وفد قطري يزور اتحاد القبائل العربية لبحث التعاون المشترك    سعر الدولار مقابل الجنيه بعد قرار البنك المركزي تثبيت أسعار الفائدة    "بوليتيكو": إدارة بايدن تدرس تعيين مستشار أمريكي في غزة بعد الحرب    خبير سياسي: اللوبي الصهيوني حول العالم يمول الإعلام الغربي    تعرف على المنتخبات المتأهلة للمربع الذهبي لبطولة إفريقيا لكرة القدم للساق الواحدة    في مباراة مثيرة، فيورنتينا يهزم كالياري بالدوري الإيطالي قبل نهائي دوري المؤتمر    سقوط سيارة ملاكي في ترعة بطريق "زفتى - المحلة" (صور)    المعمل الجنائي يفحص آثار حريق داخل محطة تجارب بكلية الزراعة جامعة القاهرة    مقتل مدرس على يد زوج إحدى طالباته بالمنوفية: "مش عايزها تاخد دروس"    "اعترافات صادمة.. أب ونجله يقتلان صهرهما ب17 طعنة دفاعًا عن الشرف"    موعد ومكان صلاة الجنازة على شقيق الفنان مدحت صالح    هشام ماجد: "هدف شيكابالا ببطولة أفريقيا اللي الأهلي بياخدها"    هشام ماجد ل«نجوم FM»: الجزء الخامس من «اللعبة» في مرحلة الكتابة.. وأصور حاليا «إكس مراتي»    إخفاء وإتلاف أدلة، مفاجأة في تحقيقات تسمم العشرات بمطعم برجر شهير بالسعودية    بركات: مواجهة الترجي ليست سهلة.. ونثق في بديل معلول    خالد جلال: مدرب الترجي يعتمد على التحفظ    بوقرة: الأهلي لن يتأثر بغياب معلول في نهائي دوري أبطال إفريقيا    استقالة عمرو أنور من تدريب طنطا    «الوضع الاقتصادي للصحفيين».. خالد البلشي يكشف تفاصيل لقائه برئيس الوزراء    أسعار اللحوم اليوم الجمعة 24 مايو 2024 في محلات الجزارة    يمن الحماقي: أتمنى ألا أرى تعويما آخرا للجنيه المصري    نداء عاجل من غرفة شركات السياحة لحاملي تأشيرات الزيارة بالسعودية    افتكروا كلامي.. خالد أبو بكر: لا حل لأي معضلة بالشرق الأوسط بدون مصر    هيثم عرابي يكشف تعليمات طلعت يوسف للاعبي فيوتشر قبل مواجهة الزمالك    "فوز الهلال وتعادل النصر".. نتائج مباريات أمس بالدوري السعودي للمحترفين    «صحة البرلمان» تكشف الهدف من قانون المنشآت الصحية    الجيش الإيراني يعلن النتائج الأولية للتحقيق في حادثة مروحية رئيسي    مندوب فلسطين بالأمم المتحدة: الحصول على العضوية الكاملة تتوقف على الفيتو الأمريكي    حزب الله اللبناني يعلن استهدف جنود إسرائيليين عند مثلث السروات مقابل بلدة يارون بالصواريخ    إصابة فتاة إثر تناولها مادة سامة بقنا    خبطة في مقتل.. تفاصيل ضبط ترسانة من الأسلحة والمخدرات بمطروح    قرار عاجل ضد سائق أوبر المتهم بالتحرش بالفنانة هلا السعيد    قرار يوسع العزلة الدولية.. ماذا وراء تصنيف الحكومة الأسترالية لميليشيات الحوثي كمنظمة إرهابية؟    سعر سبيكة الذهب بعد تثبيت الفائدة.. اعرف بكام    مياه الشرب بالجيزة.. كسر مفاجىء بمحبس مياه قطر 600 مم بمنطقة كعابيش بفيصل    حظك اليوم برج الحوت الجمعة 24-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. فرصة للتألق    حظك اليوم برج الجدي الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حظك اليوم برج القوس الجمعة 24-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أسعار الدواجن البيضاء في المزرعة والأسواق اليوم الجمعة 24-5-2024    طريقة الاستعلام عن معاشات شهر يونيو.. أماكن الصرف وحقيقة الزيادة    لمستخدمي الآيفون.. 6 نصائح للحفاظ على الهواتف والبطاريات في ظل الموجة الحارة    عاجل.. الموت يفجع الفنان مدحت صالح في وفاة شقيقه    مدحت صالح ينعى شقيقه: مع السلامة يا حبيبي    5 شهداء وعدد من الجرحى في قصف شقة سكنية وسط حي الدرج بمدينة غزة    «فيها جهاز تكييف رباني».. أستاذ أمراض صدرية يكشف مفاجأة عن أنف الإنسان (فيديو)    انتهاء فعاليات الدورة التدريبية على أعمال طب الاسرة    جيش الاحتلال يتصدى لطائرتين مسيرتين فوق إيلات    انطلاق المؤتمر السنوي ل «طب القناة» في دورته ال 15    لجنة سكرتارية الهجرة باتحاد نقابات عمال مصر تناقش ملفات مهمة    محمد نور: خطة مجابهة التضليل تعتمد على 3 محاور    الفريق أول محمد زكى: قادرون على مجابهة أى تحديات تفرض علينا    رئيس الوزراء يناقش سبل دعم وتطوير خدمات الصحفيين    ما هي شروط الاستطاعة في الحج للرجال    بالفيديو.. خالد الجندي: عقد مؤتمر عن السنة يُفوت الفرصة على المزايدين    قبل قصد بيت الله الحرام| قاعود: الإقلاع عن الذنوب ورد المظالم من أهم المستحبات    وزارة الصحة تؤكد: المرأة الحامل أكثر عرضة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرى    ما حكم سقوط الشعر خلال تمشيطه أثناء الحج؟ أمين الفتوى يجيب (فيديو)    رجل متزوج يحب سيدة آخري متزوجة.. وأمين الفتوى ينصح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"حفل إفطار رمضاني" للأديب الكبير الدكتور محمد عباس.. نص أدبي تنبأ بثورة 25 يناير بكل مشاهدها قبل أربع سنوات
نشر في المصريون يوم 25 - 01 - 2012


العدد 302 الصادر فى 2007/10/13
نحو وعى سياسى
حفل إفطار رمضانى
نص أدبى بقلم: د. محمد عباس
الخميس 1 رمضان 1500ه- الموافق 22 يوليو 2077
1- ها هو ذا رمضان يعود، ما أجمله!! كم أحبه، رغم أيام العناء والجوع والعطش ومنذ كنت أفطر عند الظهر، وكل عام يطول صيامى ساعة أو ساعتين، حتى صمت اليوم كاملاً للمرة الأولى فى العام الماضى، وكانت جائزتى الكبرى أن قربنى جدى، بل وسمح لى فى بعض الأحيان أن أتوسد فخذه، فلا يوقظنى إشفاقًا ورحمة إذا غلبنى النوم وأنا أسمع حكاياته.
