الوطنية للانتخابات تنعى زوجة رئيس الهيئة المستشار حازم بدوي    انزل ..شارك.. اختار    شُعبة حراسة المنشآت ونقل الأموال تناقش قانون العمل الجديد    وزير السياحة يشارك في فعاليات الدورة 26 للجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة للسياحة بالسعودية    باستثناء فئة واحدة.. ترامب يعتزم دفع 2000 دولار لكل أمريكي    "يديعوت أحرنوت": إلغاء جلسة محاكمة نتنياهو غدا بناء على طلبه    زيلينسكي يفرض عقوبات ضد مسئولين روس بينهم رئيس صندوق الإستثمار المباشر    أحمد رمضان بيكهام يدخل بدلاً من بن شرقي    رئيس جامعة بني سويف يتفقد مصابي حريق المستشفى العسكري ومعدية أشمنت    التصريح بدفن جثمان معلم أزهري لقي مصرعه أثناء أداء صلاته بقنا    تأجيل محاكمة 78 متهمًا في خلية "التجمع الأول" إلى 28 ديسمبر    قتل وهو ساجد.. التصريح بدفن جثة معلم أزهرى قتله شخص داخل مسجد بقنا    بعد استضافة (The Grand Ball)..خبير سياحي: مصر يمكنها منافسة أوروبا في تنظيم أكبر الفعاليات    عمرو سعد وعصام السقا يقدمان واجب العزاء في والد محمد رمضان    غدًا.. وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة فى لقاء خاص على القاهرة الإخبارية    منة فضالي تقدم واجب العزاء لوالد محمد رمضان بمسجد الشرطة    بعد تصريح الجزائر..ياسر جلال: "محدش يزايد على حُبي لبلدي أو وطنيتي"    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    حفاظا على صحتك، تجنب الإفراط في تناول الخبز والسكريات ومنتجات الألبان    نائب وزير الصحة يتفقد مستشفى شبرا العام ويوجه بإصلاح الأجهزة خلال أسبوعين    شريف عامر: لا بد من التطور والتكيف ولكن بطريقه احترافية    افتتاح قمة الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية وسط قلق بسبب التحركات العسكرية الأمريكية    رئيس قطاع الأخبار بالمتحدة: مهمتنا تلبية احتياجات الجمهور وتقديم أفضل محتوى    بيحبوا يثيروا الجدل.. 4 أبراج جريئة بطبعها    استعدادات أمنية مكثفة لتأمين انتخابات مجلس النواب 2025    رئيس الوزراء يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لمشروع مدينة «رأس الحكمة»    رسميًا.. بدء إجراء المقابلات الشخصية للمتقدمين للعمل بمساجد النذور ل«أوقاف الإسكندرية»    حزب السادات: مشهد المصريين بالخارج في الانتخابات ملحمة وطنية تؤكد وحدة الصف    الشروط الجديدة لحذف غير المستحقين من بطاقات التموين 2025 وتحديث البيانات    راحة 4 أيام للاعبي الاتحاد السعودي بعد خسارة ديربي جدة    توقيع مذكرة تفاهم لدمج مستشفى «شفاء الأورمان» بالأقصر ضمن منظومة المستشفيات الجامعية    أخبار السعودية اليوم.. إعدام مواطنين لانضمامهما إلى جماعة إرهابية    الخزانة الأمريكية ترفع العقوبات عن الرئيس السوري أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب    المستشارة أمل عمار تدعو سيدات مصر للمشاركة بقوة في انتخابات مجلس النواب 2025    محافظ بني سويف ورئيسة