لا أعرف متى وكيف مرت تلك السنون من عمرى وأنا أمسك بشهورى الأخيرة فى الحقبة الأربعينية لأودعها بلا عودة. الأيام عندى تتشابه فكلها مثل بعضها، لذا فلا أتذكر تاريخ ميلادى إلا عندما يذكرنى به أهلى وعشير تى. هذا العام آلمنى عيد ميلادى، فقد اكتشفت أن هذا هو عامى الأخير فى الأربعينيات وسوف أنضم بعد قليل إلى نادى الخمسينيات بجدارة واستحقاق. أهرع إلى حجرتى أغلق بابها وأواجه مرآتى هل أنا هذا العجوز؟ لا أرى شبيها لأبى فى هذا العمر، أرى هذا الصبى الحالم الذى قضى عمره بحثا عن الاستقرار، الراحة، الأمان، الهدوء، ولم يجن منها شيئا. ضاعت سنوات الصبا فى البحث عن فرصة عمل، اتعب فى صغرك ترتاح فى كبرك، ما بين صحيفة وأخرى، صباحا ومساء، يبدو حلم الحصول على شقة من حجرتين مستحيلا، فلأضحى بسنوات أخرى جميلة ففى العمر متسع، أحمل متاعى وأطير إلى الخليج، وتنفرط سنوات العنفوان بحثا عن عنوان دائم فى بلادى، لأعود وأنا أقترب من منتصف الثلاثينيات بشقة بلا أثاث وسيارة فيورا وطفلين وأحلام مؤجلة. رحلة أخرى من الشقاء وسهر الليالى لتداهمنى الأربعين فجأة وأنا ما زلت أفتش عن نفسى، أتأمل طفلى اللذين زانتهما طفلة جديدة، فأفهم أن حياتى لم تعد لى وأن الحلم الرومانسى بالاستمتاع بكوب شاى كشرى فى حديقة منزل صغير رغم سنوات السفر والسهر أصبح مستحيلا. ها هى سنوات الأربعين تتسرب بعد أن بعث طفل آخر فى الزمن الخطأ دماء التحدى فى شرايينى، فقررت مواصلة الزحف حتى لا تقسو عليه الأيام مثلما قست على أبيه وعلى جده. سوف أحيا مع الخمسين حتى لو سكننى السكر الماكر، لو تساقط رفاق الطريق بين يدى؛ أحدهم بالقلب والآخر بالكبد والثالث بنزيف فى المخ. سوف أحيا فى زمن الإخوان والدستور الحيران وصراع الجرذان. سوف أحيا وأنا حزين ليس على ما فات لأنه فات ولكن على ما هو آت، أملى مثل جيلى ومن قبلى انتهى، لن نرى مصر التى حلمنا بها ولها، لن ألحق تداول السلطة بل سأشهد مصر «سلَطة». لا أعرف إذا كان أبنائى سيلحقون بمصر التى حلمناها أم أنه قدر أن تضيع أعمارنا ونحن نلهث خلف حياة كريمة، فإذا أدركناها فى آخر العمر أو كدنا أن نلامسها وجدنا مصر التى قست علينا وغرّبتنا تأبى دوما إلا أن نعيش كراما. الخماسين عصفت بعمرى لأكتشف أن الرحلة مهما طالت قصيرة، وأن الشقاء عنوان الحياة، فعمرى كله مسافة بين بابين ما إن دخلت من أحدهما حتى اكتشفت أن علىّ الاستعداد للخروج، لعله قريب بإذن الله.