ظللت أعوامًا وأعوامًا كلما سمعت حكاية بطل تجسد ذلك البطل فى شكل جدى وظننته يخفى علينا أنه كان هو بنفسه البطل.. وتخابثت عليه مرة فسألته:
- جدى: هل كنت موجودًا أيام صلاح الدين وهل شاهدته؟
وكنت أموت شوقًا لأن يحتوينى فى حضنه ويخصنى بالسر وحدى قائلا: أنا صلاح الدين لكنه انفجر ضاحكًا فملأنى العام والخزى وقلت لنفسى ربما قطع على نفسه عهدًا ألا يفشى السر لأحد.
وبرغم خزيى وعارى لم أتوقف، بل إننى كنت أظن أنه حتى الملائكة تشبهه وأنها لو ظهرت لنا على الأرض فلن يكون شكلها إلا شكله.
2- لم أستوعب حكايات كثيرة من حكايات جدى إما لأنها كانت صعبة على وإما لأننى كنت أنام وهو يحكيها فينقطع منى الخيط وتضيع الحبكة ولولا أن إخوتى وأبناء عمومتى أسعفونى برتق ثقوب الذاكرة ما استطعت أن أسجل هذه الذكريات بعد حدوثها بما يقارب ربع القرن أى فى بدايات القرن الثانى والعشرين.
3- حكى لنا جدى عن الطاغوت ألف حكاية فسألته ذات مرة فى دهشة:
- كم ألف عام عاش هذا الطاغوت.
وضحك جدى قائلاً إن الطاغوت ليس شخصًا وإنما هو لقب كالملك والرئيس وكفرعون.
4- ثمة حكاية لم يمل جدى من حكايتها ألف مرة لم تكن مرة منها مثل سوابقها كان فيها دائما يتوهج وكان وجهه يضىء بضوء غريب وكنت أختلس النظر إلى الحائط كل حين متوقعًا فى كل مرة أن أرى ظلال أجسادنا الناتجة عن نور وجهه المنسكب علينا تتمدد على الحائط.
وكان جدى فى كل مرة يقول:
كان هذا الحدث هو أهم حدث فى العقد الأول من هذا القرن:
أما الحدث فكان قيام الطاغوت بإلغاء حفل لإفطار رمضانى كانت تقوم به كل عام جماعة إخوة الإسلام.
وسألت جدى غير مصدق:
- كيف استطاع الطاغوت أن يتحدى جماعة يحكم رجالها دول العالم الإسلامى كله؟
واكتسى وجه جدى ببسمة نصفها ألم ونصفها انتصار وتمتم:
فى ذلك الوقت لم يكن الواحد منا يأمن أن يبيت فى بيته دون أن يتخطفه خدم الطاغوت وجلادوه ولم يكن الواحد منا يستطيع أن يدير أى عمل أو أن يملك أى مشروع بعد أن استولى أعوان الطاغوت على كل ما نملك ونهبوه ابتداءً من المصادرة والتأميم لتكوين القطاع العام ومرورًا ببيع القطاع العام لتصفيته ومرورًا بشركات توظيف الأموال، ثم المحاكمات الاستثنائية والمدعى الاشتراكى كانت عملية نهب ونزح للثروة من فئة لصالح الذين يملكون الإذاعة والتليفزيون والصحف والأمن، وكان شعارهم الذى لم يعلنوه ولم يتحولوا عنه أن رعى الخنازير خير من رعى الجمال..!!
قال جدى إنه من المعروف أن جميع التنظيمات الإسلامية قد توحدت بعد المنع وبعد أن أدركوا أن الإسلام هو المستهدف فعبروا تناقضاتهم وتوحدوا تحت راية واحدة أطلقوا عليها إخوان الإسلام وتختصر فى كلمة واحدة هى: الإخوان.
كرر جدى الحكاية ألف مرة حاولت أن أجمع الروايات لكنها اختلفت فى التواريخ فأكد أبناء عمى الأول أنها حدثت منذ سبعين عامًا أبناء العم الثانى قالوا، بل منذ خمسة وستين أما أختى فقالت بل منذ خمسة وسبعين عامًا وبعد أن استبدت بى الحيرة وبعد مراجعتى للاحتمالات جميعًا رجحت أن منع حفل الإفطار تكرر ثلاث مرات والأرجح أنه على يد طاغوتين أو ثلاثة: لأن المؤكد أن الطاغوت الأول هلك بعيد الحدث بطريقة أسطورية مذهلة قلبت كل الموازين حتى إن الناس كانوا يسيرون فى الشوارع يضربون كفًا بكف هاتفين.
أخذ عزيز مقتدر.
وكان البعض الآخر يرتل:
- "قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء" «26» آل عمران.
وكان آخرون يقولون فى ذهول
"ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا" «35» الكهف.
