إثيوبيا تملأ الدنيا صراخاً بأنّ الاستخدامات المائية فى مصر غير رشيدة، وتزعم أنّ تطوير وتحديث منظومة الرى السطحى فى الوادى والدلتا سوف يوفر 10 مليارات متر مكعب. وتشيع إثيوبيا بأنّها تستطيع بهذا الكم من المياه تجنيب الشعب الإثيوبى المجاعات المتكررة التى يتعرض لها فى سنوات الجفاف، وتستطيع بناء سدودها لتوليد وتصدير الكهرباء لزيادة دخلها من العملة الصعبة. وهناك من هم بالداخل المصرى يرددون نفس هذه المقولات الخائبة سواء عن جهل أو عمد، ويطالبون الدولة بتدبير 75 مليار جنيه لتطوير الرى فى الدلتا وحل أزمة السدود الإثيوبية، والهدف خلق مصدر للسبوبة. وبالطبع أعلن البنك الدولى والعديد من الهيئات الدولية الأخرى المانحة الاستعداد لتمويل مشاريع تطوير الرى فى مصر على آجال طويلة وبشروط ميسرة. وعلى نفس المنوال، هناك أيضاً من يردد فى الداخل والخارج أنّ التحلية هى الحل لأزمة سد النهضة (برضه علشان السبوبة)، وأنّ سواحلنا الممتدة شرقاً وشمالاً تسمح لنا بالتوسع فى التحلية لتوفير احتياجاتنا المائية، وأنّ ربنا الرحيم رزقنا بهذه البحار ليعوضنا عن نقص المياه العذبة. ولكن تكلفة تحلية المتر المكعب الواحد من المياه لا تقل عن 5 جنيهات، والشعب المصرى يصرخ من دفع ربع جنيه للمتر المكعب للاستخدامات المنزلية، والمزارع المصرى يحصل على مياه الرى مجاناً. والناس الغلبانة بتسأل هل صحيح أنّ فواقد الرى فى الدلتا والوادى تبلغ 10 مليارات متر مكعب، وهل من الممكن توفير هذه الكميات، وهل الترشيد والتحلية هما الحل لأزمة سد النهضة؟ نحاول أن نذكر المهتمين بأنّ الوضع المائى المصرى شديد الهشاشة، فنصيب الفرد من المياه يبلغ 625 متراً مكعباً سنوياً، أى أقل من حد الفقر المائى المتعارف عليه عالمياً بألف متر مكعب سنوياً، ومن المتوقع أن يقل نصيب الفرد عام 2050 إلى 350 متراً مكعباً فقط. والفقر المائى تسبب فى محدودية مساحة الرقعة الزراعية التى لا تتعدى 8.5 مليون فدان. ونصيب الفرد من الأراضى الزراعية فى مصر حوالى قيراطين، بينما يصل نصيب الفرد فى الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى 24 قيراطاً، وفى فرنسا إلى 34 قيراطاً، وفى الصين أكثر دول العالم تعداداً يصل نصيب الفرد إلى خمسة قراريط. ونتيجة لنقص الأراضى الزراعية فى مصر تصاعدت الفجوة الغذائية حتى بلغت 60 مليار جنيه، وهى تمثل قيمة الفرق بين ما ننتجه وما نستهلكه من غذاء سنوياً. والاستخدامات المائية فى مصر تفوق الموارد المائية المتاحة وبكميات كبيرة، فالاستخدامات الزراعية 68 مليار متر مكعب، واستخدامات مياه المدن فى الأغراض المنزلية والتجارية والصناعية تزيد على 10 مليارات متر مكعب، وهناك حوالى 2-3 مليارات متر مكعب فواقد مائية سنوية من نهر النيل وشبكة الترع التى تزيد أطوالها على 40 ألف كيلومتر. إنّ إجمالى الاستخدامات والفواقد المائية يقدر بحوالى 80 مليار متر مكعب مياه سنوياً، بينما الموارد المائية فى مصر لا تتعدى حصتها من مياه النيل، والتى تبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، بالإضافة إلى استغلال حوالى (4-5) مليارات متر مكعب من المياه الجوفية العميقة غير المتجددة فى الصحراء الغربية. أى أنّ الاستخدامات المائية تفوق الموارد المتاحة بحوالى 20 مليار متر مكعب سنوياً، والعجز المائى يتم تغطيته من خلال ضخ 7 مليارات متر مكعب سنوياً من المياه الجوفية فى الوادى والدلتا التى تأتى من تسرب مياه نهر النيل والترع ومن مياه الرى. ويتم تغطية بقية العجز المائى من خلال إعادة استخدام مكثف لمياه