المجلس القومي للطفولة والأمومة يفتتحان فرع المجلس بديوان عام المحافظة    زلزال قوي يضرب الساحل الشمالي لليابان وتحذير من تسونامي    المشاط: ألمانيا من أبرز شركاء التنمية الدوليين لمصر.. وتربط البلدين علاقات تعاون ثنائي تمتد لعقود    علاج مجانى ل1382 مواطنا من أبناء مدينة أبو سمبل السياحية    أحمد سعد يتألق على مسرح "يايلا أرينا" في ألمانيا.. صور    رئيس الجامعة الفيوم يستقبل فريق الهيئة القومية لضمان جودة التعليم    ضبط تشكيل عصابي لتهريب المخدرات بقيمة 105 مليون جنيه بأسوان    امتحانات الشهادة الإعدادية للترم الأول وموعد تسجيل استمارة البيانات    استلام 790 شجرة تمهيداً لزراعتها بمختلف مراكز ومدن الشرقية    «زي كولر».. شوبير يعلق على أسلوب توروب مع الأهلي قبل قمة الزمالك    وجبات خفيفة صحية، تمنح الشبع بدون زيادة الوزن    «لعبت 3 مباريات».. شوبير يوجه رسالة لناصر ماهر بعد استبعاده من منتخب مصر    نهائي السوبر وقمة الدوري الإنجليزي.. تعرف على أهم مباريات اليوم    انتخابات مجلس النواب 2025.. اعرف لجنتك الانتخابية بالرقم القومي من هنا (رابط)    مئات المستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى والاحتلال يواصل الاعتقالات في الضفة الغربية    أمين الفتوى: الصلاة بملابس البيت صحيحة بشرط ستر الجسد وعدم الشفافية    على خطى النبي.. رحلة روحانية تمتد من مكة إلى المدينة لإحياء معاني الهجرة    قافلة «زاد العزة» ال 68 تدخل إلى الفلسطينيين بقطاع غزة    الزمالك كعبه عالي على بيراميدز وعبدالرؤوف نجح في دعم لاعبيه نفسيًا    هل يفاجئ توروب الزمالك؟.. تشكيل الأهلي المتوقع في نهائي السوبر المصري    طولان: محمد عبد الله في قائمة منتخب مصر الأولية لكأس العرب    معلومات الوزراء : 70.8% من المصريين تابعوا افتتاح المتحف الكبير عبر التليفزيون    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عش ألف عام مع بهاء طاهر
نشر في صباح الخير يوم 08 - 09 - 2009

بعد أحد عشر عاما يعود الروائي الكبير بهاء طاهر إلي عالم القصة القصيرة!
ست قصص بعنوان : "لم أعرف أن الطواويس تطير" أسفرت عن عودته بقوة إلي القصة القصيرة بجناحي طائر حلق في عالم الرواية بست روايات هي : "خالتي صفية والدير"، و"الحب في المنفي"، و"قالت ضحي"، وشرق النخيل"، و"نقطة النور"، و"واحة الغروب"، والتي حصل بها علي الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر العربية" عام 7002، كما حصل بهاء طاهر من قبل علي جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 8991، وحصل علي جائزة مبارك في الآداب هذا العام. د. عزة بدر ؟ ثمن الحرية
وبطواويس المجموعة القصصية الجديدة يختال بهاء طاهر في كامل بهائه وريشه، فاردا مروحة منقوشة بالزهر الملون، واقفا علي شجرة السرد كطائر غرد يمتعنا بقصصه القصيرة بعد طول انقطاع فقد أصدر مجموعته القصصية الأولي "الخطوبة" عام 2791، ومجموعته "ذهبت إلي شلال" قبل أحد عشر عاما !