5- فى ليالٍ كثيرة بعد أن كبرت قليلاً وتوجت حفلات الإفطار اليومية بصلاة التراويح كان جدى يجلس معنا بعد الصلاة ليحكى وفى حكايات كثيرة كانت دموعى تسيل فى صمت لكن فى أحيان أخرى كنت أبكى وانتحب بل إننى فى مرات لم أكتف بالنحيب فانفجرت أصرخ فى نوبات عاتية كان جدى يحكى لنا عن شهيد فى مثل عمرى اسمه محمد الدرة وكان يحكى كيف قتلوه فصرخت ويما آخر كان يحكى كيف قتلوه فصرخت ويومًا آخر كان يحكى عن شهيدة أصغر منى اسمها إيمان حجو أرانا جدى صورتها فى كتاب ضخم كان لا يكاد يفارقه، كان حجم الجرح الناتج عن القذيفة فى ظهرها هائلاً. حتى تخيلت أنه فى عرض السماوات والأرض فى المرة الثالثة كان جدى الذى كان يستعين بفنون التكنولوجيا يعرض لنا مشهدًا مصورًا عن طفلة اسمها هدى غالية خرجت مع أهلها للتنزه على شاطئ بحر غزة كانت تبنى قصرًا من الرمال بعيدًا عنهم وفجأة انطلقت قذيفة إسرائيلية مزقت الأسرة وفى لحظة بل فى لُحيظة فى ثانية بل فى عشر ثانية كان الأب والأم والإخوة أشلاء، كان الماضى والحاضر والمستقبل أشلاء كان الحب والوئام والرحمة والحنان أشلاء كان العدل على الأرض مزقا مزقا تتجسد حتى كدت أراها وأشم ريحها قال جدى أه بكى كثيرًا يوم حدث ذلك وعندما لمحت جدى يكبح دمعة فيعجز فيمسحها خفية تحول نحيبى إلى صراخ حاولت إسكات نفسى فعجزت حاولوا إسكاتى فعجزوا كنت أجد نفسى مكانها وكان أبى وأمى وإخوتى وأبناء عمرمتى هم الأشلاء.. وكانت رأس جدى مقطوعة وعلى الرغم من ذلك كانت عيناه مفتوحتين وشفتاه تتحركان وهو يكمل الحكاية وظللت أصرخ وأصرخ وأصرخ ولم يكن ثمة مناص من استدعاء الطبيب.
بعد ذلك كان جدى أكثر حرصًا وكان يخفف ما استطاع حين يروى لنا تاريخ المذابح والنكبات والأهوال.
6- حكى لنا جدى عن طاغوت ارتدت أمه وأخته عن الإسلام من أجل الشهوة ولم يكن ذلك أفضع جرائمهما.
كانت نخب الطواغيت كلها قد ابتعدت عن مرجعية القرآن والتزمت مرجعية الشيطان، وكانت قد هجرت الإسلام لتغرق فى الاستسلام.
وواصل جدى الحكاية فقال إن نصف أبناء الطواغيت قد ارتدوا بعد الثورة الإسلامية ليحافظوا على مصالحهم وليجدوا ملاذًا آمنًا، مازالوا يفضلون رعى الخنازير النصف الآخر يتسول.
7- لم أبرأ من الكابوس الذى كنت أرى فيه رأس جدى مقطوعة، وعيناه مفتوحتان وشفتاه تتحركان وهو يكمل الحكاية إلا بعد أن حكى لنا كيف تبخرت إسرائيل وتلاشت بعد الثورة دون طلقة رصاص واحدة.
هنالك فقط ذهب فزعى واختفى روعى وتلاشى غضبى واسترحت.
8- حكى لنا جدى عن اشتعال الخلافات بعد الثورة والوحدة الإسلامية وكيف تنافست دمشق وبغداد والقاهرة وإسطنبول على أن تكون عاصمة للخلافة لكن مجالس الشورى الإقليمية ورئاسته المركزية اجتمعوا فاتفقوا على قرار لم يختلف عليه أحد وهو أن تعود الخلافة إلى العاصمة التى اختارها لها الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة.
9- من أجمل صفات جدى أنه كان مثلنا يبكى ويضحك ويفرح ويحزن ولكم بكى وانتخب وهو يحكى لنا عن سقوط عاصمة الخلافة منذ قرن ونصف قرن وإنشاء إسرائيل ولقد سمعته ينتحب حين حكى لنا عن هزيمة 67، وعن إعدام سيد قطب وعن التعذيب والتزوير والانهيار أمام أمريكا وإسرائيل.. كما كان وجهه يشرق بالنور وهو يحكى لنا عن انتصار العاشر من رمضان أو عن حفل الإفطار الرمضانى الذى انبثق منه الشرارة التى أدت إلى الإسلامية الكبرى.
10- قال جدى إن الأمر بدأ طبيعيًا تمامًا ولم يتخيل أحد أبدًا أن يحدث ما حدث وبرغم مرور نصف قرن فما تزال الحقيقة عصية والروايات مختلفة والآراء متضاربة كان إخوان الإسلام قد تقدموا بطلب إلى أعوان الطاغوت للسماح لهم بحفل إفطار رمضانى ورفض الطاغوت لكن الإخوان ردوا بأنهم سيقيمون الاحتفال مهما كلفهم الأمر فإذا رفضتهم كل الفنادق والقاعات فسوف يقيمونه فى الشارع أو فى الصحراء وفى اليوم الموعود جهز فرعون سحرته من الكتاب الذين يلبسون الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق، كما جهز أمنه من شياطين البشر الذين لم يصفدوا بعد.
وبدأت أهم أحداث منذ سقوط بغداد الأول على يد التتار الأول.
الأحداث التى بدأت بسيطة وهينة ثم تدافعت تداعياتها لتغير وجه العالم.
كيف حدث ذلك؟ وما التفاصيل؟ لدينا عشرة ملايين رواية..!
كان جدى يتساءل فى روايته للأحداث هل تعمد الإخوان بلبلة الأمن؟ لا أحد يعلم لكن المتيقن منه أن الشائعات قد ملأت البلاد من أن حفل الإفطار سيكون فى مكان غير متوقع وراحت التكهنات تذهب كل مذهب فمن تكهن يؤكد أن الحفل لن يكون فى القاهرة لتجنب الحشد الكثيف للأمن وأنه قد يكون فى الإسكندرية أو أسيوط أو أسوان أو طنطا هل كانت هذه الشائعات مدبرة؟ هل كانت تستهدف تشتيت الأمن؟ كانت الأقلام تكتب والإذاعات تذيع والفضائيات تنشر وتتلمظ.. إحدى الشائعات أكدت أن الحفل سيقام فى أحد المساجد الكبرى على أمل أن تتحرج قيادات الأمن من الأمر باقتحام مسجد رغم أن هذا حدث من قبل كثيرًا، بل وقتلوا العاكفين فى المساجد ومزقوا المصاحف وسجلوا أسماء من يصلون الصبح فى جماعة لكى يسجلوهم فى كشوف الإرهابيين كان المرشد وإخوانه يردون على التساؤلات بابتسامات صامتة لم ينفوا أو يؤكدوا أى شائعة قيل أن الاحتفال سيتم فى عمق الصحراء وأن البعد عن العمران سيتم تعويضه بتكثيف حضور الفضائيات ولم تكتف الشائعات بذلك فقد كانت بعض الشائعات غريبة والأخرى مجنونة كتلك الشائعة الغريبة التى أكدت أن الاحتفال سيتم فى مئات القوارب فى النيل أو فى البحر أو تلك الأخرى المجنونة التى توقعت أن يبتكر الإخوان ابتكارًا غير مسبوق فيقيموا الحفل فى مئات المناطيد الصغيرة السابحة فى الفضاء.
