استكمل صديقى حواره معى وهو يبدو عليه شىء من الضيق والتشكك، وسألنى عن وقائع محددة للتنازلات المصرية التى حدثت فى سياسة مصر نحو السدود الإثيوبية. فقلت له سأذكر لك بعضها، فقد بدأ هذا التحول فى سياسة مصر بالصمت أو «التطنيش» إزاء قيام إثيوبيا عام 2005 بالبدء فى بناء سد تكيزى على نهر عطبرة أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، وكذلك نفق تانا بليس العملاق على النيل الأزرق. وكان هناك أيضاً تعتيم إعلامى داخلى، ولم يعلم الشعب المصرى عن هذين السدين إلا بعد افتتاحهما عامى 2009 و2010 على الترتيب. حتى وكلاء وزارة الرى أنفسهم كانوا لا يعلمون إلا القليل عن ملف حوض النيل وأحداثه، وكذلك كان وزراء الحكومة وقتها. وأتذكر فى هذا الشأن موقفاً ما زال صاحبه يعيش بيننا، وهو الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق، حيث سألنى سيادته بعد تكليفى بالوزارة بأيام، وتحديداً فى اجتماع مجلس الوزراء، عن سد إثيوبى جارٍ الانتهاء من بنائه وقتذاك. وكانت إجابتى بأننى لا أعلم شيئاً عن هذا الأمر. فأعطانى أسطوانة مدمجة وطلب منى أن أشاهدها، وبالفعل شاهدت الأسطوانة وكانت لفيلم تسجيلى لإحدى شركات الإعلام الدولية عن إنشاءات سد تاكيزى. بعدها أخبرت السيد وزير الثقافة بما وجدته فابتسم وقال لى إنه أعطى الأسطوانة نفسها لوزير الرى السابق ولكنّه نفى له وجود أى سد جديد فى إثيوبيا. ومن الملامح الرئيسية الأخرى لهذا التغيير فى التوجه السياسى المصرى، موافقة وزير الرى المصرى فى بداية عام 2005 على الطلب الإثيوبى بإدراج ودراسة السدود الإثيوبية تحت مظلة مبادرة حوض النيل، كأحد مخططات التنمية لحوض النيل الشرقى الذى يضم مصر والسودان وإثيوبيا. لقد كانت السدود الإثيوبية تعتبر عملاً عدائياً ضد مصر، فأصبحت فجأة أحد مشاريع تنمية حوض النيل الشرقى بما فيها مصر. ومن ملامح التغيير أيضاً موافقة وزير الرى المصرى عام 2008 على الطلب الإثيوبى لدراسة جدوى هذه السدود بتمويل من ميزانية مبادرة حوض النيل، وقام الوزير بنفسه بإرسال خطاب للبنك الدولى لتمويل الدراسة. وعام 2008 شهد أيضاً موافقة مصر على نتائج دراسة الربط الكهربائى مع السدود الإثيوبية لتصدير 2000 ميجاوات إلى مصر، بالرغم من أنه لم يتم وقتها دراسة أو تقييم أضرار هذه السدود على مصر. قلت لصديقى هل تتخيل أنه بالرغم من كل هذه التراجعات المصرية غير المسبوقة، ما زالت إثيوبيا تردد أن مصر كانت متعنتة أيام مبارك؟ والله ده كان ناقص نروح نبنى السدود بنفسنا. فانفجر صديقى فى الضحك وقال الحقيقة هم فى الأغلب كانوا يقصدونك أنت، وأضاف شارحاً باستخدام مثل شعبى «إللى أكلوه وز وز استرجعته انت بط بط»»، فقد رفضت بعد تكليفك بالوزارة هذه السدود ورفضت أيضاً التوقيع على عنتيبى بعد أن كانت مصر قاب قوسين أو أدنى من التوقيع. فقلت له إننى لم أرفض السدود بل طالبت إثيوبيا بإعادة النظر فيها وبما لا يضر بمصر، وأمّا اتفاقية عنتيبى فقد رفضت توقيعها لإغفالها حقوق مصر المائية، وقمت بتوضيح نواقصها للعامة والخاصة، وقد جاء من بعدى خمسة وزراء للرى ولم يجرؤ أحد منهم على توقيعها. واستكملت حديثى بأنه فى مارس 2010، تسلمت وزارة الرى من مكتب النيل الشرقى (إنترو) التقارير المبدئية لدراسات الجدوى