بالضربة القاضية تمكنت بقعة الزيت من الفوز على وزيرين وثمانية محافظين وعشرات التنفيذيين والإداريين. مجرد بقعة زيت امتدت بطول 5 كيلومترات أظهرت فشل الحكومة الذريع عندما طفت فجأة على صفحة النيل عند مدينة إدفو شمال أسوان، وراحت تتهادى عبر النيل بين أسوانوالقاهرة فى أمن وسلام، دون أن يعترض طريقها أحد، وبدلاً من أن يعترف المسئولون بفشلهم، انتهزوها فرصة لكى يطلوا من صفحات الجرائد بتصريحات من عينة «الوضع تحت السيطرة»، و«تم القضاء على البقعة»، و«جارى بحث الأمر»، و«أغلقنا محطات المياه»، و«سنعاود ضخ المياه للمنازل»، أما المحافظون الذين حظيت محافظاتهم بتشريف البقعة فقد راحوا يتابعونها بدقة شديدة على طريقة المعلقين الكرويين «البقعة فى طريقها للمحافظة»، «البقعة على أبواب المحافظة»، «البقعة دخلت المحافظة»، «البقعة قطعت المسافة داخل المحافظة فى ثلاث ساعات»، «البقعة عبرت دون أن تحقق خسائر»، «البقعة فى طريقها للمحافظة الأخرى». كل ذلك دون أن يتصدى أى من هؤلاء المسئولين بشكل جاد على مدار 11 يوماً للبقعة، وهى تتنقل بكل هدوء من محافظة لأخرى تحت سمع التنفيذيين وبصرهم. بدأت حكاية البقعة عندما فوجئ أهالى مدينة إدفوبأسوان مساء يوم السبت 27 أكتوبر بظهور بقعة زيتية بطول 5 كيلومترات فى صفحة النيل الذى يمر بمدينتهم، وبالطبع أعلنت محافظة أسوان الطوارئ للقضاء على البقعة وتشتيتها، كما شكلت لجنة لبحث مصدر البقعة التى تفرق دمها بين مصنعى السكر ولب الورق، وفى نفس الوقت قامت بغلق كل محطات المياه فى المدينة حتى لا تصل إليها البقعة، وقبل أن يمر اليوم، سافر وفد من وزارة البيئة لمدينة الأقصر ليساعد على التخلص من البقعة قبل أن تصل المحافظة، غير أن البقعة تمكنت من مغافلة الجميع ووصلت للأقصر ظهر اليوم التالى، ليتكرر نفس السيناريو مرة أخرى، «غلق المحطات»، إعلان الطوارئ»، «العمل على إزالة البقعة»، وزاد على ذلك وصول الدكتور مصطفى حسين كامل، وزير البيئة بنفسه ليستكشف الأمر، فاستقل سيادته لنشاً بحرياً ليتعرف على البقعة عن كثب، قبل أن يصدر تعليماته للأجهزة التنفيذية بانتظار البقعة عند مدينة إسنا للقضاء عليها قبل أن تصل لقناطر إسنا، غير أن البقعة واصلت طريقها بإصرار وعزم صباح اليوم الثالث لمدينة الأقصر، ثم غادرت فى طريقها لمحافظة قنا. وفى قنا تم رفع درجة الاستعداد القصوى، وتم إيقاف ضخ المياه من محطات المياه التابعة للقرى التى تمر البقعة عليها، فى حين سارع الدكتور مصطفى حسين كامل وزير البيئة بالسفر من الأقصرلقنا ليلحق بالبقعة التى قيل وقتها إن شدة التيار جرفتها أثناء الليل، فاستقل لنشاً للمرة الثانية داخل النيل ليتابع خط سير البقعة التى راحت تتهادى بنعومة وخفة بين مراكز وقرى المحافظة، ولم تضع فى اعتبارها وزير البيئة الذى جاء خصيصاً لمتابعتها، ولا للواء عادل لبيب محافظ قنا الذى خرج من مكتبه ليتفقدها، إذ تجاهلت الاثنين وسارت بكل ثقة فى طريقها لمحافظة سوهاج. عند سوهاج، كان المسئولون على أتم الاستعداد ليكونوا فى شرف استقبال البقعة، إذ جهزوا كميات كبيرة من الإسفنج وقش الأرز ليسدوا الطريق أمامها فيمنعوها من الدخول للمحافظة وبالتالى من مواصلة طريقها، غير أن المحاولة باءت بالفشل عندما نجحت البقعة