لم يتخيل أكثر العرب تشاؤما أن يأتى اليوم الذى يذكر فيه مسئول أمريكى أنه «لو غطى وجوه من قابلهم من كبار المسئولين خلال زياراته الأخيرة للرياض وأبوظبى وتل أبيب واستمع إلى تصوراتهم بخصوص قضايا ومستقبل الشرق الأوسط. فلن يستطيع التمييز بين السعودى أو الإماراتى أو الإسرائيلى، حيث إن آراءهم متطابقة حيال تلك القضايا».. كانت هذه شهادة لخبير بمعهد الشرق الأوسط فى واشنطن ومتخصص فى السياسة الخارجية الأمريكية، نقلها الكاتب فهمي هويدي فى مقاله اليوم بعنوان "الفوضى تطرق أبواب العرب". وقال: "لا نبالغ إذا قلنا إن العالم العربى مقبل على حالة من الفوضى التى تظل الأبواب خلالها مفتوحة أمام مختلف الاحتمالات، سلبية كانت أم ايجابية.. ولا أعرف إلى أين نحن ذاهبون بعد ذلك.. لكن الذى أعرفه أننا سائرون على طريق الندامة، وليس السلامة بأى حال. والله أعلم بعد ذلك بالمآلات". وأضاف: "ما عاد خافيا على أحد أن الدولتين المذكورتين –فى إشارة إلى السعودية والإمارات- تبنتا موقفا مقاطعا ورافضا للربيع العربى منذ لاحت بوادره فى عام 2011، وكانتا من أشد أنصار الرئيس الأسبق حسنى مبارك ونظامه، حتى كان عدم مساندة واشنطن لمبارك إحدى نقاط الخلاف بينهما وبين الإدارة الأمريكية، ولم تكتف الدولتان بمقاطعة الربيع العربى ولكنهما لم تتوقفا عن محاصرته ومحاولة إجهاضه فى جميع الدول التى بلغتها أصداؤه، فى مشرق العالم العربى ومغربه، والقرائن الدالة على ذلك كثيرة بعضها خفى تكفلت به الأجهزة الأمنية، وأظهرها مورس من خلال الدعم المالى الذى بدا باذخا فى محاولة صد رياح الربيع ودعوات التغيير التى استصحبته، فى حين ظل ممسكا وممتنعا عن الدول التى بلغتها أصداء التغيير". وتابع "هويدي": "بدا ذلك موقفا مفهوما اقتضاه الحرص على الدفاع عن النفس وتأمين الداخل من عواقب التفاعل مع أصداء الربيع التى انعشت الآمال فى مختلف أرجاء العالم العربى. إلا أن قوة تلك الأصداء بدت مقلقة بحيث دفعت الدولتين إلى محاولة وقف ذلك المد خارج حدودها بمختلف السبل، الأمر الذى يسوغ لنا أن نقول إنهما احتلتا مقعد قيادة الثورة المضادة، وكان تحركهما مشهودا فى ذلك الاتجاه على مختلف المستويات، السياسية والاقتصادية والإعلامية". وأشار إلى أن ما حدث فى مصر كان الإنجاز الأكبر الذى تحقق فى ذلك المسعى, فرغم أن خلفيات التغيير لم تتكشف وقائعها بعد، إلا أن اندفاع البلدين فى الحفاوة به ودعمه بعد حدوثه كاف فى دلالته, إن لم يكن الدافع إلى الإسراع فى إثبات الحضور فى قلب المشهد المصرى مقصورا على محاولة الفوز بالدولة العربية الأكبر، وإنما اعتبر ذلك بابا أوسع لصد رياح الربيع العربى وإضعافه حيثما وجدت. وأوضح "هويدي" فى مقاله أن رسالة البلدين –السعودية والإمارات- كانت واضحة من البداية دون إعلان، فهما بالأساس ضد 25 يناير 2011 ومع التمرد (المحظور فيهما) الذى أفضى إلى انتفاضة 30 يونيو 2011 ومهد لنظام الثالث من يوليو. وأضاف: لا أشك فى أن الجموع