جاءت الفرصة لإثيوبيا للبدء فى تنفيذ حلمها الاستراتيجى بالتحكم فى مياه نهر النيل، من خلال ما يسمى بمشروع مبادرة حوض النيل (1999-2012)، الذى كانت تموله الدول الغربية ويديره البنك الدولى. فمن خلال هذه المبادرة تم استدراج كل من مصر والسودان للدخول فى مفاوضات لإعداد اتفاقية إطارية لتعاون دول حوض النيل لإعادة توزيع مياه النهر على دول الحوض، بدلاً من الاتفاقيات التاريخية التى تقر بحصتى مصر والسودان. وقد وافقت كل من مصر والسودان على الدخول فى هذه المفاوضات دون أى ضمانات لحقوقهما المائية التاريخية. وفى عام 2010 انتهت عشر سنوات من المفاوضات المتعثرة باتفاقية عنتيبى التى لا تعترف بحصتى مصر والسودان المائية، ولا تقر بإجراءات الإخطار المسبق عن المشاريع المائية لدول المنبع قبل إقامتها، ولا تقر بمبدأ التوافق بين دول الحوض قبل إجراء تعديلات مستقبلية فى الاتفاقية، وتنص على إجراء هذه التغييرات بالأغلبية التى تملكها دول المنبع. وكانت المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود فى عنتيبى 2007، بعد أن أصرت دول المنبع على عدم الإقرار بالحقوق والاستخدامات المائية المصرية والسودانية، وتم رفع الخلاف إلى رؤساء الدول للنظر فى إمكانية الحل، ولكن لم يجتمع الرؤساء ولو لمرة واحدة للنظر فى هذا الأمر. وتحرك البنك الدولى للضغط على مصر والسودان لتحقيق مزيد من التنازلات، وبالفعل وافقت مصر فى يناير 2009 على تنازل آخر وذلك بحذف كلمة حقوق من بند الأمن المائى الذى كان ينص على عدم الإضرار بالحقوق والاستخدامات الحالية لدول الحوض، علماً بأن الحقوق تعنى جميع الاتفاقيات السابقة. ولكن حتى هذا التنازل المصرى الإضافى لم يكن كافياً لدول المنبع، التى أصرت على حذف الاستخدامات المائية أيضاً من هذا البند، والاكتفاء بالنص على أن الأمن المائى من حق الجميع. وجاء تكليفى بالوزارة فى أوائل مارس 2009، وقمت بالتنسيق مع الأجهزة المعنية برفض كل التنازلات المصرية السابقة والتمسك بمبدأ الإخطار المسبق وشرط التوافق لتعديل أى بند من بنود الاتفاقية، والإصرار على النص على حقوق مصر المائية. ولكن بعد مفاوضات مضنية، امتدت لمدة عام كامل، لم توافق دول المنبع، وأصروا على توقيع الاتفاقية دون تحقيق أى من المطالب المصرية. وبالفعل وقعت خمس من دول المنبع الاتفاقية ورفض توقيع اتفاقية عنتيبى كل من دولتى المصب، بالإضافة إلى الكونغو الديمقراطية وبوروندى. وكان يلزم توقيع الاتفاقية من ست دول حتى تدخل حيز التنفيذ وذلك بعد تصديق هذه الدول عليها، وكان باب التوقيع مفتوحاً لمدة عام ينتهى فى مايو 2011. وللحيلولة دون حصول الاتفاقية على الأغلبية قامت مصر بعقد اتفاق على المستوى الرئاسى مع كل من الكونغو وبوروندى بعدم التوقيع على الاتفاقية. ولكن بعد ثورة يناير 2011 قامت بوروندى بالتوقيع فى مارس 2011. وجدير بالذكر أن مصر ليس لديها أى مشاكل مائية مع دول الهضبة الاستوائية لأن معظم مشاريعهم المائية المعلنة لا تسبب ضرراً مؤثراً بحصة مصر المائية، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن مع إثيوبيا وسدودها التخزينية الكبرى، التى لها آثارها الكارثية على مصر. والسدود الإثيوبية جزء رئيسى من استراتيجية إثيوبية قومية شارك فى وضعها العديد من الدول الأوروبية لتحويل إثيوبيا من دولة تقع ضمن أشد دول العالم فقراً