فى غياب دور حقيقى لأحزاب سياسية تعبر عن آلام وآمال واحتياجات الشعب المصرى؛ وفى غياب برلمان يشرع ويراقب ويناقش مشاكل ومتاعب المواطنين ويفند قضايا الدولة وميزانيتها السنوية وسياسات وبرامج وخطط الحكومة؛ وعقب ثورتين زادتا من تطلعات الشعب إلى أحلام وآمال لا تتوافق مع إمكانات الدولة المصرية، وفى ظل تحديات هائلة ومؤامرات مستمرة من الداخل والخارج، ومع تفشى مظاهر الانهيار السلوكى فى شارعنا المصرى ومدارسنا وجامعاتنا؛ كان من الطبيعى أن يتقمص الإعلام أدواراً متعددة غير منوط بها استغلالاً لهذا الفراغ السياسى والاجتماعى الواضح ولأهداف عدة، منها الانتشار والمكسب المادى ومنها محاولة تشكيل مراكز قوى من حيث تأثيره على المواطنين والمساهمة فى تشكيل الرأى العام. وهذا لا ينفى وجود نخبة مميزة من الإعلاميين والمثقفين تثرى الساحة بعطاءاتها وتملأ جزءاً من هذا الخواء السياسى الذى يشهده المجتمع المصرى. ولكن انعكست سلوكيات المجتمع ولغوياته على لغة الإعلام فى شكل غريب على مجتمعاتنا وأخلاقياتنا، وانتشرت برامج الإثارة سواء سياسية أو فنية بشكل يؤذى مشاعر الكثير من العائلات المصرية. وهذا الصخب الإعلامى قد شجع بعض رجال الأعمال لتركيز استثماراتهم فى مجال الإعلام، بالرغم من أنّ وسائل الإعلام الحالية تزيد عدة مرات عمّا تستطيع دولة فى حجم وإمكانات وتعداد مصر استيعابه. وهناك من الإعلام ما هو قليل منضبط يسعى لمساهمة كريمة فى حل مشاكل المجتمع والمشاركة فى طرح الرؤى للتعامل مع التحديات والصعوبات، والبعض الآخر فى صراع للبقاء وعدم الإفلاس على طريقة الشريك المخالف لنوعية البرامج وطريقة ولغة الإعلام ما بين المدح والرياء أو الهدم والتحطيم. وقد شجع تنامى هذا التوجه، نجاح مشاركة الإعلام الخاص فى إزاحة نظام مبارك، ونجاح الإعلام فى القيام بدور رئيسى فى إزاحة نظام الإخوان. وعموماً نجد أنّ الإعلام المصرى ما زال محلياً مغلقاً نكتفى فيه بالتحدث إلى أنفسنا ولا يسمعنا الآخرون، ولا ينجح فى نقل حقائق الداخل إلى الخارج فى حين أنّ هناك بعض وسائل الإعلام الأجنبية من تشوه المشهد وتقلب الحقائق، بينما نحن ما زلنا نكتفى بالصراخ والعويل المحلى. إنّ دور الإعلام مهم للغاية لنقل نبض رجل الشارع ووجهة نظره فى أداء الحكومة، وكذلك آراء المثقفين فى السياسات والبرامج التنموية. وهذا لا يعنى نقل الآراء السلبية فقط أو الهدامة، ولكن عليه أيضاً عرض الإيجابيات لاستكمال نقل صورة حقيقية بأمانة ومصداقية. الحياة ألوان وليست أبيض فقط كما تريد الحكومة، وليست أسود فقط كما يريد بعض الهدّامين، فهناك درجات كبيرة من الألوان بينهما، ومن المهم أن نعلم بأمانة أين موقعنا الحقيقى ما بين الإشراق والقتامة. وهناك فرق شاسع بين تقييم الأداء حباً فى الوطن ونصحاً للقيادة، وبين البحث عن الأخطاء والنبش عن الثغرات وتهويلها بغرض الهدم وتكسير المجاديف ونشر الشائعات والعمل على تفشى الإحباط بين المواطنين. والرياء مرض اجتماعى آخر يبحث صاحبه عن إرضاء الحكومة والدفاع عنها بالتهليل والصياح والتصفيق، ولا يفرق ما بين الصح والخطأ ولا ينبه القيادة لأى هفوات قد تضرها وتضر البلاد. واستشرى الهجاء فى الإعلام على شكل التنكيل بالأشخاص وانتهاك