قال جدى إنه واثق بأن الإخوان وإن التزموا بالغموض إلا أنهم لم يشاركوا فى ترويج الشائعات أبدًا أبدًا أبدًا فالصدق عند الإخوان ليس مكرمة وإنما فريضة والكذب ليس رذيلة وإنما شرك بالله.. كتاب أمن الشيطان لم يدركوا ذلك لم يفهموه وكيف يفهمونه، وقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة.. لذلك اتهموا الإخوان أنهم وراء الشائعات قال جدى إنه يعتقد أن أهم سبب لانتشار الشائعة هو الشوق الدفين فى قلوب الناس لحدوث موضوع الشائعة.. شوق دفين طال أمده وعجزت الآليات الطبيعية عن تحقيقه فلا أحلام اليقظة تكفى ولا النكات تشفى ويتزايد الضغط فيقترب من نقطة الانفجار انفجار الشائعة كبديل عن الأمل الذى طال انتظاره ولم يتحقق الأمل الذى يرى كل واحد أنه نهاية الهم وزوال الغم وانقشاع الظلام والظلم والإيذان بالعدل والنور والحرية إنه الغريق الذى أيقن بالهلاك فتأتى موجة فتدفعه للشاطئ فيصرخ فرحًا وشكرًا واستقبالاً لحياة جديدة ويردد صرخته كل من كان فى مثل حالته الشائعة هى تلك الموجه إلا أنها موجه كآبة كالسراب.
قال جدى وهو يتعجب من آيات الله أن الناس الأمة لم يكونوا مصدر الشائعات بل كانوا التربة المتعطشة إليها والمضحك الغريب أن حالة السعار التى انتابت كتاب السلطة جعلتهم هم الذين ينثرون بذور الشائعات إذ يكتبونها فى بلاغات لأجهزة الأمن رغم أنهم يسمونها مقالات وينشرونها فى صحفهم لتتلقفها الأرض العطشى لها تتلقفها وترعاها وتنميها حتى تسد الأفق وهكذا كان.
من المؤكد أن انتشار الشائعات الآن يقول جدى إن أمرًا جاءه صبيحة ذلك اليوم بالتوجه للفيوم وقبيل العصر جاءه أمر بالتوجه إلى الإسماعيلية قبيل المغرب وكان قد وصل إلى الجيزة جاءه الأمر الأخير ميدان التحرير.
نعم...
ميدان التحرير...
كان ذلك اسمه فى ذلك الوقت لكن اسمه تغير بعد ذلك اليوم ليصبح الاسم الحالى «ميدان الشهداء» لم يكن قد استمد اسمه القديم من تحرير الوطن، بل من لحظة انكسار للوطن ألقت فيه بعض النساء بينهن زوجة سعد زغلول ابنة الرئيس الوزراء المتعاون مع الاحتلال بأوشحتهن وغطاء رءوسهن ودسنها بالأقدام كان تحررًا من الهوية لا من العبودية وكان سقوطًا فى التبعية، كان التحرر من الرباط الجامع الذى يربط الأمة حتى لو تفرق الحكام لم يكن تحريرًا بل تدميرًا نعم كانت تسميته بالحرير خسوفًا للضمير الحمد لله الآن يستمد اسمه من دماء الشهداء التى أريقت فيه.
لم تكن أسوأ احتمالات الأمن تخيل له أن الحفل سيتم فى الميدان المعروف آنذاك بميدان التحرير ومع ذلك فقد كان ثمة عشرة آلاف جندى يقبعون فى الميدان تحوطًا كان عدد حضور حفلات إفطار الإخوان قبل ذلك لا يتجاوز الألفين وكان عشرة آلاف يكفون لمواجهة هذا الاحتمال البعيد لكن المفاجئ والمذهل لقوات الأمن أن العدد تجاوز المائة ألف كان ذلك قبل المغرب بنصف ساعة لم يفطن رجال الأمن لما يحدث قدروا أن ما يرونه هو الزحام الطبيعى لكل يوم لم يدركوا الأمر إلا بعد انطلاق أذان المغرب، حيث فوجئوا بمائة ألف يقيمون الصلاة، ثم يفترشون الأرض ويبدأون الإفطار.. بعد المغرب بنصف ساعة كان عشرة آلاف جندى قد أصبحوا مائة ألف لكن المائة ألف محتفل كانوا قد أصبحوا مليونًا صدرت الأوامر باستدعاء المزيد من قوات الأمن ونظرًا للارتباك الهائل فقد تم سحب القوات المحيطة بالعاصمة كى تمنع توافد الناس من الأقاليم إليها ويسحب هذه القوات خلا الطريق أمام الجماهير المتدافعة فى البداية كانت الغالبية من الإخوان لكن الفضائيات بدأت تذيع الخبر، مؤكدة أنه ليس شائعة وإذا بالوطن ينفجر وكأنه يوم الحشر تنشق الأرض فيفور منها الناس كما تفور المياه من شلال أو من ينبوع متدفق عند الفجر كان مليون جندى فى وسط المدينة لكن عدد من جاءوا لحفلة الإفطار وبعدها كان قد بلغ فى أقل التقديرات خمسة ملايين قيل إن هذا المشهد العظيم لم يتكرر منذ معركة العاشر من رمضان. السادس من أكتوبر حين فوجئت دولة كان اسمها إسرائيل كانت تحتل إقليم فلسطين بأنها تواجه مائة ألف جندى مصرى فى خلال ساعات قليلة.