.. طاووس مغامر هو بطل قصته عنوان المجموعة الجديدة : "لم أعرف أن الطواويس تطير"، طائر ضاق بالأرض، ضاق بقانون الحديقة المشروط في المشي بخفة والمشي وئيدا كأنه يحمل في رجليه حديدا، غافل الطاووس الجميع، وخالف قانون الحديقة الرتيب وغامر بالطيران إلي فروع شجرة عيد الميلاد ليحتفل بمولده أو بحريته من جديد، ولكن فروع شجرة "التنوب" القصيرة، شجرة الميلاد لم تمكنه من الوقوف ثابتا في مكانه فتأرجح مهددا بالسقوط من أعلي، ولكنه وكأنما كان يريد فقط شرف المحاولة أخذ يعلو ويقفز من غصن إلي غصن حتي يستقر علي فرع اقوي متحديا إرادة البشر وسطوة القوانين !، وأجهزة المطافئ ورجالها، والناظرين الذين انقسموا إلي فريقين : فريق معه وفريق ضده، حزب معه، وحزب مع المطافئ !، ولكن الطاووس الهارب من الشباك يحقق وجوده وحريته ولو لدقائق ! هاربا من شباك إنقاذ كاذب لحياته التي أراد أن يعيشها حرا بالطول وبالعرض، حتي ولو كان ثمن الحرية أن يفقد حياته ذاتها! ويتماهي معه الراوي فيقول له : "تحرك!، قاوم، طر!"، ولكن عندما وصل إليه الصياد ورمي شبكته لم يتحرك الطائر كأنه كان ينتظر، فألقي بنفسه مختارا في الشبكة. وقد أصابه الكلل والتعب فبات الراوي يجاذبه وقد علق الجناح، يتشاكيان الأسر والغربة والوحدة، الطاووس في وحشته مستكينا إلي الشبكة حيث برزت بعض ريشاته الملونة من ثقوبها وهو ينتفض ليأتي صوت الراوي حزينا.
- بين بهاء طاهر وأحمد شوقي :
فيقول "يا طائري العجوز.. أشباه عوادينا"، وبهذه العبارة، وبكل هذا الشجن والأسي يردنا بهاء طاهر إلي مطلع قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي والتي يقول فيها: "يا نائح الطلح أشباه
عوادينا نشجي لواديك أم نأسي لوادينا"
وهي قصيدة بعنوان "أندلسية" كتبها شوقي في غربته، أما قصة "الطاووس" فقد كتبها بهاء طاهر من وحي غربته إذ تدور أحداث القصة في مهجره الذي سافر إليه للعمل، لتتعانق الغربة التي صورها شوقي في أندلسيته، والغربة التي صورها بهاء في قصته فتوقف كلاهما أمام طائر انكسرت محاولاته كي يولد من جديد فوقع أسيرا، يقول شوقي لطائره في الأندلسية: "ماذا تقص علينا غير أن يدا
قصت جناحك جالت في حواشينا
رمي بنا البين أيكا غير سامرنا
أخا الغريب : وظلا غير نادينا"
ويقول بهاء طاهر علي لسان الراوي : "طفا في داخلي حزن ثقيل مباغت وأنا أنظر إلي "نيكولا" الذي يمشي محني الرأس وأنا أفكر في كل ما جري : في هذا الطاووس المغامر العاجز، وفي نفسي وفي الآخرين في هذا المكان في حيرة من عادوا إلي بلادهم وحيرة من بقوا في الغربة، في الزمن الذي جري ويستحيل أن يعود، في الحب المخذول، وفي ضياع الحب، في القسوة التي نتعمدها، والقسوة التي نمارسها دون قصد، في الشيخوخة، وفي الوحدة، بالذات في الوحدة.
