مشكلة مصر الاقتصادية المزمنة أنها تستهلك أكثر مما تنتج، وتنفق أكثر مما تربح، في ظل غياب الرشد والكفاءة عن السلطة الحاكمة وانعدام الأولويات بشكل مثير للدهشة والاستغراب. فمصر أشبه بفتاة جميلة لكنها مصابة بأمراض مزمنة قاتلة كالسرطان والفشل الكلوي والضغط بخلاف المشاكل المستعصية في القلب والجهاز التنفسي، لكن القائمين على أمرها قرروا أن يجروا لها عمليات تجميل كنفخ الشفاه والنهدين وتصغير الأنف بدلا من علاج الأمراض التي تفتك بها! إنهم يقتلونها وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!! وتصل موارد مصر الدولارية سنويا لنحو 90 مليارا؛ أبرزها من تحويلات المصريين بالخارج بنحو 32 مليار دولار، والصناعة نحو 43 مليارا، والسياحة نحو 11 مليارا ونحو 6 مليارات دولار من عوائد قناة السويس. بينما تصل احتياجات التمويل إلى نحو 125 مليار دولار سنويا؛ تتمثل في 90 مليارا حجم فاتورة الاستيراد ونحو 40 مليار لسداد أقساط وفوائد الديون سنويا.ر هذه الفجوة التي تقدر بنحو (30 إلى 40 مليار دولار سنويا) يغطيها السيسي بالديون وبيع أصول الدولة في دوامة لا يبدو أن لها نهاية.
فوائد الديون تلتهم كل الإيرادات لأول مرة في تاريخ مصر يصل حجم الدين الخارجي إلى 157.8 مليار دولار بنهاية مارس 2022م حسب بيان البنك المركزي المصري. وهو الرقم الذي ارتفع بشدة بنهاية 2022 وقد يتجاوز ال180 مليار دولار. وجه الخطر حسب بيانات البنك المركزي ومؤسسات دولية أن مصر مطالبة بسداد أعباء ديون خارجية تقدر بنحو 35 مليار دولار خلال العام المالي الجاري(2022/2023) فقط.. وهو رقم مهول. فمصر مطالبة بسداد الديون التي اقترضها السيسي بعد سنوات انقلابه العجاف؛ والتي تصل إلى 129 مليار دولار كديون طويلة الأجل، ونحو 26.6 مليار دولار كديون قصيرة الأجل تسدد خلال السنتين المقبلتين فقط. هذا بخلاف الديون الجديدة التي اقترضها بعد مارس 2022م والتي تزيد عن 20 مليار دولار معظمها لدول الخليج. ولأول مرة في تاريخ مصر أيضا تصل قيمة فوائد وأقساط الديون وفقا لأرقام الموازنة العامة للدولة (2022/2023) إلى مستوى أعلى من كل إيرادات الدولة؛ فالإيرادات المتوقعة (نحو (1.517) تريليون جنيه)، بينما بند خدمة الدين (690.1 مليار جنيه أقساط+ فوائد 965.48 مليارا =1,655 تريليون جنيه ). معنى ذلك أن جميع إيرادات الدولة لا تكفي لبند خدمة الدين فقط! علاوة على ذلك فإن القروض المتوقعة لسنة 22/23 وفقا لأرقام الموازنة العامة تصل إلى تريليون و523 ملياراً و639 مليون جنيه، بزيادة تبلغ 455 ملياراً و131 مليون جنيه عن السنة الماضية. ليس ذلك فقط، فالحكومة أيضا تخفي أرقام الدين المتعلقة بالشركات والجهات المحلية التي اقترضت أموالاً من دول ومؤسسات أجنبية بضمان من وزارة المالية، على غرار المبالغ التي اقترضتها شركة العاصمة الإدارية من الصين لإنشاء البرج الأيقوني ومجمع الوزارات في العاصمة الجديدة (شرق القاهرة). وحتى نعرف حقيقة المشكلة بالأرقام؛ فإن أزمة الدولار في مصر ترتبط بعاملين رئيسيين، وهما ثبات أو قلة الموارد الدولارية، وارتفاع قيمة المستحقات المطلوبة إما لفاتورة الاستيراد أو لسداد القروض وفوائدها بشكل كبير.