التى خرجت يوم 30 يونيو لم تخطر على بالها التداعيات اللاحقة للحدث، لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن مفاجئا فى خبرة الأداء السياسى, أن يمضى الغضب فى اتجاه، ثم يقطف ثماره آخرون ويوظفوا الغضب باتجاه آخر, وهو ما يغرينا للمقارنة بما جرى فى عصر الرئيس الأسبق أنور السادات الذى انتسب إلى ثورة 23 يوليو 52 ثم أخرج البلد من مسيرة النضال العربى ومن الصف العربى, ذلك أن ما حدث فى مصر مؤخرا يكاد يكرر تلك التجربة. فما جرى فى الثالث من يوليو 2013 انتسب بدوره إلى ثورة 25 يناير 2011 واعتبر انتفاضة 30 يونيو امتدادا لها، ثم أخرج مصر من الربيع العربى. وأشار "هويدي" إلى أن السعودية كانت أول دولة هنأت القاهرة بالتغير الذى تم ولحقت بها الإمارات, ثم توالت رسالة الحفاوة بالوضع المستجد مع الحط من شأن ثورة 25 يناير فى إعلام البلدين, وبعد ذلك انهالت صور الدعم والمساندة، التى توالت من باب الاقتصاد وهو الوتر الحساس فى أزمة الوضع المصرى, وحتى الآن تم ضخ 16 مليار دولار فى الخزانة المصرية, وقرأنا عن مليون مسكن جديد ستقوم الإمارات بتمويلها فى مصر، وقيل إن هناك مليونا أخرى من مجلس التعاون الخليجى. كما تحدثت الصحف عن آلاف رءوس الماشية التى تم الاتفاق عليها لإغراق الأسواق المصرية بها, وما تم فى الشق الاقتصادى تكرر فى عدة مجالات أخرى., أعلن عن بعضها ولم يعلن عن البعض الآخر, ولا أستبعد أن يكون كل ذلك مسكونا بمشاعر التضامن والمروءة والمقدرة، إلا أنه لم يكن بغير مقابل, ذلك أن الدول حتى إذا كانت شقيقة ليست جمعيات خيرية، ولكن لها حساباتها ومصالحها التى تتوخاها فيما تتبعه من سياسات. ولفت "هويدي" فى مقاله, إلى أنه فى الخامس من شهر مارس الحالى سحبت ثلاث دول خليجية سفراءها من قطر لأول مرة فى تاريخ مجلس التعاون الخليجى، والدول الثلاث هى السعودية والإمارات والبحرين, وبعد ذلك بأيام قليلة جرت مناورات عسكرية مصرية إماراتية فى أبوظبى حملت اسم زايد (1), وفى الوقت الذى كانت المناورات جارية فيه زار مسقط الرئيس الإيرانى حسنى روحانى فى مسعى لتوثيق العلاقات وتنسيق التعاون مع سلطنة عمان ", متسائلا : ما الذى يعنيه ذلك؟ وأجاب على التسائل الذي طرحه قائلا "عند القراءة المتأنية ستدرك أن سحب السفراء كان بداية انهيار وتفكيك مجلس التعاون الخليجى الذى تأسس فى عام 1981, يعنى أيضا أن الإمارات أرادت أن تستقوى بمصر فى مواجهة قطر من خلال المناورات المشتركة، وهو ما عبرت عنه الصحف المصرية التى ذكرت أن المناورات بعثت برسالة إلى قطر وتركيا -البعض أضاف الولاياتالمتحدة-, فيما يعنى ذلك أيضا أن إيران ارتفعت أسهمها أكثر فى الخليج، بعد التفاهمات التى حدثت بين واشنطن وطهران بخصوص المشروع النووى الإيرانى, إذ وجدت أن الظرف بات مواتيا لمد مزيد من الجسور مع السلطنة التى شهدت التفاهمات الإيرانيةالأمريكية (أعلن يوم الأحد 16/3 أن إيران تعتزم بناء عشر محطات نووية على سواحل الخليج وبحر عمان). واستطرد "هويدي" متسائلا: هل هذا كل شىء؟