فى حياتى كلها منذ كنت طفلاً لم أشاهد جديًا متحمسًا ومنفعلاً كما شاهدته وهو يحكى هذه الحكاية مرات وراء مرات وأعوامًا وراء أعوام كان وجهه يصطبغ بلون الدم وكانت عيناه تغرورقان بالدموع وكانت ملامحه تختلج وتتقلص ويتسارع شهيقه وزفيره مصاحبًا بصوت كالأنين وكنت أحيانا من فرط حماسته أنسى أننا نجلس فى بيتنا وأتخيل أننا معه فى ميدان الشهداء.. مازلنا فى حفل الإفطار الذى لما ينته كنت أحس بمذاق الطعام وأسمع دوى الرصاص وأشم الدخان وأرى الدم.
كان جدى يحكى نفس الأحداث فى كل مرة لكنه كان يزيد فى مرة وينقص فى أخرى ويركز على جانب فى رمضان، لكنه فى رمضان التالى يركز على جانب آخر، كما أنه كان يطعم الأحداث بما لم يكن معروفًا يوم ذلك الحفل والذى كشف عنه بعد ذلك اليوم بأعوام طويلة بسبب قانون حرية المعلومات والذى بمقتضاه فتحت أضابير المخابرات الأجنبية وعلاقاتها بحكامنا كاشفة من التفاصيل المخزية ما لم يكن يتصوره عقل.
قال جدى إنه فى شبابه الباكر كان يظن أن كمال أتاتورك إخوان مسلمين وأن محمد دحلان إخوان مسلمين العرب، لكنه بعد أن انكشف المخبأ أدرك أنه أن كثيرًا من الحكام كان "أتاتورك" وأن أغلبية من حكام العرب كانت "دحلان".
لطالما تساءل جدى عن الحد بين الذى خططت له قيادات الإخوان بالفعل والتداعيات التى حدثت بعد ذلك ولم يكن تصرفهم إزاءها سوى رد فعل لتداعيات لم يحسبوا حسابها وذات مرة قال وهو يلهث فاجأتنا الأحداث كنا كمن يدفع عربة معطوبة على منحدر وفجأة انطلقت السيارة فحاولنا كبحها لكنها جرتنا خلفها كان جدى جزءًا من التخطيط فله إذن أن يتحدث بعين الشاهد المشاهد.
وله أن يتساءل ولو بعد الحدث بنصف قرن ما الأمر الذى دبر الإخوان له وأعدوا له العدة؟ من المستحيل أن يكونوا دبروا لوجود العشرة الملايين الذين سدوا قلب المدينة، بل إن رقم المليون كثير يقول جدى وقد كان قريبًا من الأحداث أن أملهم كان لا يتجاوز حشد مائة ألف وكان المتشائمون لا يتوقعون أن يأتى أكثر من عشرة آلاف فالمخاطر جمة والطاغوت سفاح دموى لا يرتوى أبدًا من الدماء، كما أن الأمن جبار ووحشى وقاس ومجرم.
قال جدى وما يزال الانفعال يأخذ بتلابيبه وما يزال يلهث كأن الحدث يحدث لتوه لقد أعدوا حسب طاقتهم أقصى طاقتهم أعدوا ما استطاعوا فجاءهم نصر الله.. سخر لهم حتى أعدائهم ليحتشدوا معهم كما أن ما حدث بالقدرة الإلهية يفوق أعظم التخطيطات وأكثرها عبقرية كان تدبير الله وكان مكر خير الماكرين لقد كان الأمن يتصور عددًا محدودًا من الحضور الصائمين كان يتصور حضور ألفى فرد سيحاصرهم ويشتتهم بعشرة آلاف لكنه فوجئ أن المحاصرين ليسوا ألفين بل مائة ألف ثم استدعوا الجنود المحيطين بالعاصمة ليشاركوا فى الحصار وفى خلال ذلك كان مئات آلاف الصائمين قد توافدوا فحاصروا دون تخطيط الجنود الذى يحاصرون الصائمين لكنهم عندما تركوا أماكنهم حول العاصمة تدافع الملايين فحاصروهم وتم استدعاء تعزيزات من محافظات الجمهورية كل فجاءت على عجل وحاصرت الجماهير لكن ملايين أخرى تدفقت فأصبح الكل يحاصر الكل.
بكى جدى وهو يحكى كيف أحس بملابسه مبتلة وتحسسها فوجد دمًا دافئًا لم يكن دمه كان دم شاب بجواره لا يعرفه كان قد أصيب بطلقة رصاص كان من المستحيل نقله إلى المستشفى أو حتى إسعافه وظل ينزف حتى أسلم الروح بين يديه كانت الأوامر الهستيرية المسعورة قد انهالت على الجنود: اقتلوا الناس جميعًا انسفوهم نسفًا مزقوهم افرموهم خرج الطاغوت المفدى على شاشة التلفاز ينادى بسحق الإرهابيين وقتلهم أيا كان عددهم وأينما كانوا ووجه إنذارًا إلى الصائمين أنه سيفرق حقلهم الإرهابى بالدبابات والطائرات وكان معنى هذا أنه سيستدعى الجيش بثت الخطبة شاشات ضخمة لا يدرى جدى كيف ولا متى نصبوها.
كانت الأوامر المشددة علينا يقول جدى ألا نحمل معنا كل ما يمكن أن يشتبه أنه سلاح فلا عصى ولا حتى أمواس حلاقة أو مقص لقص الأظافر كانت الأوامر المشددة ألا نرد على إجرام السلطة بالعنف وكانت الخط التى بلغوا بها أن ينصرفرا بعد صلاة التراويح وبغض النظر عن النوايا فإن الواقع الميدانى قد جعل ذلك مستحيلاً كيف كان يمكنهم الانصراف والشرطة تحاصرهم والناس يحاصرون الشرطة التى تحاصر الناس والشرطة تحاصر الناس الذين يحاصرون الشرطة التى تحاصر الناس وهكذا إلى ما لا نهاية..