الموارد الدولارية أولا، هناك ثبات في مصادر الدخل القومي من الدولار، وأبرزها تحويلات المصريين العاملين في الخارج والتي وصلت إلى 31.9 مليار دولار خلال العام المالي 2021-2022، وحجم التحويلات يرتبط بشكل كبير بالأوضاع الاقتصادية للمصريين في الخارج والدول التي يوجدون بها. ثانيا، الرافد الثاني للموارد الدولارية في مصر هو الصادرات التي بلغت نحو 27.5 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري (2022/2023)، بمتوسط نحو 3 مليارات دولار شهريا، ويُتوقع أن تصل إلى 36 مليار دولار بنهاية العام، وارتبطت الزيادة فيها بشكل كبير بارتفاع الأسعار عالميا وزيادة صادرات الغاز. ووفق أرقام رسمية، فقد بلغت قيمة الصادرات غير البترولية 32.5 مليار دولار خلال عام 2021 بينما بلغت قيمة الصادرات البترولية والكهرباء 11.1 مليار دولار، بإجمالي 43.6 مليار دولار. ثالثا، تمثل السياحة الرافد الثالث للدولار، حيث بلغت عوائدها نحو 10.7 مليارات دولار في العام المالي الماضي (22/23)، وهي أقل من العام 2010 حين بلغت 12.5 مليار دولار. رابعا، تمثل إيرادات قناة السويس الرافد الرابع بنحو 7 مليارات دولار عام 2021/ 2022، يدخل منها إلى الميزانية أقل من ذلك، وفقا للأرقام الرسمية. خامسا، وأمام شح الموارد الدولارية مقارنة بحجم النفقات والديون المستحقة، اتجه السيسي نحو بيع أصول الدولة لجمع 40 مليار دولار على مدار السنوات الأربعة المقبلة بخلاف المنح الدولية والاستثمارات الأجنبية والأموال الساخنة، ووصلت إلى نحو 8.9 مليارات دولار. وبذلك، يبلغ إجمالي إيرادات النقد الأجنبي من دون القروض نحو 85 مليار دولار لدولة بحجم مصر، بينما يبلغ احتياطي مصر من النقد الأجنبي، الذي يمول بشكل رئيسي الواردات ويحافظ على استقرار صرف العملة المحلية، نحو 34 مليار دولار.
روافد الإنفاق مقابل إيرادات النقد الأجنبي التي لا تزيد عن 85 مليار دولار، من دون القروض، فإن هناك رافدين أساسيين يتسرب إليهما الدولار في مصر، وهما الواردات (فاتورة الاستيراد) وسداد أقساط وفوائد القروض. أولا، بحسب أرقام رسمية، فقد بلغت قيمة الواردات غير البترولية 79.2 مليار دولار عام 2021 والواردات البترولية والكهرباء 10.0 مليارات دولار، بإجمالي واردات بقيمة 89.2 مليار دولار. في الحالة المصرية بلغت الصادرات المصرية في 2021 نحو "43.6" مليار دولار. بينما زادت قيمة الواردات إلى نحو 90 مليار دولار؛ بما يعني أن الفارق يصل إلى نحو 45 مليار دولار. ثانيا، أما القروض الأجنبية، فإن قيمة الأقساط والفوائد المستحقة ورد الأموال الساخنة تبلغ نحو 43.6 مليار دولار خلال عام، وفق تقديرات، بينما قدر مصرف "دويتشه بنك" الألماني ما تحتاجه مصر لإعادة تمويل ديونها مستحقة السداد، ودفع فوائد الديون وتمويل عجز الحساب الجاري، بنحو 28 مليار دولار حتى نهاية العام المقبل 2023. أما وكالة فيتش للتصنيف الائتماني فقد قدرت، في تقرير حديث لها، ما تحتاجه مصر، لسد عجز الحساب الجاري المتضخم وسداد ديون خارجية، بنحو 33.9 مليار دولار حتى منتصف 2025. ووفقا لتقديرات الموازنة المصرية الحالية 2022-2023، فإن مستحقات الفوائد وسداد القروض بلغت نحو 1.7 تريليون جنيه في مشروع الموازنة، وهو ما يعادل 102.5% من إيرادات الموازنة، ويساوي 133% من إيرادات الضرائب خلال السنة المالية الجديدة. ووُضعت الموازنة عندما كان سعر الدولار نحو 18.7 جنيها مصريا. أما الآن فسعره يتجاوز 24.7 جنيها. هذه العوامل مجتمعة وضعت الجنيه تحت ضغط شديد؛ وتسبب في ارتباك كبير بالأسواق، وقدر تجار ما يوفره البنك من دولارات للاستيراد من الخارج بنحو 10% من الرقم المعلن من البنك المركزي سقفاً أعلى لتوفيره للمستوردين للعملية الواحدة، وهو 500 ألف دولار، ما اضطر التجار إلى تعويض الباقي عبر اللجوء إلى السوق السوداء. ووفقا لتقرير "رويترز" الحديث، فإن هناك توقعات بارتفاع سعر الدولار إلى 28 جنيها في البنوك قبل نهاية العام الحالي، في مؤشر إلى أنه لا أفق قريبا لحل أزمة العملة في مصر رغم القروض الخارجية والوعود الاستثمارية وبيع أصول الدولة. الخلاصة أن مصادر مصر الدولارية تكافئ تقريبا تكلفة فاتورة الاستيراد وكلاهما يصل إلى نحو 90 مليار دولار، لكن المشكلة هي أقساط وفوائد الديون والتي تختلف من عام لآخر بمتوسط قد يصل إلى ما بين 30 إلى 40 مليار دولار سنويا. وهي مشكلة لا يوجد لها حل في الأفق القريب في ظل المعطيات الراهنة.