فى اختراق كل تلك المتاريس متسربة إلى داخل سوهاج، ليقوم المسئولون بفعل ما قدرهم عليه ربنا من غلق المحطات وإعلان الطوارئ، وترقب وقت رحيل البقعة من مياه النيل التى تمر داخل المحافظة. وبعزيمة لا تنفد واصلت البقعة طريقها بإصرار يحسب لها، إذ وصلت فى اليوم الخامس لحدود محافظة أسيوط، وخرج رئيس شركة المياه والصرف الصحى فى أسيوط ليعلن عن وصول البقعة للمحافظة الخامسة، مع إعلانه طبعاً حالة الطوارئ، وغلق المحطات التى تم تحصينها بالخيش والفلين لمنع البقعة من الوصول إليها. حُرم الأهالى من مياه الشرب طوال الساعات التى أمضتها البقعة فى المحافظة، لكن مسئولى المحافظة لم يحرموا أنفسهم من التصريح لوسائل الإعلام بتفاصيل يوميات البقعة داخل محافظتهم لحظة بلحظة، منذ أن دخلت، حتى اللحظة التى غادرت فيها. وفى صباح اليوم السادس أعلنت الحكومة المركزية فى القاهرة افتتاح وحدة التدخل السريع لمكافحة تلوث نهر النيل فى مدينة الأقصر، وقيل وقتها إن ظهور البقعة عجل بافتتاح الوحدة التى عول الجميع عليها فى القضاء على البقعة، غير أن الأخيرة تمكنت من الوصول إلى محافظة المنيا لتجد المحافظ فى انتظارها معلناً حالة الطوارئ، ورافعاً درجة الاستعداد القصوى لا للقضاء على البقعة، وإنما لرصد تحركاتها من مركز إلى آخر ومن قرية لأخرى، وبالفعل دخلت البقعة المحافظة عبر ترعة الإبراهيمية، ومرت فى طريقها ملقية السلام على جميع مراكز وقرى محافظة المنيا مركزاً مركزاً، وقرية قرية، وبعد أن أتمت مهمتها بنجاح، عبرت فى أمان الله ووصلت لمحافظة بنى سويف. كان المصير الذى ينتظر البقعة فى بنى سويف مبشراً بنهايتها على يد المحافظ الذى أعلن عن تشكيل غرفة عمليات يقودها بنفسه وتضم مسئولى شركات مياه الشرب والصحة ومدير الأمن؛ لكن صاحب مقولة «البقاء للأقوى» أثبت أنه كان على حق، عندما تمكنت البقعة من التغلب على كل هؤلاء، وأثبتت بالفعل أن عزيمتها لا تلين، فمرت فى محافظة بنى سويف بإصرار ونجاح ساحق فى طريقها لمحافظة الجيزة. وفى صباح يوم الأحد الماضى، أعلنت الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى وصول البقعة لمشارف مدينة الحوامدية جنوبالجيزة فى تمام الساعة 8.48 دقيقة صباحاً، عندها أوقفت محطة مياه الحوامدية ضخ المياه إلى المنازل، حتى تمر البقعة دون إزعاج إلى مدينة البدرشين التى وصلتها بالفعل فى اليوم التالى، وقبل أن تواصل البقعة طريقها إلى العاصمة، أعلنت الحكومة نجاحها فى القضاء على البقعة، وصرح مصدر مسئول بأن طريقة مواجهة البقعة اقتصرت على محاصرتها بنشارة الخشب المطحونة مع قش الأرز وجريد النخل. خفتت أخبار البقعة لساعات قليلة قبل أن تقفز مرة أخرى إلى الصدارة بإعلان المسئولين وصولها للقليوبية ثم المنوفية حتى وقت كتابة هذه السطور، إذ يبدو أنها ستواصل طريقها حتى مصب النيل فى البحر المتوسط، وهناك قد تدركها العناية الإلهية وتجد من يشتتها أو يقضى عليها، لكنها بالتأكيد سوف تحتفظ بذكرى الأيام الطويلة التى تنزهت خلالها فى مصر، وعقدت فى أثنائها علاقات وصلات حميمية مع المسئولين الذين ربما تذكروها بالخير فى الأيام المقبل، إذ إن الفرقة صعبة، والعشرة كما تعلمون «ما تهونش» إلا على أبناء الحرام، أعاذنا الله وإياكم من شرورهم.