- الطواويس معارضة قصصية لقصيدتين:
تساقينا مع بهاء في قصته ذلك الشجن الموصول بقوله "أشباه عوادينا" وهي مطلع قصيدة شوقي ليحرك في نفوسنا معني الغربة، وصوتها، غربة الوطن، وغربة القلب ووحدته، نلمسها في مشاعر "نيكولا" الرجل المجروح الذي تركته حبيبته وهجرته، وحب مارلين صاحبته، الحب المخذول حيث قست علي نفسها وعلي حبيبها، مارلين وهي تنزل يد نيكولا برفق عن كتفها، وهو يميل بكليته إليها هامسا:
"ربما لو".. فتقول مارلين "لا! ليس ربما لو.. ليس أي ربما !" ووقف نيكولا ينظر في اتجاهها لحظة قبل أن يمضي مطأطئا رأسه، وكأن لسان حاله يقول : "أضحي التنائي بديلا عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا"
ولولا اختلاف اللغة لقالها نيكولا، فقصيدة النص "اشباه عوادينا" لشوقي هي أيضا معارضة لقصيدة "ابن زيدون" الشاعر الأندلسي "أضحي التنائي" والتي كتبها ابن زيدون في فراق ولادة بنت المستكفي، وهو الشاعر الأندلسي الذي يعد من أشهر شعراء العربية وعرف باسم "بحتري" الغرب، وله مع ولادة قصة تشبه حكاية "نيكولا" و"مارلين"، فقد جري "نيكولا" خلف "جونلة أخري" بين يوم وليلة كما تقول مارلين!، وولادة غضبت علي ابن زيدون لما استزداد من غناء جاريتها دون أن يستأذنها فعاتبته وفارقته وكتبت تقول :
"لو كنت تنصف في المودة بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنا مثمرا بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمر"
وهكذا نجد في النص القصصي لبهاء طاهر "لم أعرف أن الطواويس تطير" معارضة فنية جديدة لقصيدتين ضاربتين بجذورهما في معاني الغربة والشجن هما "أندلسية" شوقي، و"نونية" ابن زيدون، وها هو النص السردي يعانق نصوص الشعر بمس كلمتين لهما فعل الشعر في متن النص وهما : "أشباه عوادينا"، والعوادي هي ما يصيب الإنسان من حوادث الدهر وملماته.
- سودوكو!
وإذا كان رجال المطافئ يحرسون حياة الطواويس في الحديقة الغربية، فإن رجال الحراسة في قصة "سكان القصر" لا يعرفون من يحرسون بالضبط في الحي القاهري ؟! فهناك الكتل الخرسانية المربعة التي تحف بالأرصفة من جميع الجهات والحواجز الحديدية التي تسد شارعين وتقطع جزءا من الشارع العمومي، وترفع هذه الحواجز فقط لمرور سكان البيوت المجاورة للقصر والمزودين برخص استثنائية للمرور ويتتبع خيط السرد في قصة "سكان القصر" حكاية هذه الحراسة علي مستويين : مستوي السكان المحيطين بالقصر ورؤيتهم لها، ومستوي الحراس أنفسهم الذين يقومون بحماية ما لا يعرفون ويحرسون من لا يرون!
وتظل المعالجة الفنية لرؤية السكان مصورة لحذرهم وخوفهم لدرجة تصور بعضهم أن القصر مسكون بعبدة الشيطان، أما المعالجة الفنية للحراس فقد تميزت بلغة قص ساخرة، ومواقف أكثر سخرية، فعربة لب وسوداني عابرة كانت كفيلة بإثارة المتاعب واستنفار جهود رجال الحراسة، ينصبون لها الكمائن وتخرج رئيسهم عن طوره فيخرج إلي عموم حراسه ساخطا : "هو لا يصدق نفسه حتي الآن.. لا يصدق فعلا أن ما حدث قد حدث، كان يريد فقط أن يعرف كيف سيتصرفون لو حاول أحد أن يعبر الحواجز الحديدية" فيتفق مع بائع اللب والسوداني أن يمر بعربته ! من المنطقة المحظورة !
ثم يكتشف أن رجاله لا يستطيعون حتي مواجهة عربة لب!، وتتداعي أسئلة الحراس فيقول أحدهم : " "نريد أن نعرف الذين نحرسهم بالضبط لنؤدي عملنا كما يجب !" فيجيب رئيسهم : أنت تحرس أكل عيشك يا أفندي !
وهكذا تتوه الحقيقة في متاهة القصر وغموض سكانه، وتنتهي القصة بتقاتل الحراس فيما بينهم بعد أن أغلقوا الأبواب حتي لا يري الناس في الجوار حقيقة ما يجري فيتساءلون ولكن يجاوبهم الصمت.
