قررت القاهرة أن تعود بقوة، ومن الباب الواسع، إلى أفريقيا، بعد عقود من خروج غير مبرر دام طويلاً، لا نعرف لحساب مَنْ أو لمصلحة مَنْ كان هذا الغياب عن حدائقنا الخلفية فى الجنوب وإن كان من الممكن أن نخمن.. حتى نصائح الحكماء الأفارقة للقاهرة بالعودة إلى القارة الأم ذهبت سدى وقابلها النظام الأسبق باستخفاف. شكا رئيس أفريقى -ما زال فى الحكم- يعرف قدر مصر ودورها، من الرد الصادم الذى تلقاه من مسئول سابق فى نظام مبارك، نصحه الرئيس الأفريقى أن تعيد مصر توجيه «بوصلتها» إلى «مجالها الحيوى» فى «الجنوب»، بعد أن يممت وجهها طويلاً شطر «الغرب». قال المسئول المصرى: «نصيحة متأخرة»! بالطبع خسرت مصر كثيراً بغيابها. على الأقل فى غيابها فقدت أوراقاً مهمة للتفاوض فى النزاع حول مياه النيل، وظهيراً أفريقياً يتعاطف معها ويقدر لها «رصيدها». وبثورة 30 يونيو «قطعت» مصر إجازتها المفتوحة إلى أجل غير مسمى وقررت العودة إلى أفريقيا وإعادة توجيه دفتها نحو الجنوب فى نفس الطريق الذى اكتشفه الأسلاف من قبل من حتشبسوت إلى محمد على وإسماعيل وجمال عبدالناصر. قبل نصف قرن تقريباً، فى مايو 1963، كانت القاهرة تطلق مع كوكبة من قادة حركة التحرر الوطنى الأفريقية إعلان منظمة الوحدة الأفريقية -الذى صار فيما بعد الاتحاد الأفريقى- فى أديس أبابا. وأرست بهذا الإعلان قاعدة للوحدة الأفريقية، قامت حولها تجمعات اقتصادية هنا وهناك فى شمال القارة وشرقها وجنوبها، «الكوميسا» و«ساداك» وشرق أفريقيا، تجمعات ثلاثة يربو سكانها على 656 مليون نسمة ويزيد ناتجها المحلى على 3٫1 تريليون دولار فى سبيلها إلى أن تتوحد فى قمة شرم الشيخ المقرر عقدها فى العاشر من يونيو 2015 لتكون نواة لاتحاد اقتصادى أفريقى يتم التمهيد له بمنطقة تجارة حرة من كيب تاون حتى القاهرة. وبمناسبة العيد الخمسينى لقيام منظمة الوحدة الأفريقية أطلق المعهد الأفريقى للدراسات المستقبلية فى الكونغو الديمقراطية وثيقة جديرة بأن يقرأها صانعو السياسة الخارجية فى مصر والمهتمون بالشأن الأفريقى قبل قمة شرم الشيخ، وهى رؤية مستقبلية لأفريقيا عنوانها «أجندة أفريقيا 2063» The Africa 2063 Agenda. افتتحت الوثيقة بتوجيه التحية إلى جيل الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقية الذين تركوا لنا أفريقيا خالية من العبودية والاستعمار والتفرقة العنصرية. وقد صاغت الرؤية مستقبل أفريقيا حتى 2063 فى كلمات قليلة موحية، فأفريقيا التى ينشدها الأفريقيون «قارة متكاملة مزدهرة، مسالمة يبنيها مواطنون أحرار، وقوة ديناميكية لها بأسها على الساحة العالمية» وتختزل الرؤية طموحات أفريقيا التى يريدها الأفريقيون فى النمو الشامل والتنمية المستدامة، وفى قارة متكاملة اقتصادياً، وموحدة سياسياً تتكون من دول ذات حكم رشيد، تنعم بالديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان ولاعب عالمى فاعل ومؤثر، وفى قارة آمنة مسالمة تختفى منها الصراعات، والحروب الأهلية، يسكت فيها هدير المدافع بحلول 2030. لا ينبغى لنا