لأربعة سدود ضخمة على النيل الأزرق وهى: كارادوبى وبيكوأبو ومندايا وبوردر (الحدود) بسعة تخزين إجمالية تبلغ حوالى 140 مليار متر مكعب. وقمت وقتها بتشكيل فريق عمل من أساتذة جامعة القاهرة وعدد من المهندسين والباحثين من الوزارة لمراجعة وتقييم هذه الدراسات، والذى وجد أنّ مخاطر السدود كارثية على مصر. ورفضت الوزارة والدولة رسمياً هذه الدراسات وطالبت إثيوبيا بإعادة النظر فى مخطط سدودها والالتزام بمبدأ عدم الإضرار. وتواكب مع رفض دراسات السدود الرفض المصرى للتوقيع على اتفاقية عنتيبى، فتأكدت إثيوبيا أن هناك صحوة مصرية فى ملف حوض النيل، فقام رئيس وزرائها بإلقاء خطاب هاجم فيه مصر وتمسكها باتفاقيات النيل واصفاً إياها باتفاقيات استعمارية، واتهم مصر بالتدخل فى شئون إثيوبيا الداخلية. وسد النهضة لم تخطط له إثيوبيا قبل أحداث ثورة يناير المصرية بل كان مفاجأة للإثيوبيين أنفسهم، حتى إن الحكومة الإثيوبية أطلقت عليه فى البداية مسمى «سد إكس» كرمز للغموض والإثارة. وتم اختيار موقعه قريباً جداً من الموقع المقترح لسد الحدود الذى كانت سعته 14.5 مليار متر مكعب، بينما سد النهضة تصل سعته إلى 74 مليار متر مكعب. وقد تولّت إدارة ملف هذا السد فى مصر حكومات ما بعد ثورة يناير، وهم يسيرون على نفس التوجه التنازلى الذى ساد فى الفترة 2005-2008، بل أعتقد أنّ نفس المدرسة أو الأشخاص هم الذين يخططون من وراء الستار. نفس المنهج من إهدار الوقت فى تصريحات وردية ولقاءات حارة، وزيارات هنا وهناك وتعتيم كامل على المشاكل والعثرات. ولنتذكّر بعض أفعال وتصريحات مسئولى ما بعد ثورة يناير، أولها ما حدث فى وثيقة اللجنة الثلاثية الدولية فى ديسمبر 2011 من الإقرار بأنّ سد النهضة تحت الإنشاء بالرغم من أنه لم يتم حينها إلا وضع حجر الأساس. وتصريح السيد رئيس الوزراء وقتها ب«أن السد يمثل ممراً للتنمية بين الدول الثلاث»، وتصريح وزير الرى ب«أن إثيوبيا وعدتنا بعدم إنقاص كوب واحد من حصتنا المائية»، فى حين أنّ إثيوبيا لا تعترف بحصتنا المائية من أصله. وأثناء حكم الإخوان استمرت التصريحات الجوفاء، حتى كان مشهد تحويل مجرى النيل الأزرق مباشرة بعد مغادرة الرئيس المصرى اجتماع الاتحاد الأفريقى فى أديس أبابا، وما فى ذلك من استهانة بمصر ورئيسها. ثمّ الاجتماع السرى المعلن للرئيس السابق مع رؤساء بعض الأحزاب وحلفاء النظام السياسى، والمناقشات العسكرية والأمنية الهزلية المسيئة لمصر ولعلاقاتها الأفريقية. واستمر نفس المسار بعد ثورة يونيو، ولنتذكر تصريحات السيد رئيس الوزارة «السد سيكون مصدراً للخير لكل من إثيوبيا والسودان ومصر»، وتصريحات وزير الرى السابق «إذا فشلت المباحثات فإنّه سيصطحب الشعب المصرى إلى إثيوبيا للشرب من هناك»، وتصريحات الوزير الحالى اليومية حول «خريطة الطريق» التى لم تنفّذ و«الدراسات الفنية» التى لا تبدأ. وتصريح أحد مستشارى وزير الرى «هناك مماطلة إثيوبية فى بدء الدراسات، ولكن إذا ثبت أنّ السد سيضر مصر فمن الممكن أن نطالب بتعويض مادى لأنّه لا يمكن هدم السد». تذكرت على الفور التعويضات التى حصل عليها الشعب الفلسطينى من إسرائيل، والشعبين العراقى والسورى من تركيا لبنائها سد أتاتورك، والهنود الحمر كمان من أمريكا. «عاش الهنود الحمر»، ورمضان كريم.