وتكمن أكثر العناصر الفنية في هذه القصة في عنصر المفارقة حيث لا يدري الحراس من يحرسون ؟، ثم تقاتلهم دون سبب واضح، وخفاء العلاقة بينهم وبين سكان القصر، والمفارقة في موقف السكان المحيطين بالقصر الذين لا يعرفون من هم جيرانهم، ومن هم سكان القصر الذين يعيشون معهم في نفس الجوار. ومن جهة أخري يظهر عنصر المفارقة عندما ينتقل الخط الدرامي في قصص المجموعة من قصة إلي قصة فيدهشنا أن مصير طائر كالطاووس المغامر يهم فرقة من رجال المطافئ، والناس جميعا في الجوار بينما يتعرض بائع اللب والسوداني للضرب والنهب والسلب من الحراس المنوط بهم حماية الأمن! لمجرد مروره بمكان تكتنفه الحراسة.
ومثل هذا النسيج الضام لقصص المجموعة يظهر أبعادا، ويعقد مقارنات تستدعي التفكير، ويجعل من القارئ شريكا في النص وكأنه يكمل لعبة "السودوكو" بصور بصرية وفنية متجاورة تكشف عن الخيط الدرامي الذي يشد المجموعة من أول قصة إلي آخر قصة.
- قطط مضروبة !
وإذا كانت قصة "الطاووس" بالذات قد استغرقتني فإن القصص الأخري بهذه المجموعة قد أمتعتني، ففي قصتيه "قطط لا تصلح" و"كلاب مسعورة" يمضي كاتبنا ليفجر قضية كل هذه الكائنات التي فقدت حريتها وطبيعتها وبريتها، فالقطط في قصته فقدت "قططيتها" وهي تعبير نحته بهاء طاهر بمهارة ويعني به الطبيعة الخاصة للقطط فقد تحولت في هذه القصة إلي كائنات هادئة، مسالمة، تأكل بحساب وقدر، وقد تخلصت من طبيعتها البرية الأولي بعد أن حقنتها صاحبة الحديقة بأدوية خاصة، وأجرت لهذه القطط عمليات تعقيم لكي لا تلد!
فيقول أحد العاملين في الفندق - الذي تحيط به الحديقة بما فيها من قطط. "ما تصرفه المدام علي القطط في شهر واحد لدي الطبيب هو ضعف مرتبي ! هل تصدق أنها تذهب بها إلي طبيب في المدينة مرة كل شهر علي الأقل ؟
وما الغرابة في ذلك يا سعيد ؟
أعرف أنهم يحقنون القطط لحمايتها من الأمراض
- نعم وهي تجري لها عمليات أيضا لكي لا تلد
- للذكور أو للإناث ؟!
- كله ! للذكور والإناث!
- عاد ينظر إلي القطط بنوع من التشفي وقال :
- كلها قطط مضروبة !
فيكون رد الفعل الساخر والساخط للراوي وهو يقول : "في الواقع يا أستاذ سعيد، كلنا قطط مضروبة!"
- وعند هذه الجملة "الشفرة"، الحادة القاطعة يكشف لنا الراوي عن معاناة الجرسون سعيد الذي حصل علي ليسانس الفلسفة، ولكنه نسي القراءة والكتابة، وعن معاناة الراوي الذي أرسله مديره مفتشا في مجال غير تخصصه ليقرأ في ملفات العاملين، ويغرق في تفاصيل التفتيش عليهم، أما هم فقد اعتبروه جاسوسا يكتب عنهم التقارير ليرسلها إلي مديرهم - مناع الخير المعتد الأثيم - وهيهات يشرح لهم المفتش بطل القصة الفرق بين التفتيش والتجسس ثم يبدأ في محاسبة نفسه.
0ألا أتلصص بالفعل علي أعمالهم وأتابع تقارير المفتشين الذين أتوا قبلي وكل الأوراق السرية المدفونة في ملفات خدمتهم، ليست لي مصلحة طبعا فيما يصيبهم من ثواب أو عقاب فهل يمكن إذن أن أقول أنه تجسس شريف أو برئ ؟!