الصرف الزراعى والصحى وبما لا يقل عن 13 مليار متر مكعب سنوياً، منها ما يصرف مباشرة إلى مياه النيل فى الصعيد والباقى يتم خلطه مع مياه الترع فى الدلتا والفيوم. ونتيجة لضخ المياه الجوفية وإعادة استخدام مياه الصرف ولعدة مرات. وبالرغم من ذلك تعانى معظم نهايات الترع فى مصر من عجز مائى، ويضطر المزارعون إلى الرى بمياه المصارف الملوثة ومما يؤدى إلى تلوث وتملّح التربة. ونتيجة لاستقطاب وإعادة استخدام الفواقد والعوادم المائية من مياه جوفية ومياه صرف زراعى وصحى زادت الكفاءة الكلية للمنظومة المائية فى مصر لتصل إلى 74%. طيب أمّال إيه حكاية تطوير وتحديث منظومة الرى فى الدلتا والوادى وهل ستزيد من كفاءة الرى فى مصر. إنّ تطوير الرى السطحى سوف يوفر جزءاً من مياه الرى العذبة التى تفقد إلى المصارف الزراعية وإلى المخزون الجوفى الضحل، ولكن هذه المياه هى نفسها التى نستغلها حالياً من خلال إعادة الاستخدام واستقطاب الفواقد. يعنى الخلاصة إمّا أن نستمر فى ممارسات إعادة الاستخدام الحالية وننسى التطوير، أو نطّور الرى السطحى بعشرات المليارات ونقفل محطات إعادة استخدام مياه الصرف، ولكن ما ينفعش الاثنين مع بعض. ومشاريع تطوير الرى السطحى لم تثبت نجاحاً فى مصر حتى تاريخه، فقد بدأت فى مصر منذ تسعينات القرن الماضى، ولكن حتى الآن لم يتم الانتهاء إلّا من مساحات متناثرة لا تزيد على مليون فدان، ومعظم مشاريع تطوير الرى متعثرة ويرفضها المزارعون، ولم يثبت عملياً أنّ هذه المشاريع توفر أى كميات من مياه الرى. فهل الحل هو فى تطوير الرى السطحى واستثمار 75 مليار جنيه، أم الأفضل زيادة الاستثمارات الحكومية فى بناء محطات معالجة الصرف الصحى والصناعى للقضاء على مشاكل التلوث فى المجارى المائية؟ وهل الحكومة المصرية عايزة فعلاً ترشيد استخدامات المياه. إنّ كل الدلائل توضح أنّ الحكومة غير جادة فى الترشيد وكل كلامها طق حنك، فنجدها تاركة الحبل على الغارب لزراعات الأرز وتقوم بتصديره. لقد أعفت الحكومة المزارعين من غرامات مخالفات الأرز التى كانت تحصّل بالكامل قبل ثورة يناير. إنّ تقليل مساحات زراعات الأرز والموز وقصب السكر سوف يوفر وحده ما يقرب من 3 -4 مليارات متر مكعب من المياه سنوياً ممّا يرفع من كفاءة المنظومة المائية المصرية إلى حوالى 80%. والمياه التى سنوفرها من تقليل زراعات الأرز والموز والقصب مطلوبة وبشدة لتغطية العجز فى نهايات الترع ولاستكمال مشروعات ترعة السلام وتوشكى وترعة الحمّام التى أنفقنا عليها عشرات المليارات دون نجاح أو عائد. أمّا التحلية، فهى مكلفة مادياً وغير اقتصادية للاستخدامات الزراعية، وتحتاج إلى مصادر كبيرة للطاقة لا تتوفر لمصر، ولاستخدامها لأغراض الشرب تحتاج إلى خطوط نقل وتوزيع من مواقع معامل التحلية على السواحل إلى أماكن التجمعات السكنية فى الوادى والدلتا وهذه تكاليف ضخمة وتحتاج إلى سنوات طويلة فى التنفيذ، ولذلك سينحصر استخدام التحلية فى إمدادات المياه للمدن الساحلية لأغراض الشرب والسياحة والصناعة. ومن المتوقع ألّا تزيد سعة وحدات التحلية التى سيتم بناؤها فى مصر خلال العقد المقبل على مليار متر مكعب سنوياً، لتغطية الزيادة فى احتياجات مياه الشرب فى المدن الساحلية خلال هذه الفترة الزمنية، وخاصة أنّ معظم هذه المدن يعانى حالياً من عجز فى مياه الشرب، وخلاصة القول: إنّ المياه الممكن توفيرها من الترشيد والتحلية لن تكفى إلّا لتغطية العجز القائم حالياً فى مياه الشرب والزراعة، وليس لتعويض النقص المتوقع فى الحصة المائية نتيجة بناء سد النهضة.