كانت جارتنا وعباءتها السوداء وصينية حلواها اللذيذة بداية كسر الحاجز بيننا وبين محيطنا الجديد وجيراننا الأعزاء، وبالطبع رددنا صينية الحلوى بأكل مصرى يعشقونه. وظلت أطباق الطعام تُتبادل بيننا وبين أبناء الحى الحميم على مدار اثنى عشر عاماً ولا تعود فارغة أبداً، وتكون ذروة الإبداع والفن مع تلك الأطباق الطائرة فى شهر رمضان المبارك، وتبرز رائحة الزعفران والهيل وعبق جزيرة العرب الممزوج بالثقافة الهندية وتوابل الهند الغنية، فتنشأ فى أمزجتنا مستقبلات تذوق جديدة، فتمتزج مع رائحة التفاح روائح جديدة (وما كان جديداً يصبح اليوم ذكرى تهل كلما هبت نسائم تلك الروائح وتذكرنا بجمال تلكم الأيام). وبما أننا كنا البيت المصرى فى الحى فكان الجيران الأحباء يعاملوننا بكل تقدير وحب واحترام بما يتناسب مع مكانة مصر فى قلب ووجدان ذاك الشعب الأصيل، وبما يتناسب مع دماثة وخلق ووقار أبى رحمه الله وتهذيب أمى أطال الله فى عمرها، فكان حبهم صافياً وودهم مخلصاً، فالبحرينيون كما أكرر دائماً شعب يقدر العلم والتحضر والمدنية، وكان أبى وأمى مثالاً لهذه المعانى جميعاً، فكانا المرجع لكل الحى فى المسائل العلمية والثقافية والاستشارات التعليمية، كان ينقصنا علَم أعلى المنزل لنكون سفارة مصر فى الحى. وتمر أيام المنزل ذى رائحة التفاح وننصهر بسرعة وحب ودفء مع كل ما حولنا، ويبقى الحنين دائماً وأبداً لمصر الحبيبة، إذ إن حب الوطن وأنت بعيد عنه فى سن الطفولة، حيث تنشأ معك معانى الوطنية وتتبلور شخصيتك وانتماؤك ويتشكل وجدانك، أمر فى غاية التعقيد، يبدأ معك ذاك التعقيد عندما تحيّى علَماً غير علم بلادك وأنت فى الصف الأول الابتدائى، وتدرس كل ما يتعلق ببلد ليس ببلدك، بل وتنطق لهجة ليست بلهجة وطنك، صحيح أننى كطفله وأظن إخوتى كذلك عشقنا البحرين، لكن ظل حب مصر الطاغى والمستبد يأكل شغاف القلب ولا يترك لغيره بقية، وما ذنبنا إن كان وطننا يعشقه الآخرون فما بالك بنا نحن!! وظل الشوق الجارف العاصف يغتال أفئدتنا فنذوب عند سماع أغانى الغربة وأغانى مصر التى نتغزل بها ونذوب وننصهر عشقاً ونتلهف للإجازات السنوية، نروى عيوننا وأرواحنا منها كل عام لمدة خمسة وأربعين يوماً هى مدة زيارتنا للوطن التى نراه فيها بعين السائح، وهو نوع آخر من الاغتراب، الغربة داخل الوطن، وكان التجهيز لنزول الإجازات لنا كأطفال متعة كبيرة تبدأ قبل السفر بشهر كامل، ويتمثل هذا الاستعداد بالنزول إلى الأسواق لاختيار الهدايا للأقارب والأصحاب وننتهى بحزم الحقائب والأمتعة التى تحمل بداخلها الكثير من الشوق واللهفة للأحباب وللبلاد. وفور وصول الطائرة يبدأ جزء من ذاك الشوق فى الهرب والتسلل من بين أيدينا سريعاً، وعلى الفور تُعقد المقارنات اللاإرادية (ضوضاء، زحام، تكدس، اختناق مرورى) فتلحظ التأفف والضجر، فالحياة هناك كانت أيسر وأسهل وهادئة، إذ كان الخليج العربى (الثمانينات) يشهد طفرة اقتصادية ومجتمعية كبيرة يتحول بها من الانعزال والفقر إلى الثروة والانتعاش، ومن صعوبة العيش إلى رفاهيته وسهولته، وكانت مصر فى نفس الفترة تنفض عن عاتقها آثار حروب طويلة وعذابات كثيرة، وبين التناقضين نشأنا ولمسنا عن قرب التغير الديموغرافى والاقتصادى والمجتمعى عربياً وإقليمياً، إذ إن الخليج منذ ذاك الحين بات جاذباً لكل جنسيات الأرض تقريباً. ولكن كعادتها الأرض الطيبة ترجعك إليها فى ثوان، فبمجرد فتح زجاج النافذة واستنشاق هوائها العليل يعود إليك الشوق لها وأنت بها، ويحتضنك ويحتضن أيامك ويخبرك بأنك ملك الملوك، وأنك ابن أجمل وأعظم حضارات الكون، وابن لأجمل بقاع الأرض، مصر أغلى اسم فى الوجود دائماً وأبداً، فداكِ الروح بلادى!