حرماتهم وفضح نواقصهم لأنّهم يأخذون جانباً دون آخر، وبدون أسباب موضوعية أو نواقص مهنية أو سياسية. هذه المظاهر السلبية انتشرت بكثافة فى بعض وسائل إعلامنا، وأصبح النقد الهادف البنّاء يتوارى من الخجل وسط هذا الصخب والضجيج الإعلامى. ووسائل الإعلام القومية معظمها يعانى من تضخم العمالة وضعف الرواتب وترهل إدارى ومؤسسى مزمن وقوانين ولوائح الخدمة المدنية التى تعرقل أى تطوير وتقدم. والتليفزيون القومى فقد معظم تأثيره على الرأى العام المصرى، بل وأصبح يعانى مع هجرة نجومه البارزين إلى الإعلام الخاص. وانتصر الإعلام المرئى الخاص على القومى، وانتشرت برامج التوك شو منها ما يقدم النقد البنّاء وآخر متخصص فى النقد الهدّام، وبعضها يختص فى الرياء وآخر لا يقدم إلا الهجاء. وانتشرت البرامج التى قد تخدش الرأى العام وتساعد فى انتشار السلوكيات التى نعانى من سلبياتها فى بيوتنا وفى معظم قطاعات المجتمع. وبلا شك أنّ الحكومة تبذل جهوداً هائلة، وهناك إنجازات ونتائج واضحة وبالذات فى المجالات الأمنية والسياسة الخارجية والخدمات الأساسية، وهناك قرارات اقتصادية شجاعة وحازمة، وهناك وزراء نابهون ولهم بصماتهم الطيبة. ولكن هناك أيضاً معوقات حقيقية للأداء الحكومى منها التحديات الداخلية والخارجية وهى كثيرة وبعضها شديد الصعوبة، وهناك ترهل شديد فى الجهاز الإدارى للدولة، وهناك سلوكيات مجتمعية صعبة تعوق أى تقدم. ويجب عدم إغفال أنّ هناك أخطاء حكومية ترتكب واجتهادات غير موفقة وبعض السياسات غير المدروسة، وهناك برامج تفتقر للإعداد الجيد، وهناك تعجل ملحوظ فى الإعلان عن بعض الإنجازات الداخلية والخارجية. وهناك من أعضاء الحكومة لا يقرأ إلا ما يحبه، ولا يعى إلا ما يعتقده، وينتقد كل ما كان خلاف ذلك لا فرق بين ما هو إيجابى وما هو سلبى. إنّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» فسأله الصحابة رضوان الله عليهم «كيف ننصره وهو ظالم يا رسول الله؟» فقال «بأن تنهوه عن ظلمه». ورسول الله نفسه كان أمره شورى، وكان يرجع عن قراره إذا وجد الأصوب حتى فى أوقات الحرب. هذا هو الرسول الكريم فهل ننزل على خلقه وسلوكياته وسنته، أم تأخذنا عزة النفس بالإثم ونعتقد فى أنفسنا عبقرية وفطنة لا تتوفر للآخرين. من المهم الاصطفاف جميعاً حول الهدف والرؤية، ولكن يجب أن نترك مساحة للاختلاف فى المنهج وفى تقييم النتائج. الإعلام ثروة قومية يجب المحافظة عليه، ويجب عدم التفكير فى مهاجمته أو محاولة هدمه، ولكن العمل على تطوير أدائه من خلال وضع الضوابط المهنية والخلقية وتطبيقها بحزم ليسهم فى معركة البناء ولضمان عدم خروجه على الصالح القومى والذوق العام والأعراف المجتمعية. والإعلام القومى يجب إعادة هيكلته والعمل على تطويره لما له من أهمية قصوى للدفاع عن الأمن القومى للبلاد. ويجب العمل على زيادة انفتاح صحفنا ووسائل إعلامنا القومية على الرأى الآخر، والرد عليه بالفكر والحجة بدلاً من الحجب وترك الساحة خاوية لصحف المعارضة والصحف الخاصة. وأرى الأهمية القصوى لبدء إنشاء قناة إخبارية باللغة الإنجليزية، بمشاركة الحكومة والقطاع الخاص، لمخاطبة العالم وشرح قضايانا وعرض إنجازات الدولة ولجذب الاستثمارات وتشجيع السياحة إلى مصر.