هل كان ذلك ضمن المتوقع؟ هل كان جزءًا من التخطيط لا يجزم جدى بالأمر لكنه يرجح أن الأحداث هى التى ساقت الجميع رغمًا عنهم لكن على أى حال كان هناك توجيه بالانصراف فى هدوء إذا تيسر الانصراف فإذا لم يتيسر كان هناك أمر ببدء الاعتكاف وكان عنف الشرطة الإرهابية متوقعًا وكانت الأوامر ألا نقاوم ولو بالحركات الرياضية التى كنا نمارسها فى النوادى الرياضية فذات مرة منذ سبعين عامًا اتهمت السلطة الغادرة شبابًا يمارسون الرياضة بأنهم يدبرون للانقلاب على نظام الحكم.
يقول جدى إن أحد إخوانه صرخ هل تمنعوننا من المقاومة إذا ما تطورت الأمور على غير ما نحب؟ أنتركهم يقتلوننا دون مقاومة؟ وكان الإجابة الحاسمة الصارمة الباترة نعم دعوهم يقتلونكم سوف تنتصر العين على المُخرز والصدر العارى على الخنجر وعلى الدم المسفوك سوف تنبت شجرة الولاء والبر ولكن الحقيقة أنه لم يكن هناك توقعات لمذبحة توقع المتفائلون أن يكون عدد الشهداء سبعة أو ثمانية وألا يزيد على عشرة، المتشائمون تكلموا عن مائة أو مائتين فى اليوم الثالث قيل إن عدد الشهداء تجاوز عشرة آلاف والغريب أن قتلى الشرطة كانوا ألفًا، المؤكد دون شك هو أن الإخوان لم يقتلوا شرطيًا واحدًا كان الشيوعيون أذل وأهون وأجبن من أن يقتلوا هذا العدد أو حتى معشار معشارة، وكانت معظم الحركات السياسية الأخرى إما هزيلة لحد المهزلة وإما عميلة كانت شاشات التلفاز الضخمة المنصوبة تتحدث عن الإرهابيين الذين يقتلون رجال الشرطة بل وبلغ الأمر أن هذه الشاشات أذاعت أن السلطة قد اكتشفت تفاصيل مؤامرة الإرهابيين أكلة لحوم البشر وأن القانون سيأخذ مجراه لمعاقبتهم على جرائمهم التى لم يسبقهم إليها فى التاريخ مجرم، وأكدت الشاشات الضخمة أن الإخوان المعتكفين يقتلون رجال الشرطة ثم يطهونهم ويأكلونهم بعد أن شح عندهم الطعام وقد قدمت الشاشات مئات الأدلة على ذلك ولكن أكثرها إفحامًا، كان اعترافات مجموعة من الإخوان أكدوا أن المرشد العام نفسه قد أمرهم بذبح رجال الشرطة والتهامهم وأكد المتحدث أنه شخصيًا أكل من لحم عقيد وملازم وجندى وقدمت الشاشات الضخمة صورًا تجمع بين هؤلاء والمرشد وانفجرت الفضيحة عندما صرخ أحد المحتشدين لا تصدقوهم هذا الرجل أخى وهو ليس من الإخوان بل من الشرطة السرية وانتشرت الحقيقة انتشار النور خاصة عندما تجاوز بعض الإخوان التعليمات فاستطاعوا بحركة بارعة أسر الرجال الثلاثة الذين زعموا أنهم من الإخوان وأن المرشد هو الذى أمرهم بذلك أسروهم وكانت بعض الفضائيات قد صمدت أو سد عليها منافذ الهرب فبثت صورهم واعترافاتهم على الفور، حيث اقروا أنهم من رجال الشرطة السرية ولكن على الرغم من هذا بقى الواقع دون تفسير واقع أن ألف شرطى قد قتلوا وكان الأمر واضحًا عند الإخوان لكن قطاعات الشرطة لم تفهمه إلا فى اليوم العاشر.
يوم التحول العظيم كان القتلة قوات خاصة من الشرطة نفسها كان الطاغوت قد أدرك خطورة ما يحدث فدبر لإذكاء الفتنة وزرع الثأر بين الشرطة والناس فدفع ببعض رجاله لقتلهم.
حاول بعض الإخوان إثبات ظنهم بأسر بعض هذه القوات الخاصة لكنها كانت مدربة تدريبًا عاليًا جدًا لذلك انتهت كل محاولة لأسر أى واحد منهم بالقتل لكن الفرج جاء من حيث لم يحتسب أحد وحدث التحول كيف حدث لا أحد يدرى بالضبط قيل إن شرطيًا هشم رأس أحد المعتكفين بهراوته كان قد غافله وهاجمه من الخلف وهو يتجرع آخر جرعة ماء قبل الإمساك وسقط الرجل على ظهره فرأى الجندى وجهه كان أباه وقيل إن شرطيًا أصاب معتكفًا إصابة بالغة فانبثق الدم كنافورة منه وفى هذه اللحظة بدأ أذان المغرب فإذا بالمصاب يقدم إلى الجندى ثمرة ليفطر عليها وقيل إن جنديًا قتل أخاه لكن هل كانت هذه الأحداث الفردية على فرض صحتها هى سر بداية التحول حين خلع الجنود بزاتهم العسكرية وانضموا إلى الناس أم أن الغضب قد تفجر عندما اكتشف رجال الشرطة أن من يقتلونهم إخوانهم وزملاءهم وانتشرت شائعات هنا وهناك عن كيفية اكتشاف الأمر وتباينت الرؤى فقد انتشرت شائعة عن جندى مذبوح طفت جثته فى نهر النيل لكن الغريب فيها أنها كانت تتحرك عكس اتجاه التيار وعند مقياس الروضة حدثت المعجزة فقد ردت إلى الجثة الحياة فنهضت وسارت على الماء حتى الشاطئ واشتعل الناس حماسًا وذعرًا وذهولاً أمام المعجزة وساروا خلف الجثة التى ردت إليها الحياة واستمر الموكب يتزايد حتى وصلوا إلى معسكر من معسكرات الأمن وحاول الجنود سد الطريق أمام الناس بالمتاريس لكن الجثة الحية أزاحت المتاريس كما لو كانت تزيح قشة أو كتلة من الإسفنج لا من الحجارة واقتحم الموكب المعسكر وظلت الجثة الحية تتحرك حتى قبضت على ثلاثة جرتهم بمنتهى السهولة وألقت بهم فى وسط المعسكر كان منهم قائد المعسكر وأحد ضباطه وجندى من جنوده وتحدثت الجثة الحية فأمرتهم بالاعتراف بما حدث فاعترفوا أنهم هم القتلة وأن الأمر بدأ بالطاغوت، ثم بالوزير ثم بالمدير الأعلى ثم بالمدير ثم بالجندى عندما تم ذلك بدأ الدم ينزف من عنق الجثة مرة أخرى فسارعت بالعودة إلى النهر لتمشى على الماء داخله، كما مشت خارجه وفى المنتصف سلبت الحياة وسقطت الجثة لتعوم فى وسط النهر لكن هذه المرة مع التيار أكد جدى أنه لم يصدق تلك الشائعة والتى لا تعبر إلا عن عجز الناس عن اقتناص مما يريدونه فى الحياة فيقتنصونه بالوهم فما الشائعة إلا وهم ما يعتقده جدى أن قبضة الشرطة كانت قد تهاوت بعد منتصف رمضان وعندما وهنت قبضة الطاغوت الجبار بدت للشرطة سوءاتها وأن ما يفعلونه إجرام يفوق إجرام أشد العصابات لاحت بوادر عهد جديد فاستيقظت ضمائر ما هى بضمائر عندما بدأ ربهم يتهاوى بدأوا يخافون عواقب جرائمهم وربما يكون بعضهم وهذا مستبعد قد خشى عقاب الله الواحد القهار.