لا، فأنا أعرف سأقدم نتائج التفتيش إلي شخص غير برئ وغير عادل علي الإطلاق، ويجد لذة في توقيع العقاب، وأنا مخلب هذا المعتدي الأثيم شئت أم أبيت، فلماذا إذن لم أصر علي رفض المهمة !"، ويتعالي صوت الضمير في نفس هذا المفتش فيهمس للنادل سعيد في حوار قصير دال :
كان يسألني سعيد بتهذيب شديد:
- سعادتك تأمر بشيء آخر ؟
- قلت وأنا أواصل الإشارة للقطط.. أنا لم أطلب شيئا من الأصل يا سعيد حتي أطلب شيئا آخر ، ولكن ما رأيك أن نرفض..
- نرفض ماذا بالضبط سيادتك ؟
- لا شيء يا سعيد يمكنك أن تنصرف.. شكرا
- وهنا لا يخرج صوت الضمير إلي دائرة الفعل، ويظل سعيد ناقما علي القطط التي تعالج في شهر واحد بضعف مرتبه !، قطط مطلقة السراح في الحديقة بينما لا يتمتع هو بهذه الحرية فهو محبوس تسجل صاحبة العمل عليه حركاته وسكناته عن طريق جواسيسها فإذا ترك ورديته ذات يوم، فإنها تخصم نصف راتبه.
- ورغم اختلاف نظرة سعيد والمفتش للقطط فالأول يراها متمتعة بما لا يتمتع به هو من حرية ورعاية ويراها الثاني قد فقدت طبيعتها الأساسية أو " قططيتها" مما جعلها مسخا مشوها، وقد أسقط عليها إحساسه بفقدان قدرته علي التمرد والرفض.
- وتختم القصة فيقول المفتش : "عندما رأته القطط ينصرف بدأت تتقدم نحوي في بطء، وهمست لها وأنا أمد يدي نحوها : تعالوا يا إخوتي وأخواتي !
فأتوا طائعين
- وهنا يصيح المفتش بالقطط كما صاح بطل قصة "الطواويس"، وكأن لسان حاله يقول : "أشباه عوادينا".
- عينه في عيني !
- وتأتي قصة "الجارة" لتتوج قصص هذه المجموعة والتي تحمل خصائصها الأثيرة، وهي البحث عن الحرية والتململ من القيود، والتي بدت من أول قصة في المجموعة وهي بعنوان "إنت اسمك إيه ؟"، القصة التي يحرص فيها الحفيد علي أن يحقق ذاته، ويكتشف العالم من حوله فتكون مكتبة جده هي منجم اكتشافاته، حيث يعثر علي الروايات الروسية فيمزق أغلفتها وعبثا يخبئونها منه ويفتشون فمه باحثين عما التهم من "دستوفسكي" و"تولستوي"!
- ولكن محاولات الطفل في الاكتشاف لا تنتهي وتتوج القصة الطريفة بمحاورة بين الجد والحفيد ينهي فيها الحفيد المعركة لصالحه بين دهشة الجد وحيرته، الجد الذي أدرك رغبة الطفل في الحرية والخروج والانطلاق بالسيارة لا الاكتفاء بلعبة تشبهها، وفي المشهد الأخير تبرز المفارقة بين الجد والحفيد، الجد بهدوئه واتزانه، والحفيد بثورته وضجته وعنفوانه
- في حوار دال يصفه الراوي فيقول :
كانت علامات الغضب في وجهه، وهو يهز السماعة وعينه في عيني لأنه في الحقيقة يتساءل : ما هذا الجد الذي لا يعرف غير كلمة "كخ" وليست عنده عبية "عربية" للفسحة، فضلا عن أنه ليس له أي اسم مقنع فهو "جاجا" كما يقول أخوه الأكبر، وهو "ولا حاجة" كما يقول الجد نفسه !، جدو حاجة ! ليس له اسم مقنع !
أما الجد فيقول :
كان ينبغي أن أظل عاقلا، ولكنني استسلمت أمام نظرته وقلت بهدوء: أيوه يا أحمد "كخ"!
