ما الحياة إلا حكايات.. وأجمل الحكايات هى تلك التى لن نعرفها أبداً.. لكن يستطيع الحكيم منا أن يدرك وجودها من قوانين الصدفة التى ليست أبداً صدفة.. فذلك المصطلح هو «حجة البليد» أو الجاهل عندما يعجز عن أن يكتشف ما خلف أسوار الفكر، ولا يقرأ تداعيات الأحداث المتواترة فى طريقنا الأبدى للبحث عن الحقيقة التى كثيراً ما تضن علينا الحياة بها. فيظل الغافل مدفوعاً بحماقته بينما يلتمس الحكيم قبساً من التاريخ والمعرفة ليدرك بضميره ووجدانه ما لا يدركه بعقله. أتأمل تلك الحكاية القديمة.. أجد فيها الإلهام والجواب. رجل عجوز ركب القطار مع ابنه الشاب الثلاثينى ذى المظهر الوقور. يجلس الشاب بجوار النافذة ويبدأ بالنظر لكل التفاصيل التى اعتدناها بمنتهى الفضول والحب ووجنتاه تلامسان الهواء المندفع ليصيح بفرحة الأطفال فجأة: انظر يا أبى، إن كل شىء يبدو وكأنه يتحرك للوراء، الشجر، الأعمدة، حتى الناس، ووالده يبتسم فى هدوء مؤمّناً على كلامه، يتطلع الشاب إلى السماء ويصرخ: ما أجمل لون السماء وشكل السحاب.. يكمل ضاحكاً: إنه يبدو راحلاً معنا. ينظر إلى المراعى الشاسعة مهللاً: ما أجمل اللون الأخضر، بينما يتغامز كل من فى القطار لهذا المشهد فى ذهول، ويظل الشاب يصرخ كلما شاهد طائراً أو بيتاً أو ساقية مردداً فى فرح اسم ما يراه، ولا يزال الأب محتفظاً بابتسامة هادئة. يتهامس الركاب عن ذلك الشاب الذى يتعامل مع الحياة كطفل صغير آسفين على حالته العقلية، ثم لا يلبثون أن ينظروا للأب الهادئ باتهام.. لماذا لا يعالج ابنه ويتركه هكذا دون اكتراث. بينما تقبع الحقيقة هناك، فى مكان ما، تحتفظ بها الحياة لنفسها لا تشى بها إلا لمن تريد.. ربما تحت أقدامهم فى حقيبة سفر مليئة بأوراق تحمل إجابات لن يعرفها أحد من ركاب القطار، فتلك شهادات حصول الشاب على أعلى المراتب فى العلوم الإنسانية بتفوق، وتلك تقارير حالته الصحية التى تسجل تاريخ اليوم يتصدر إذن خروجه من المستشفى بعد أن خضع فيه لعملية جراحية دقيقة لترى عينه الحياة أخيراً.. ويصبح بصيراً لأول مرة منذ ولادته بعد أن عاش كل تلك السنين ضريراً. هكذا الحياة تفعل بنا.. نحن ركاب القطار. دارت فى فكرى وأثارت شجونى تلك التأملات وأنا أستمع لمحاولة سيادة الرئيس إزالة شكوك العامة فى مداخلته مع الإعلامى عمرو أديب، فإحدى تلك الحكايات هى مجزرة بور سعيد التى ذبحتنا وجعلتنا ننظر للجميع بريبة وشك.. نبحث عن تلك اليد الآثمة التى أوصدت الأبواب وأطفأت الأنوار وقتلت الغافلين، بعضهم بفصل النخاع الشوكى للضحايا بشكل احترافى لا يفعله إلا مرتزقة حروب بلا ضمير.. هل يمكن لخير أجناد الأرض أن يرتكبوا تلك الخسة بشكل نظامى متفق عليه وموزعة أدواره منذ أيام؟ لتثير المزيد من شجونى حكاية أخرى تخفى سرها، إنه نوع آخر من التنظيم الشديد فى قتل أبنائنا ولكن فى ليبيا رغم اختلاف آليات التنفيذ. لكنه، وللصدفة التى ليست أبداً صدفة، يتشابه فى عشوائية القتل واحترافية التنفيذ وانعدام سبب آخر يزيل احتمال غرض الفتنة والوقيعة بين أبناء الوطن، لتشى الحياة مرة أخرى فى أذن العقلاء بمفتاح السر.. فهل القبطى المصرى يختلف عن أى مسيحى آخر.. حتى يختاروا قتله دون سواه إلا لسبب واحد، أن المقصود ليس الدين ولكن مصر، حتى تلك الحكاية التى تطاولنا فيها كثيراً على الجميع بسبب رحيل الأجانب المتهمين فى قضية التمويل الأجنبى فى ظل تولى المجلس العسكرى مقاليد الحكم.. ورغم إنكار الجانبين المصرى والأمريكى وجود أى صفقات، وتقنين الإجراءات، سمحت لى الحياة بمعرفة ما يثلج الصدور عن صفقة جميلة، ولكنها لا بد أن تظل فى طى الكتمان حتى لو ظلت أصابع الاتهام مشهرة فى وجه الجميع، فللوطن ضريبة قاسية أحياناً. إذن فلنترفق بوطننا ورفاقنا، لنتأمل ونتفكر، ونحسن الظن بالحياة قبل أن يرحل الراحلون وتضيع الحقيقة ويمضى القطار مثقلاً بأحزان الوطن.