كعرب نفترش الفضاء الشمالى الفسيح من القارة أن ننعزل عن هذه الطموحات الأفريقية. لنكن جزءاً من الحلم الأفريقى، لا تفصلنا عن القارة خطوط جغرافية وهمية واهية أو مصنوعة تفرق بين أفريقيتين: أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء، وكأنهما عالمان منفصلان ومختلفان، وكأن تيارات الهجرة البشرية وانتقال المؤثرات الحضارية والثقافية قد دفنت فى بحر الرمال الأعظم فى الصحراء الكبرى قبل أن تنتقل من شاطئ إلى آخر. لم تكن الصحراء الكبرى حاجزاً طبيعياً، بل كانت فاصلاً استعمارياً وعنصرياً بين أفريقيا العربية فى الشمال وأفريقيا الزنجية فى الجنوب. ومنذ القرن التاسع عشر، قرن استعمار أفريقيا، كرس الاستعمار بممارساته هذا الفاصل. كانت أفريقيا طوال العصر الاستعمارى مفتوحة على الخارج وليس على الداخل. وكان المسافر من داكار إلى تونس عليه أن يذهب عن طريق باريس. قبل هذا القرن كانت أفريقيا أكتر تكاملاً ووحدة، وكانت تيارات التبادل الثقافى والتجارى قائمة على قدم وساق. وكانت طرق التجارة والحج والهجرة جسوراً وأدوات للتواصل الثقافى والحضارى بين شمال القارة وجنوبها، ما زالت بعض مراكزها قائمة حتى اليوم فى تمبكتو ودار السلام وساحل الذهب ودارفور ومصوع وغيرها. وفى مناطق عديدة من أفريقيا الجنوبية اختلطت العربية باللهجات الأفريقية المحلية، وصنعت لغة ثالثة مثل «عربية جوبا» فى جنوب السودان. وكان درب الأربعين الذى يقطع الصحراء الكبرى بين مصر وتشاد وغرب أفريقيا ودارفور طريقاً للتجارة والثقافة والهجرة، وليس طريقاً للغزو والحرب والعدوان. فى الرؤية المستقبلية لأفريقيا 2063 طموح لإحياء هذه الطرق القديمة وتجديدها، وتوسيع شبكة الطرق العابرة للقارة مثل طريق القاهرة - كيب تاون لتسريع النمو والتكامل، ويشمل ذلك إنشاء شبكة سريعة للسكك الحديدية لربط المدن والعواصم الأفريقية وشبكة للطرق والنقل البحرى والجوى وتطوير تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والاقتصاد الرقمى. مع اقتراب عقد القمة الاقتصادية الأفريقية فى شرم الشيخ لتوحيد التجمعات الإقليمية الثلاثة؛ الكوميسا والساداك وشرق أفريقيا فى تجمع واحد، علينا أن نمعن قراءة الأجندة الأفريقية لعام 2063، وأن نعمل جنباً إلى جنب مع أشقائنا الأفارقة للوصول إلى الهدف الطموح الذى قررته وهو رفع نسبة التجارة الأفريقية البينية من 12 بالمائة فى عام 2013 إلى 50 بالمائة فى 2045، وتحسين حصة أفريقيا فى التجارة الدولية من 2 بالمائة إلى 12 بالمائة. وبالرؤية آفاق زمنية مرحلية لتحقيق التكامل والوحدة الاقتصادية على القمة أن تشق لها مسارات سريعة منها إقامة منطقة تجارة حرة قارية بحلول 2017، وبرنامج للتجارة الأفريقية البينية المتبادلة بحلول 2022، ودعم الموقف الأفريقى فى مفاوضات التجارة العالمية، وإقامة مؤسسات تمويلية؛ بنك للاستثمار الأفريقى وسوق للأسهم الأفريقية بحلول 2016 وصندوق للنقد الأفريقى (2018) وبنك مركزى أفريقى (2028/ 34). وقى مقال مقبل سنواصل القراءة فى أجندة أفريقيا 2063.