إلى مصاف الدول متوسطة الدخل بحلول عام 2025، وذلك من خلال إنتاج الطاقة الكهرومائية النظيفة للاستهلاك المحلى وللتصدير إلى دول الجوار. ولقد استغلت إثيوبيا مناخ مبادرة حوض النيل والمرونة المصرية الزائدة للبدء فى بناء سد تيكيزى عام 2005 على نهر عطبرة، الذى تم افتتاحه عام 2009، وبدأت أيضاً المشروع العملاق نفق تانا بليس على النيل الأزرق عام 2002 وتم افتتاحه عام 2010، وذلك دون إخطار مصر عن أى منهما. وللأسف لم تحتج مصر فى ذلك الوقت وحتى لم تطالب ببيانات التصميم والتشغيل لهذه المشاريع. وحدثت أخطاء مصرية متتالية تحت مظلة حوض النيل، حيث تقدمت إثيوبيا عام 2005 بمخطط سدودها الأمريكية الأربعة الكبرى على النيل الأزرق إلى مبادرة حوض النيل الشرقى، ووافقت كل من مصر والسودان على إدراجها كمخطط تنموى للنيل الشرقى، بل ووافقتا أيضاً عام 2008 على دراسة الجدوى لهذه السدود من خلال مبادرة حوض النيل. ووافقت أيضاً الدولتان على دراسة الجدوى للربط الكهربائى مع إثيوبيا عام 2008، بهدف تصدير كهرباء السدود الإثيوبية إلى مصر والسودان. حدث تغيير هائل غير مبرر فى الموقف المصرى من أيام السادات الذى هدد بضرب السد الإثيوبى فى نهاية سبعينات القرن الماضى، إلى ترحيب وزير الرى المصرى فى 2005 بإدراج السدود الإثيوبية ضمن برامج تنمية حوض النيل الشرقى. وبعد تكليفى بالوزارة بحوالى عام فى أبريل 2010، تسلمت مصر دراسات السدود الإثيوبية سداً وراء آخر، وتم تشكيل فريق عمل من خبراء مصر لتقييم هذه الدراسات، الذى وجد أن مخاطر السدود كارثية، وتم رفض الدراسات رسمياً عام 2010، وتوقف مخطط تنفيذ السدود الإثيوبية وقتذاك. وكان مخطط السدود الإثيوبية يتضمن أربعة سدود كبرى هى: كارادوبى وبيكوابو ومندايا والحدود. والغريب أن إثيوبيا تزعم أن مصر فى عهد مبارك كانت دوماً ضد تنميتها، بالرغم أن فى عصره قبلت مصر الدخول فى مفاوضات اتفاقية عنتيبى، وحدثت التنازلات التفاوضية، وتم بناء سدى تيكيزى وتانا بيليس، وتمت الموافقة على إدراج السدود الإثيوبية العملاقة على النيل الأزرق ضمن أنشطة مبادرة حوض النيل، بل تمت دراسات الجدوى لهذه السدود، وتم أيضاً الموافقة على دراسة الجدوى للربط الكهربائى مع إثيوبيا لاستيراد كهرباء السدود الإثيوبية، فهل هناك مرونة أكبر من ذلك؟! بل حاولت مصر تطوير العلاقات الاقتصادية مع إثيوبيا عامى 2009-2010 وتم استثمار 2 مليار دولار مصرية فى الأسواق الإثيوبية. وبالرغم من هذا التطور الإيجابى فى العلاقات الثنائية قامت إثيوبيا فى عام 2010 بدور رئيسى لحث الدول الاستوائية على التوقيع على اتفاقية عنتيبى التى لا تقر بحصة مصر المائية، وبعد ذلك تم وضع حجر أساس سد النهضة بعد عدة أسابيع قليلة من قيام ثورة يناير المصرية، ثمّ قام البرلمان الإثيوبى بالتصديق على اتفاقية عنتيبى. الوقفة المصرية الوحيدة فى عصر مبارك التى عايشتها تمثلت فى قيامى برفض التوقيع على اتفاقية عنتيبى وبرفض دراسات الجدوى للسدود الإثيوبية على النيل الأزرق، ويتم اتهامى حالياً من بعض المغرضين بالتشدد والتكبر والتعالى لعدم تفريطى فى حق مصر فى الحياة. وجدير بالذكر أنه جاء من بعدى خمسة وزراء رى وعدة حكومات، ولم يجرؤ أحد على التوقيع على اتفاقية عنتيبى أو الموافقة على السدود الإثيوبية، واكتفوا بالتصريحات المعسولة وتأجيل مكاشفة الشعب بالحقائق.