بعدما باع الأرض في تيران وصنافير وسمح بملكية الإسرائيليين في سيناء، جاءت تصريحات عبد الفتاح السيسي الأخيرة بخصوص أزمة سد النهضة ومياه نهرالنيل، خلال افتتاح "المعرض والمؤتمر الطبي الأفريقي الأول" 5 يونيو 2022 لتكشف عن تراجع في لهجة الخطاب الرسمي المصري في قضية سد النهضة الإثيوبي وتفريط السيسي في شربة ماء المصريين بل حياة المصريين ما يهدد البلاد بخطر كبير. ويعد تأكيد السيسي عدم دخول مصر في صراعات، وأنها ستعتمد على تحلية ومعالجة المياه، في الوقت الذي تتحدى فيه إثيوبيا الجميع وتعلن عن موعد الملء الثالث، قبولا بالأمر الواقع الذي فرضته أديس أبابا على القاهرة في هذه القضية الحساسة التي ترتبط بحياة الملايين في مصر والسودان. وبدلا من مسئوليته عن تعطيش المصريين بدأ حديثه عن الأزمة بالتأكيد أن مصر تواجه تحديات كثيرة، أهمها الزيادة السكانية ، ثم أكد بالرغم من أن حصة مصر من المياه ثابتة منذ سنوات طويلة، مع تضاعف أعداد السكان، إلا أن البلاد لم تدخل في صراعات". وفي سياق الحديث عن حلول لأزمة المياه، لم يذكر سوى موضوع تحلية ومعالجة المياه، للتعامل مع أزمة نقص المياه، وهو الحديث الذي يختلف اختلافا جذريا مع تصريحاته السابقة في العام الماضي عندما قال "بقول للناس كلها محدش هيقدر يأخد نقطة مياه من مصر، واللي عاوز يجرب يجرب". السيسي وأركان حكمه يروجون أنه تم حل المشكلة وتعويض ما ستمنعه أثيوبيا عن مصر ، لكن الحقيقية هي أن أقصى ما يمكن توفيره من المياه بواسطة محطات المعالجة والتحلية لن يتجاوز 500 مليون متر مكعب من المياه. وهي كمية ضئيلة جدا إذا ما تمت مقارنتها بحصة مصر من مياه النيل والتي تُقدر ب 55 مليارا ونصف مليار متر مكعب ، ويمكن أن تصل إلى 60 مليار متر مكعب إذا ما احتسبنا الفائض من السودان، وهي مياه عذبة ومجانية ترد إلى مصر من دون أدنى مجهود، عكس مياه التحلية التي تُكلف محطاتها مليارات الدولارات. تراجع خطاب السيسي بشأن معركة المياه مع إثيوبيا، جاء في وقت أعلنت فيه أديس أبابا رسميا عن أن الملء الثالث سيتم في أغسطس وسبتمبر المقبلين، خلال موسم الأمطار السنوي، وهو ما يُعد تحديا سافرا من قبل إثيوبيا للإرادة المصرية في هذه القضية. سلّم بالأمر الواقع لم تكن تصريحات السيسي تمثل تراجعا بقدر ما هي ختام لموقفه الضعيف من التعامل مع أزمة المياه ورفضه استخدام القوة لوقف بناء السد برغم ترسانات السلاح التي يشتريها والتي جعلت صحف الغرب تتساءل عن سبب شراءها إذا كان لن يدافع عن أهم مصدر للحياة في مصر وهو المياه؟ صمت عبد الفتاح السيسي عن تضرر مصر مائيا وأمنيا، واكبه قيام السلطات بفرض نوع من التعتيم على أخبار السد الإثيوبي في الصحف المصرية واكتفاء المسئولين بالتصريح المتكرر، أنهم يطالبون باتفاق ملزم قبل الملء الثالث. وبدا أن هناك ترتيبات لتجاهل صحف السلطة أخبار بناء سد النهضة مع اقتراب إثيوبيا من الملء الثالث للسد مع بدء الفيضان الشهر المقبل، بما يعني استنفاد مصر أي أوراق ضغط والاستسلام للأمر الواقع. ويبدو أن ذلك خشية مزيد من التوتر في الشارع، في ظل انهيار الأوضاع الاقتصادية ومخاوف أمنية من تصاعد الغضب الشعبي، انعكست على تعليمات أمنية متتالية بما في ذلك تهديد قيادات عمالية لو ترشحت لانتخابات عمالية. ويقول خبراء عسكريون "كلما امتلأ السد بكميات أكبر من المياه أصبح استخدام الخيار العسكري كحل أخير مستبعدا، وإلا أغرقت المياه مدنا سودانية، ولو غرق وهو ممتلئ بأكمله 74 مليار متر مكعب ، سيتعرض السودان ومدن مصرية للغرق. وخلال اجتماع 11 مايو 2022 مع مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، كرر عبد الفتاح السيسي الحديث عن ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني وملزم بشأن عملية ملء السد وتشغيله بما يحفظ الأمن المائي لمصر دون أي تهديد باستخدام حق مصر في ضرب السد كما شجعه الرئيس الأمريكي السابق ترامب ولكنه لم يفعل. الملء الأخطر بعد تصريحات السيسي المتخاذلة ستتم التعبئة الثالثة لخزان السد خلال موسم الأمطار التالي وفقا لخطط إثيوبيا، وإذا نجحت إثيوبيا في تمريره وفق المؤشرات، وحجزت 18.5 مليار متر مكعب، سيكون هذا هو الملء الأخطر. بحسب خبراء سياسيين، فهذا المنسوب نقطة