لطالما تعذبت وتأذيت حين كنت أقرأ بعض كتابات لمؤرخين مثل السيوطى والمقريزى وابن إياس وابن خلدون وغيرهم، ممن أبرزوا بعض ما اعتبروه شيئاً من سمات الشخصية المصرية؛ مثل: «السعى إلى السلطان وذم الناس»، و«النفاق»، و«مناصرة الغالب حتى لو لم يكن صاحب حق». وللأسف الشديد، فقد كانت تلك الكتابات والأقوال تجد ما يدعمها أحياناً فى سلوك ممجوج أبداه بعض المصريين تجاه عدد من الحكام المستبدين أو الغزاة الطغاة. ظلت أخلاق المصريين تشغلنى ربما بأكثر مما تشغلنى أحوالهم. ولذلك، فقد كنت أحد الذين تحدثوا، فى وقت مبكر، عن تغير فارق طرأ على المنظومة الأخلاقية التى حكمت المصريين قروناً فيما يتعلق بعلاقاتهم بالحكام. إنه التغير الذى تبلور فى أوضح صوره عشية ثورة يناير، وخلال فترة ال 18 يوماً المجيدة، التى انتهت بإطاحة مبارك. وهو التغير الذى انعكس فى سلوكيات مبهرة، أذهلت العالم أجمع، وجعلت قادة عالميين بارزين يؤكدون أن «المصريين يكتبون التاريخ كعادتهم»، أو يطالبون ب«تدريس الثورة المصرية» فى مناهج التعليم فى بلادهم. ثمة إشراقات حقيقية ولحظات مبهرة فى تاريخ هذا البلد العريق، حفلت كلها بزخم أخلاقى واضح، انعكس فى سلوكيات شديدة الانضباط والإيجابية، من قبل فئات مختلفة من الشعب المصرى، وقد كانت تلك اللحظات كافة مقترنة بنهضة شاملة أو معبرة عن استجابة لتحدٍ عظيم. لقد أضاف المصريون إلى سجلهم الأخلاقى، فى تلك الفترة المجيدة، ما يمكن اعتباره أخلاقاً إيجابية غابت كثيراً عن سلوكهم السياسى والاجتماعى؛ ومن تلك الأخلاق بالطبع «الثورة على الظلم»، و«الروح الجمعية»، و«الفخر الوطنى»، و«التضحية»، و«إنكار الذات»، و«إعلاء قيمة الحرية على ما عداها من قيم الاستكانة والعيش المُتاح». ولم يقتصر الأمر على بروز تلك الأخلاق فقط، لكنه امتد ليزيح من الطريق عدداً من الأخلاقيات السلبية، التى كانت سبباً ونتيجة، فى آن واحد، لحال التجريف التى شهدتها البلاد على مدى العقود الثلاثة الفائتة؛ ومن تلك الأخلاقيات السلبية: «اللامبالاة»، و«النزعة الفردية»، و«الإعراض عن الاهتمام بالشأن العام». راحت السكرة، وجاءت الفكرة. وأفاق المصريون، والعالم، على واقع التحول الديمقراطى الشائك الصعب، فى أعقاب ملحمة الثورة على الاستبداد والظلم، وراحت المرحلة الانتقالية الحرجة تلهب الأعصاب بسبب دقتها وصعوبتها، وتسمم الأجواء بسبب التصارع الفظ والخشن بين الفاعلين السياسيين على الغنائم أو المكاسب أو النفوذ أو الدور فى الواقع الذى يتشكل فى مصر الجديدة. وكانت هذه العوامل مجتمعة، ومعها قابلية غريبة للانتكاس، إضافة إلى أدوار وافدة شريرة وموتورة، وراء بروز منظومة من الأخلاق السلبية، التى باتت تتكرس مع الأيام، إلى حد يمكن عنده تصور أنها ستكون عصية على التقويم وستقيم بيننا طويلاً. من تلك الأخلاق السلبية أن هيبة المنصب العام، التى يجب أن تظل قائمة اعتباراً واحتراماً لما يمثله من يشغله وليس تقديراً لذاته، ضاعت وسُحقت سحقاً، حتى شاع الخوف من الإقدام على التصدى للعمل العام، وتزعزعت هيبة الدولة، بشكل كاد يشل قدرتها على الوفاء بأدوارها ومسئولياتها. ومن تلك الأخلاق أيضاً تفشى نزعة التمرد، واحتلالها المكانة الأولى فى قائمة أولويات الفرد والجماعة عند التعاطى مع أى من أُطر النظام العام. وعلى الرغم من أن المصريين ظلوا قروناً أمناء على انتظام منطق الدولة وإنفاذ إرادتها، مهما كانت فاسدة أو رخوة، فإنهم اليوم يذهبون فى الاتجاه العكسى تماماً، وبالحدة نفسها، إذ بات الاستخفاف بالدولة وانتهاك القانون جزءاً أساسياً من سلوكهم اليومى. ليس ذلك هو أسوأ ما يستفحل بيننا من أخلاق سلبية فى أعقاب ثورة مشرقة ومجيدة، فثمة ما هو أخطر وأفدح أثراً؛ مثل هيمنة الإحساس ب«الخوف من المستقبل»، وانعدام الشعور بالأمن، وأخيراً، وليس آخراً، هذا الشعور اللعين، الذى بات جزءاً من قراراتنا الحياتية ومزاجنا العام.. أى الشعور ب«الغموض» و«تزعزع اليقين».