يعلم الله هل تم كشف الأمر بيقظة ضمير أم كبراءة من نظام أوشك على التلاشى وتزلفا لنظام يوشك أن يأتى فقد تم كشف الأمر بعيدًا عن الشائعات عندما تقدمت إحدى الفرق الخاصة التى كانت مكلفة بقتل رجال الشرطة تقدمت لتعلن توبتها إلى الله وانضمامها إلى الناس معترفة بكل شىء.
ليس ثمة اتفاق حول تفاصيل الأحداث الدقيقة فى تلك الأيام انتشرت الشائعات وتناثرت الأقاويل ويعترف جدى أنه لم يصدق جل هذه الشائعات وتلك الأقاويل فقد كان دائمًا يحترم العقل ويقدس المنطق فكيف كان له أن يصدق تلك الشائعة التى أكدت أن البعض شاهد الإمام الحسين يخرج من ضريحه ممتطيًا جواده شاهرًا سيفه ليقود المعتكفين مرددًا آيه:
«أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير» «الحج: 39»
قال جدى إنه لم يصدق تلك الشائعة لكن الناس والجنود صدقوها وتدافع الآلاف بل والملايين ليكونوا تحت راية الحسين رضى الله عنه وقد علم جدى فيما بعد أن تلك الشائعة أقلقت قيادات الإخوان إلى حد كبير كانت تخشى أن يكون شيطانًا من أتباع الطاغوت هو الذى أطلقها كى يغير مسار الثورة وبعد اشتداد الكرب والموت والأشلاء والجوع ونقص الأموال والطعام وانتشرت شائعة أخرى أن السيدة زينب خرجت من ضريحها وجعلت ممن حيها ملاذا آمنًا يؤوى إليه من أراد من الشرطة والناس وأنها أخذت تعالج المرضى وتداوى الجرحى وتدلن الموتى لم يصدق جدى الشائعة رغم أنه أقر أنه ذهب إلى هناك ليضمد جرحًا أصابه ولم يقتصر الأمر على ذلك فثمة شائعات انتشرت عن رؤى صادقة رأى الناس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن جدى رفض بإصرار أن يخوض فى الأمر منزها الرسول صلى الله عليه وسلم عن قول لا يمكن إثباته.
قال جدى إنه وإن كان قد رفض الشائعات فإنه لا ينكر ذلك الضوء الخفى الذى كان ينير ظلمة مدينة انقطع عنها التيار الكهربائى ليس ضوء القمر والنجوم وإنما ضوء التسليم لله والإيمان به ضوء الرضا والتوكل والحمد كما لا ينكر حالة الطمأنينة والسكينة المخيمة على المعتكفين وسط الرصاص والدم والأشلاء والموت.
لم يأت اليوم الخامس عشر من رمضان إلا وكانت الشرطة كلها قد ذابت!
خلع الجنود ثيابهم العسكرية وانضموا إلى الناس وارتفعت المشاعر إلى عنان السماء وفى دعاء القنوت الذى كان ينطلق من بعض المساجد فى صلاة الصبح ومن بعضها الآخر فى وتر العشاء ارتفع عدد من يبكون خشوعًا وتأثرًا وخوفًا من الواحد القهار وقيل إن ارتفاع عدد المصلين ليس بسبب زيادة الإيمان فقط، بل إن كثيرًا من رجال الشرطة بعد أن انضموا للناس وذابوا فيهم وعاشروهم أدركوا أى نوع من المجرمين كانوا عندما كانوا يعذبون هؤلاء الناس ويقهرونهم ويزورون أصواتهم.
أسقط فى يد الطاغوت كان ما يزال لديه عدد كبير من جنود الأمن نصف مليون على الأقل لكنه لو وجههم لمسار الجماهير المعتكفة التى انضم إليها مليون من الشرطة لحدثت مذبحة لا يعلم مداها إلا الله على أى حال فإن نصف المليون الباقى لم يبق على حاله فنصفه على الأقل قد ذاب!! خلعوا ملابسهم العسكرية وانضموا إلى المعتكفين الباقى من الشرطة كانوا من كبار السن القائمين بالأعمال المعاونة ولم يكونوا يصلحون لأى مواجهة.
أذاعت الشاشات الضخمة أن الإرهابيين أقاموا محاكم خاصة أخذوا يحاكمون فيها ضحاياهم المختطفين من المسئولين لكن بعض القضايا التى تمكنت بصورة أو بأخرى من الحضور، إضافة إلى بعض المواقع الإلكترونية التى راحت تغطى الحدث بطريقة غير معروفة فأذاعت هذه وتلك أن بعض ضباط القسم السياسى يحاولون التسلل وتحريض الجنود على بعضهم البعض وعلى الناس، بل إن بعضهم حاول تفخيخ بعض السيارات والأماكن كى ينسبوا الفعل إلى الإخوان أمسك بهم الجنود وحاكموهم واعترف الضباط وكاد الجنود يقتلون بعضهم لولا رجاء حاسم من الإخوان أن ينتهى الأمر دون إراقة قطرة دم واحدة.
