إلى حكومة مدنية، شدد الجيش على أن قواته ملتزمة بالعملية السياسية، التي تقود إلى قيام سلطة مدنية. من جهته، شدد حميدتي أمس على أن واجبه تشكيل حكومة مدنية قابلة للحياة، ومنذ انطلاق شرارة القتال بين القوتين العسكريتين الكبيرتين في البلاد، تبادل الطرفان الاتهامات وتحميل المسؤوليات حول انزلاق الوضع إلى شفير حرب شاملة. ويقف الشعب السوداني أمام مفارقة غريبة، حيث إن الخلافات هي التي دفعت حميدتي إلى أن يعترف صراحة بالانقلاب، وأن يقر بندمه على المشاركة فيه، فقد قال حميدتي في خطاب متلفز ألقاه يوم 19 فبراير: إنه "ابن بادية بسيط، سئم من الحروب التي خاضها، ويرغب في السلام، وإن مسيرته تخللتها أخطاء عديدة من قبله، آخرها كان المشاركة في الانقلاب على حمدوك". وهي أيضا الخلافات نفسها التي دفعت البرهان إلى القفز للأمام والمزايدة على حميدتي بالقول، والتصريح أكثر من مرة بأن "الجيش السوداني سوف يترك السياسة ويعود لثكناته، ولن يترشح للرئاسة بعد انتهاء المرحلة الانتقالية".
وبعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير في السودان العام 2019، احتدم الصراع على السلطة بين العسكريين والمدنيين، وبات جنرالان يتنازعان على السلطة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي. كان الأول قائد القوات البرية في عهد البشير وصار قائدا للجيش النظامي، وأسّس الثاني قوات الدعم السريع معتمدا على الميليشيات التي خاضت حربا دامية في إقليم دارفور. أثناء انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 كانا حليفين، فقد ظهر البرهان على التلفزيون ليعلن إبعاد المدنيين من السلطة ودعم دقلو، ولكن شيئا فشيئا، بدأ الصراع بينهما يطفو على السطح. أخيرا خرج حميدتي ليصف علنا الانقلاب بأنه خطأ أدى إلى إعادة تنشيط الفلول، في إشارة الى أنصار نظام البشير، وأكد البرهان من جهته أن تحركه كان ضروريا لإشراك مزيد من القوى السياسية في إدارة الفترة الانتقالية". الصراع على السلطة ويقول المحلل السياسي السوداني مجدي الجزولي من معهد "ريفت فالي": "لم يعد الصراع على السلطة في السودان بين العسكريين والمدنيين، الآن لكل من البرهان ودقلو تحالفه الخاص". الخلافات بين البرهان وحميدتي ليست لها علاقة من قريب أو بعيد بالمسألة الديمقراطية في السودان، ويخطئ من يقرؤها كذلك أو يظن أن أيا من الرجلين هو النسخة الجديدة من المشير الراحل عبد الرحمن سوار الذهب، الذي تسلم السلطة بعد انتفاضة أبريل 1984، ثم سلمها بعد ذلك بعام إلى حكومة منتخبة في مايو 1985. الجنرالان ليسا طامعين في السلطة فقط، بل يخشيان أيضا تركها والخروج منها حتى لا تتم معاقبتهما على ما وقع من جرائم في حق الشعب السوداني، سواء في أثناء خدمتهم مع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير أو ما حدث بعد خلعه، خاصة مجزرة "القيادة العامة" التي راح ضحيتها أكثر من 66 شخصا يونيو 2019. وما يصدر عنهما حاليا ليس سوى مزايدات سياسية هدفها الضغط النفسي والسياسي وإحراج بعضهما بعضا محليا وإقليميا ودوليا، ويرى محللون سودانيون أن استمرار القتال قد يؤدي إلى المزيد من الاضطرابات وإلى تفاقم الأزمة السياسية في البلاد، عندها سيكون من الصعب على الدبلوماسيين الذين أدوا دورا حاسما في الحث على العودة إلى الحكم المدني إيجاد طريقة لإقناع طرفي الصراع على خوض محادثات للتهدئة.