, مجيباً: "ليس بالضبط لأنه يعنى فى الوقت ذاته أن الأوراق بصدد الاختلاط فى الخليج، الأمر الذى يؤدى إلى ظهور خرائط جديدة له تستصحب تحالفات عربية جديدة ستكون مصر طرفا فيها وستقوم السعودية ومعها الإمارات بدور القيادة لها". وأضاف: "سننحى جانبا مظاهر الفوضى المشرقية التى تلوح فى سوريا والعراق وبدرجة أو بأخرى لبنان, ولن نتحدث عن أصداء الداخل فى السعودية والإمارات حيث مكنتها التوازنات الجديدة من تشديد القبضة الأمنية وإحكام قمع أصوات دعاة الإصلاح الذين أصبحوا يصنفون كإرهابيين، وهو ما لاحظناه من محاكمات النشطاء فى البلدين، التى طالت حتى المغردين الذين يسجلون خواطرهم على موقع «تويتر», لن نخوض أو نفصل فى هذا أو ذاك, لكننا سنجد أننا بصدد خرائط جديدة للاستقطاب, واحدة تضم السعودية والإمارات والبحرين وبدرجة ما الكويت، ومعها مصر والأردن وإسرائيل, والثانية تضم قطر وتركيا وتونس وبدرجة ما إيران وسلطنة عمان, وهناك دائرة الدول التى تقف فى الوسط مثل المغرب والسودان واليمن وموريتانيا والجزائر. (ليبيا لاتزال تبحث عن موقع)". واستخلص هؤيدي فى مقاله دلائل أخرى على أن الفوضى تطرق أبواب العرب, وأوجزها فيى نقاط هي: • إذا كانت مصر بصدد الخروج من الربيع العربى ولو مؤقتا، فالقدر الثابت أنها خرجت من دائرة التأثير، عربيا وإقليميا وفى أوضاعها الاقتصادية المتردية والسياسة المأزومة فإنها أصبحت مفعولا به وليست فاعلا. • إن العالم العربى لم يعد بحاجة إلى مؤامرات تحاك ضده فى الخارج، لأن صراعات دوله تحقق لأى متآمر عليه مراده دون حاجة لبذل أى جهد من جانبه، حتى أزعم بأن الصراع العربى العربى أصبح الشاغل الأساسى «والقضية المركزية» للأنظمة القائمة. • إن التدهور الحاصل فى منطقة الخليج الذى لايزال سياسيا حتى الآن، مرشح لأن يتطور إلى حصار اقتصادى لقطر يضغط عليها بحيث يقطع الطريق البرى الذى يوصل إليها من السعودية، وهناك تسريبات لا أريد أن أصدقها تتحدث عن احتمالات المواجهة العسكرية بين البلدين، خصوصا إذا تحققت الدعوة إلى إقامة اتحاد بين الدول الثلاث السعودية والإمارات والبحرين. • إن ما حدث يمثل ضربة موجعة للربيع العربى، ليست بالضرورة نهاية له، رغم أن إعلام الثورة المضادة مستمر فى تشويهه واعتباره كارثة حلت بالأمة، لكننى أزعم أننا بصدد حالة من الجزر والتراجع مماثلة لما شهدته ثورات أخرى. ويظل الباب مفتوحا لتحول ذلك الجزر إلى مد يعيد الأمل والثقة فى الربيع. على الأقل فذلك ما نلاحظه فى تحرك شباب الثورة فى مصر، الذى يرفض الاستسلام للتراجع ويقاومه بشدة. • إن قضية فلسطين لم يعد لها ذكر فى الخطاب السياسى العربى الراهن. ولذلك فإننى أعتبر أن إسرائيل هى الفائز الأكبر فى التحولات الراهنة حيث لم تعد سياساتها محل اعتراض أو حتى اكتراث من جانب الأنظمة العربية. ولا نستطيع أيضا أن نتجاهل ارتفاع أسهم إيران وتقوية ساعدها خليجيا ومشرقيا.