تناثرت أحشاء السماعة في الأرض، وهي تطلق رنين الوداع الأخير وصرخ أحمد في وجهي بتعليق نهائي - كاكا !
قصة الحفيد هذه هي المشهد الأول في هذه المجموعة القصصية لتؤكد عنفوان النفس الإنسانية ورغبتها في التمتع بالحرية واكتشاف العالم، ولتأتي القصة الأخيرة في المجموعة "الجارة" لتؤكد هذا المعني نفسه حتي ولو بلغ الإنسان مبلغ الشيخوخة، فهذه المرأة الفرنسية العجوز تصر علي الاستمتاع بحياتها وحيدة بعد أن تخلي عن رعايتها ابنها، فهي تتسوق بنفسها، وتتعثر، وتسقط، وتنكسر قدمها، ولكنها تخرج من المستشفي علي مسئوليتها الخاصة، وعندما مرضت مرضها الأخير، وقبل إصابتها بالغيبوبة.
أغلقت باب بيتها بالمفتاح وأخفته في جيب سري قبل أن تداهمها الغيبوبة بلحظات ثم تمددت علي باب جيرانها الغرباء - الرجل المصري وزوجته الفرنسية ترفض الجارة أن تكون نزيلة بيت المسنين أو رقما من أرقام نزلاء المستشفي، بل تخرج دائما علي مسئوليتها، تنهض مثل شجرة شامخة تتعلق بمقولة زوجها المتوفي عندما كان يهمس لها.. "عيشي ألف عام".. وها هي تدفع بالحماسة والحياة إلي نفس كل من يقترب منها بحكاياها الطريفة، بقدرتها علي التعلق بأهداب الحياة بتفاصيل عشقها للدنيا.
- يوم يمكن أن تعيشه :
وينقل لنا النص تمسك هذه السيدة الثمانينية بالحياة، فقد فرت من إجراء جراحة قائلة : "هل تعرف ما هو عمري ؟ أنا لا أريد أن أموت وأنا مخدرة، أريد أن أكون مفتوحة العينين وأنا أودع الدنيا ولا أريد أن أودعها باختياري، لن أجري الجراحة لأني لا أريد أن أفرط في يوم يمكن أن أعيشه، لن أفرط في هذه الهدية باختياري، "ما أهمية أن أعيش مائة عام علي هذا السرير أو علي سرير مثله في أي مكان ؟! هل يساوي هذا نهارا من نزهة في حديقة وسط الخضرة والأشجار وجمال الأزهار ؟، هل يساوي وقفة ساعة علي شاطئ البحر ؟، هذا يا صديقي هو الألف عام الحقيقي، أن نفرح بكل دقيقة في هذه الدنيا قبل أن نودعها".
مثل الطاووس المغامر العجوز كانت هذه "الجارة" التي رفضت محاولات روزالين لإقناعها بالجراحة، تماما كالطاووس الذي ناوئ رجال المطافئ وقاوم شباكهم!، السيدة الثمانينية تقول :
"أنا أنفع نفسي لا أضرها، تأكدي من ذلك يا روزالين، وأنت أيضا يمكن أن تنفعي نفسك قبل فوات الأوان، وأنت يا صديقي لا تضيع وقتك !" وأنت يا عزيزي القارئ.. ما رأيك ؟.. أنت مع الطاووس العجوز المغامر أم مع رجال المطافئ، مع من حسمت أمرك.
أنا مع الطاووس، ومع السيدة الثمانينية، مع نهار من نزهة، مع وقفة تطول أو تقصر علي شاطئ البحر، أنا مع "عويس" الذي انحني بجانب الجارة الثمانينية وهي في غيبوبتها ليقول : "لا.. لا تخذليني يا جارتي الشجاعة، أنا ألتمس من شجاعتك الأمل الذي ضاع مع عمر انقضي دون معني ولا فرح فلا تتركيني وحيدا !
هيا عيشي ألف عام.. كما وعدت زوجك"..
فأهمس "لا تتركيني وحيدة.. هيا نعيش ألف عام !".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.