لا رجعة لمصر، لأنه من الصعب القيام بأي عمل ضد السد وهو يضم هذه الكمية من المياه، ما يعني انتفاء القدرة على الضغط على إثيوبيا، بينما تستمر في حجز المزيد من المياه دون رد فعل يمنعها. ويقول الخبير في شئون مصر المائية هاني إبراهيم إنه "وفق تقديرات ومصادر فقد نجحت إثيوبيا يوم 2 مايو 2022 في الانتهاء من رفع تعلية السد إلى 577 م، ويوم 13 مايو تم الانتهاء من 579 م، ويوم 24 مايو تم الانتهاء من 581 م. ويوضح أنه مع دخول يوم 18 يوليو سيكون علو السد 591 م، ثم 593 م يوم 29 يوليو ما يعني الوصول لمنسوب إجراء تجارب على أول توربين علوي أيضا. ويحذر من أن أقصى طاقة تعلية للسد ستكون يوم 10 أغسطس بالانتهاء من 595 م ما يعني امتلاء السد ب 18.4 مليار متر مكعب. وسيعني هذا أن تستمر خطط إثيوبيا بلا عقبات لرفع منسوب السد في السنوات اللاحقة لتصل إلى منسوب 607 م الذي يعادل 27.7 مليار متر، ثم منسوب 610 م ويعادل 30.8 مليار متر. ومنسوب 613 م بما يعادل 33.9 مليار متر، ومنسوب 615 م الذي يعادل 37 مليار متر، ومنسوب 625 م بما يعادل 49.3 مليار متر، وأخيرا منسوب 640 م الذي يعادل 74 مليار متر مكعب من المياه. وهي سعة تخزين السد، بما يعني خصم قرابة 15 مليار متر مكعب من نصيب وحصة مصر سنويا، والمقدرة ب 55 مليار متر مكعب. ويتوقع كاميرون هدسون، الباحث بمركز إفريقيا التابع للمجلس الأطلسي والمسؤول السابق في وزارة الخارجية الأمريكية ل "المونيتور" أيضا أن يؤدي استمرار بناء السد لجعل استئناف المفاوضات النهائية "أمرا صعبا للغاية". وحذر هدسون من أن المخاوف ترجع أساسا إلى سنوات الجفاف التي ستزيد من حدة التوترات وتجعل التوصل إلى اتفاق نهائي أكثر صعوبة. ماذا يعني تحكم أثيوبيا؟ تحرص إثيوبيا على المضي قدما في إنهاء بناء سد النهضة لا لأهداف تنموية ولكن لأن له أبعادا سياسية واستراتيجية منها إبعاد مصر وإلغاء دورها الإقليمي في افريقيا، بما يمنح لإثيوبيا وضعا إقليميا مهيمنا داخل دول حوض النيل والقرن الأفريقي. ويتفق مع إثيوبيا في تحقيق هذا الهدف الذي يعني تحجيم دور مصر والتحكم فيها عبر المياه، إسرائيل وأطراف دولية عديدة ترحب بخطط إثيوبيا تحويل نهر النيل إلى مجرد ترعة صغيرة تخرج من الأراضي الإثيوبية، وإخضاع مصر. يفسر هذا أن الخطط الأصلية للسد عام 2010 كانت بناء سد على الحدود مع السودان بسعة 14.5 مليار متر مكعب، لكن عقب انشغال مصر بثورة 25 يناير تمت زيادة سعته حتى وصل إلى 74 مليار متر مكعب. وهذه السعة الكبيرة لسد النهضة استلزمت إنشاء ثلاثة سدود أخرى من خلفه حتى تخفف من تراكم الطمي على جسد السد وإلا مثلت خطورة عليه قد تجعله ينهار. وبهذه السدود الثلاثة ستصبح السعة التي ستحتجزها إثيوبيا داخل الأربعة سدود حوالي 250 مليار متر مكعب، ما يمنح إثيوبيا التحكم الكامل في تدفقات مياه نهر النيل إلى مصر والسودان عبر 4 بوابات. ويحول نهر النيل لمجرد ترعة صغيرة تصرف فيها إثيوبيا ما يشاء لها أن تصرفه من وراء السد طبقا لما تراه مناسبا لمصالحها ورؤيتها. وبهذا التحكم في مياه النيل سيتم التحكم في مصر نفسها للمرة الأولى في التاريخ، وهو حلم إثيوبي قديم، تشجعها عليه قوي كبري للسيطرة على مصر حال أرادت. ورغم هذه المخاطر التي تعني تحجيم دور مصر وتعطيش شعبها، لم يتحرك نظام عبد الفتاح السيسي، بل ووقع على اتفاق عام 2015 أعطى الشرعية لإثيوبيا لبناء السد، ويرفض تجميده، وأضاع عشرات الفرص لتعطيل بناء السد ووقفه بالقوة. لذلك سخرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية من هذا الموقف المصري الغريب الذي وصفته بأنه "مؤيد ضمنا" لإثيوبيا، متسائلة، ماذا فعلت مصر لتنفيذ تهديدها والدفاع عن إمدادات المياه بعد عقد من الزمان من التهديدات؟. أكدت 5 أبريل 2022 من الواضح أن مصر لديها دائما القدرة العسكرية على مهاجمة السد أو تدميره أو إلحاق أضرار جسيمة به، وهو ما أكده الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2020 بقوله "سيتعين على مصر تفجير ذلك السد". لكن الصحيفة ذكرت أنه رغم التهديدات الإعلامية المصرية التي ظلت طريقتها في التعامل مع النزاعات الدولية، حيث تشكو وتندد وتهدد فهي تترك الأمر عند هذا الحد، أي التهديد دون فعل على الأرض.