كان عدد التائبين من الجنود كبيرًا وتاب بعض صغار الضباط أما كبار الضباط فلم يتب منهم إلا أقل القليل لكنهم رغم قلتهم حملوا كمًا هائلا معهم من المستندات والأسرار وكان ضمن ما فضح أنه لا توحد قضية واحدة للإخوان منذ عام 1928 وحتى أيامها 2019 قد تمت كما صورها الأمن أو الإعلام وأن معظم هذه القضايا كانت تنسج تفاصيلها فى أروقة المخابرات الأجنبية وبعضها فى الموساد.
قال جدى إنه فكر كثيرًا جدًا دون أن يصل إلى نتيجة حاسمة فكر فى اللحظة التى أدرك فيها الإخوان أنهم أمام ثورة شعبية كبرى وأن عليهم ألا يكرروا خطأهم فى 1952و1977، عندما كانوا هم وقود الثورة لكنهم تركوها ليستفيد بثمارها اللصوص والأشرار.. وثمة بدايات كثيرة تصلح لتكون بداية هذا الوعى منها على سبيل المثال أن الموظفين فى المطارات والموانئ لاحظوا حركة تهريب ونزح هائلة لكبار المسئولين كانوا يهربون محملين بما خف حمله وغلاء ثمنه وأن الموظفين بادروا من تلقاء أنفسهم بإلقاء القبض عليهم واحتجاز المسروقات وإيداعهم سجن المطار ودون اتفاق مسبق فعل موظفو البنوك نفس الشىء لقد رفضوا تحويل الأموال أو صرفها.
انفرط عقد السلطة وبدأت الاعترافات تتوالى والفضائح تنتشر فالأمين ليس إلا لصًا والمؤتمن ليس إلا خائنًا وكشفت الاعترافات الأولية عن حجم هائل من الجرائم فى حق الأمة حجم لم يمكن لأحد أن يتصوره كانت الخيانة كاملة والعمالة كاملة والاتفاق مع أعداء الأمة ضد الأمة كاملاً وفى الوثائق السرية والمراسلات واضحة وكاملة ليس على الإرهاب بل على الإسلام على القرآن على الأحاديث على الصحابة كانت المؤامرة كاملة وافتضحت كل تفاصيلها..
ولم تكن على الدين كدين فقط بل بغض النظر عنه كان استهدافهم له لأنه أهم رابط يحمى الأمة والدولة والناس.. وكانوا هم يريدون تدمير الأمة والدولة والسيطرة على الناس كان الإسلام هو الراية الوحيدة الكفيلة بحشد الأمة، ولذلك كان على العدو تمزيقها ولم يشارك فى تمزيقها إلا خائن مارق فالملاحدة الإسرائيليون لم يكفوا عن الدفاع عن اليهودية لأنهم يعلمون أنها الرباط الضام الذى يحمى الدولة من الانفراط.
قيل إن الطاغوت أمر الجيش بالتدخل لكنه ووجه بموقف صارم من قياداته قيل إن تلك القيادات رفضت التدخل رفضًا باتًا وقيل أن بعض كبار القادة زاد على ذلك أنه لو تدخل الجيش فسوف يتدخل لعزل فخامته ومحاكمته لأنه لم يتصرف كرئيس جمهورية بل كرئيس عصابة وأن ما يمنع الجيش من التدخل هو قرارات سابقة صارمة بعدم التدخل فى الحياة المدنية بعد تجربتهم المرة منذ عام 1952 حين ورطوهم ليكونوا ضد الأمة وتوالت على الجيش الهزائم لولا أن جاء نصر العاشر من رمضان ليعيد الجيش إلى موقعه فى ضمير الأمة وأن قيادات الجيش قد اتخذت بعد نصرها المجيد آنذاك قرارات نهائية بعدم مواجهة الأمة لكنها لم تستطع الالتزام الكلى بهذه القرارات بعد أن ورطها الطاغوت فى محاكمات عسكرية لا ناقة لها فيها ولا جمل. إلا تنفيذ أغراض الطاغوت ورغباته التى لم تكن سوى أغراض أجهزة المخابرات الأجنبية ورغباتها حيث لم تكن تلك المحاكم نفسها تعلم أن تلك المحاكمات كانت فى كثير من الحالات تنفيذًا لاتفاقات أبرمها الطاغوت مع مخابرات أجنبية وكانت جزءًا من مخطط الحرب على الإسلام.
قال جدى إنه لم يكن أحد يتوقع ما حدث فى ليلة القدر كان الناس ما يزالون معتكفين وكان عددهم يزداد حتى قال قائل إن الناس قد هجروا المدن والقرى والنجوع وأن المائة المليون مصرى يعتكفون جميعًا فى شوارع القاهرة بل قيل إن عددًا كبيرًا من الأقباط انضم إلى الحشد الرهيب وكان صوت الطاغوت يجلجل كل مساء على الشاشات الضخمة مهددًا الناس بالويل والثبور وعظائم الأمور ولكن الشائعات كانت قد بدأت فى الانتشار عن انهيار النظام بعد انهيار القوة التى تحميه وفى ليلة القدر كان الناس يجأرون بالدعاء أن يكشف الكرب وفى صبيحة ليلة القدر أعلنت إسرائيل أن الطاغوت قد لجأ إليها وأنها تضمن حريته وحياته وذكرت وكالات الأنباء أن هذه الصفقة هى أكبر صفقة فى حياتها فقد كانت ثروة الطاغوت التى نهبها من شعبه تتجاوز السبعين المليار دولار.
فى نفس الليلة نجح خمسة آلاف على الأقل فى اللجوء إلى إسرائيل منهم وزراء وقادة وضباط أمن وأعضاء نيابيين وقضاة ونواب عموم سابقين ورجال أعمال لكن التحقيقات مع الجزء الذى لم يتمكن من الهرب فى الوقت المناسب.. كشفت عن أن كل ما نشرته صحافة المعارضة وكل ما روجته الشائعات رغم فظاعته كان لا يكاد يذكر أمام الحجم الحقيقى للفساد واللصيصية والخيانة التى تم الكشف عنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.