فى سنوات السبعينيات من القرن الماضى، أتاحت لى الظروف رؤية موكب الرئيس السادات مرتين، حيث شاهدت مواطنين بسطاء ينتظرون فى صبر وأذى قدوم الزعيم الراحل، قبل أن يتدافعوا ويصرخوا هاتفين ومؤيدين إذا ظهر، ثم ينصرفوا عائدين إلى انشغالاتهم بمجرد مروره، مشيعاً بالدعوات وعبارات الاستحسان والتحية. لم أكن فى سن تسمح لى بفهم التناقض الغريب فى سلوك من أعرف من هؤلاء المواطنين، الذين كانوا يسرفون فى نقد الرئيس والاستهزاء به وسبه ليلاً ونهاراً، ثم التكالب على رؤيته والهتاف له إذا تصادف ومرّ من منطقتهم. لاحقاً، بدأت أقرأ بدأب عن سلوك المصريين تجاه حكامهم، وتعذبت كثيراً ببعض كتابات السيوطى والمقريزى وابن إياس وابن خلدون والجبرتى وغيرهم، ممن أبرزوا بعض ما اعتبروه شيئاً من سمات الشخصية المصرية؛ مثل «السعى إلى السلطان وذم الناس»، و»النفاق»، و«الانسحاق المجانى»، و«مناصرة الغالب حتى لو لم يكن صاحب حق». ورغم أن عدداً من الباحثين المنصفين راح يحلل أسباب ما قد يظهر فى الشخصية المصرية من خنوع ونفاق للحاكم، ويعيده لاعتبارات جغرافية وتاريخية واضحة ميزت مسيرة الحياة فى هذا البلد العريق، وطبائع الحكم، وحدود الفعل المتاحة لدى المحكومين فيه، فإن باحثين آخرين ذهبوا إلى نفى مثل هذا التحليل والانطباع، معتبرين أن ما يجرى فى مصر فى هذا الصدد إنما هو جزء من واقع الاستبداد الشرقى، وأمر مشابه لما يجرى فى غيرها من البلدان فى هذا الجزء من العالم. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، بل ثمة من روّج فى الإعلام والسياسة لعكس ذلك تماماً، معتبراً أن الشعب المصرى «لا يقبل الضيم»، و«يقاوم الحاكم الغاصب»، و«يؤرق مضاجع الظالمين»، ويختلف كثيراً عن محيطه الغارق فى الاستبداد والاستسلام لنظم الحكم الديكتاتورية. الرئيس مبارك نفسه فعل شيئاً مشابهاً؛ فقد سألته مجلة «نيوزويك» على هامش زيارته للولايات المتحدة فى مارس من العام 2001، عما إذا كان نجله جمال يُعد ليخلفه فى الحكم، كما حدث فى سوريا حيث تسلم بشار الأسد السلطة فى أعقاب رحيل والده، فرد الرئيس بحسم وانزعاج وثقة شديدة: «نحن لسنا سوريا، ابنى لن يكون الرئيس المقبل، انسوا هذا الموضوع». لا يبدو أن الرئيس مبارك كان يعنى ما فهمناه آنذاك؛ فقد ظهر لاحقاً أننا مثل سوريا فى هذا المضمار، وربما أسوأ حالاً، وأن جمال يُعد فعلاً لخلافة والده، وأن خططاً وتدبيراً واسعاً يجرى لضمان أن يتم هذا الأمر بأقصى درجة ممكنة من السلاسة واليسر. والواقع أنه من اليسير أن يتفهم المرء موقف أى رئيس أوتوقراطى وعائلته من موضوع التوريث؛ إذ تسعى العائلة إلى ضمان استدامة عوائد المجد والسلطة المطلقة وتفادى تداعيات المحاسبة والمساءلة المحتملة. كما أنه من المنطقى أن ينخرط رجال أعمال وساسة من بطانة نجل الرئيس فى محاولات تصليبه وتلميعه وتمهيد الميدان له، ليضمنوا وصوله إلى المنصب المأمول بأقل التكاليف والخسائر وعبر أيسر الطرق؛ وهو الأمر الذى سيمكنهم دوماً من حصد المكاسب الكبيرة، وتكريس مواقعهم فى السلطة، وزيادة ثرواتهم مهما كانت مشبوهة، وتفادى المساءلة والحساب. وبالطبع يسهل فهم دوافع بعض القوى الدولية والإقليمية التى تساند فكرة توريث جمال مبارك الحكم، إذ يبدو أن تلك القوى تلقت التطمينات اللازمة بصيانة وتحقيق مصالحها وأغراضها مهما كانت تتعارض مع المصالح الوطنية المصرية أو لا تخدمها على النحو الأمثل. لكن ما لا يمكن فهم دوافعه حقاً هو جماعة «طلائع جمال مبارك»، التى يبدو أنها تتشكل على نحو عاجل، وتتسع باطراد، وتنتشر جغرافياً وإعلامياً، وتتزايد أدواتها، ويتفاقم تأثيرها يوماً بعد يوم، وتتوالى جهودها مجاناً ودون عوائد واضحة يجنيها أعضاؤها حتى الآن. يوم الأربعاء الماضى، كان جمال يزور قرية «النجاح» بمحافظة البحيرة، بوصفها إحدى القرى الأكثر فقراً، حيث تدافع الأهالى وبعض النخبة لرؤية نجل الرئيس دون جدوى، إذ كان حضور اللقاء مقصوراً على قيادات المحافظة وبعض الحزبيين. وكما نشرت «المصرى اليوم»، أمس الأول، فى صفحتها الأولى، فقد حضر عضو مجلس شعب سابق عن مركز الدلنجات، وبرفقته مجموعة من الشباب «يرتدون فانلات مرسومة عليها صورة الرئيس مبارك وهو يحتضن حفيده محمد علاء، ومكتوباً على الفانلات من الخلف طلائع جمال مبارك». لم يُسمح للنائب السابق بحضور اللقاء، وبقى خارجه مع الكثير من أهالى القرية والنشطاء السياسيين والشبان الذين ارتدوا الفانلات المكتوب عليها «طلائع جمال مبارك»، لينضموا جميعاً إلى حركة «طلائع» واسعة، تضم سياسيين غير منتمين للحزب الوطنى، وغير منتفعين من هيمنته وفساده بصورة مؤثرة، وفنانين من أجيال مختلفة لا ينقصهم مال ولا شهرة ولا نفوذ، ورياضيين يحظون للأسف بحب الجمهور وثقته ويستمتعون بالثراء العريض المفاجئ، ورجال أعمال ليسوا ضمن بؤرة المنتفعين المقربين، ورجال دين فى أعلى مراكز النفوذ الروحى ومراتب التقدير، وجمهور بسيط يعلق فى المنتديات وعلى أخبار الصحف مؤيداً التوريث، أو يهتف فى لقاء أو تجمع شبابى للرئيس المنتظر. خصومة قلبى حقاً ليست مع أصحاب المصلحة الحقيقية والمباشرة فى التوريث، بكل ما يعنيه من انسداد أبواب الأمل أمام مصر، ولكنها مع جماعة «طلائع جمال مبارك»، التى تتسع وتكسب أنصاراً كل يوم، والتى تجتهد مجاناً لتغرق هذا البلد فى بئر عميقة مظلمة، هكذا.. من دون عائد ولا سبب.