بحثاً عن حلم ظل يراودهم، لهثاً وراء «لقمة عيش»، حزم الشباب أمتعتهم، ورحلوا محمّلين بتحدٍّ: «يا نموت يا نفوت».. كان الموت هو الأقرب إليهم خلال رحلتهم على قارب متهالك بين أمواج البحر المتلاطمة، التى لم ترحم أجسادهم النحيلة.. والحلم «يفوت» صوب سواحل إيطاليا، حيث مبتغاهم، لا يشغل بالهم إلا تلك المنازل التى شيّدها جيرانهم الذين سبقوهم إلى الشاطئ الآخر بالأموال التى أرسلوا بها من الغربة، والأراضى التى اشتروها باليوروهات والدولارات.. مشاهد كثيرة للثراء تضج بها مدينة «أبنوب» التابعة لمحافظة أسيوط بأقصى صعيد مصر، يتمتع به الكثير من شباب القرية الذين غامروا وخاطروا بالهروب من مصر إلى دولة أوروبية، فعملوا لسنوات، ثم عادوا مرة أخرى ليستقروا، وأغروا بأموالهم عدداً آخر من أبناء قريتهم بالسفر والهروب من مصر، غير أنهم اصطدموا بسماسرة هجرة غير شرعية، جمعوا بدورهم الأموال وكوّنوا الثروات من تجارة الحلم لأبناء مدينتهم. 46 شاباً، ينتمون إلى أبنوب كانوا فى طريقهم إلى سواحل إيطاليا على متن قارب استقلوه من رشيد، منذ سبعة أشهر، ولم يعثر لهم على أثر، بعدما دفع أهاليهم آلاف الجنيهات لتجار هجرة غير شرعية.. صبية أصغرهم 12 عاماً وأكبرهم 18 سنة، فقدوا فى البحر، وخلفوا وراءهم قلوباً دامية، وسفيراً للموت ما زال يجمع الأموال، ويتاجر بحلم البسطاء فى الحياة الكريمة، دون أن يطرف له جفن. صورة الشاب «بطرس» تجاور صورة «العذراء» وهى تحضن السيد المسيح على حائط المنزل، الصورة هى آخر ما تبقى من الشاب الذى يتأبط ذراع صديقه فى رحلة إلى الموت. يظهر الشابان بجوار الصليب المعلق فى محاولة بائسة لتزيين مشهد الجدران غير المطلية فى المنزل الفقير شبه الخالى من الأثاث إلا القليل. وتحت الصورة، يجلس والده «خيرى جميل» على أريكة متهالكة، بجلبابه الأزرق المخطط، والشيب المنتشر فى رأسه ولحيته الكثة، وفى يده التليفون يداوم على الاتصال بصاحب الصورة «بطرس» ذى ال18 عاماً يتسمّع إلى رنات هاتفه الصامت، بأمل، معلقاً: «يمكن يرد عليا». وعلى الرغم من مرور 7 أشهر على رحيل نجله «بطرس»، متوجهاً إلى إيطاليا برفقة 26 من شباب مدينة أبنوب شرق أسيوط، و20 من القرى المجاورة لها، على متن أحد قوارب الهجرة غير الشرعية، ولم يظهر لهم أثر حتى الآن، فإنه ما زال لدى الأب «أمل ما». لم ييأس الأب المكلوم، لم يفقد الأمل فى عودة نجله الغائب، أو وصوله إلى إيطاليا سالماً، لا يُصدق أن يكون البحر قد ابتلع جسده النحيل، ولم يقم سرادقاً لاستقبال المعزين كبقية الأهالى الآخرين الذين فقدوا الأمل فى عودته أبنائهم.. يقبع «خيرى» صاحب ورشة النجارة، مطأطئ الرأس، دامع العينين، لا يستطيع أن يحافظ على هدوئه، بل يصيح بين الحين والآخر، ولا يقوى على الحديث، لكنه يداوم على ترديد هذه الجملة طوال الوقت: «ما دام تليفونه لسه بيرن، يبقى لسه عايش، أكيد ماماتش».. وهو يؤمن بعودة الابن بعدما طمأنه قس كنيسة «أبنوب» برؤية فى منامه: «ماماتش، أنا متأكد، وأبونا قال لى ابنك ماماتش، وشافه فى المنام.. ورؤية أبونا مابتكدبش». ينادى «عم خيرى» على الأم «شادية»، السيدة الأربعينية، بملابسها الرثة، وهى تحافظ على هدوئها، عكس الأب المنهار، وتبدو متماسكة أكثر، تروى محاولتها مع نجلها، لشهور، لإثنائه عن حلمه بالسفر إلى إيطاليا كبقية شباب «أبنوب»، فمنذ أن تخرّج فى إحدى المدارس الفنية، ولم يجد أى عمل سوى الجلوس برفقة أبيه داخل ورشة النجارة، وهى الوظيفة التى تروق له ولم تحقق حلمه فى الزواج الذى يتمنّاه. دخلت الأم فى شجار مستمر لإقناع نجلها بالعمل مع والده فى ورشة النجارة وإبعاد فكرة الهجرة إلى إيطاليا، وتقول مقطبة الحاجبين ل«الوطن»: «ماكنتش موافقة.. قلت له ماتروحش هناك.. قال لى مفيش هنا شغل يا أمّه ومش هقعد جنبك، هتجوز إزاى وأعيش إزاى». وحينما كان «بطرس» يرى صور زملائه فى «مدرسة الصنايع» بعد وصولهم إلى إيطاليا على صفحات «فيس بوك»، بملابس مهندمة وداخل البيوت الأنيقة، تشتعل الغيرة فى نفسه، ويستشيط غيظاً، وهى تحاول أن تهدئ من روعه، لكن دون جدوى: «يا بنى السفر تعب ومرار»، فيقول لها «أنا غاوى تعب»، حتى اتفق مع زملائه ال26 على الرحيل إلى إيطاليا، بالاتفاق مع «سعداوى»، أحد أكبر سماسرة الهجرة غير الشرعية فى أبنوب. كان «بطرس» ساخطاً على عمل والده، حسب رواية السيدة الأربعينية، فلم يكن يحب أن يعمل بالنجارة، وغير قانع بما تدره من أموال عليهم تكفيهم بالكاد على المعيشة: «كان بيقول فلوس الكام باب والشباك إلى بنبيعهم مايكفوش حق جوازى.. 30 جنيه فى اليوم هتكفى مصاريفى ولّا تكفى مصاريف تشطيب شقة ولّا فرح»، وترد الأم: «يا بنى اللى تحبك تعيش معاك على قد حالك بالقليل».. وتستطرد: «زهقت من الكلام معاه عشان يصرف نظر عن السفر، بس كل ما يشوف العيال راجعة من إيطاليا والفلوس بتجرى فى إيديهم يتجنن». جمع الأب والأم كل ما لديهما من أموال «تحويشة العمر»، وباعا كل ما يمتلكانه، بجانب اقتراض مبلغ آخر من جيرانهما من أجل جمع المبلغ المطلوب لسمسار الهجرة، وهو 20 ألف جنيه، لكى يوافق على سفر نجلهما عبر أحد القوارب إلى إيطاليا خلال الرحلات التى ينظمها كل شهر: «جمعناهم من لحمنا الحى.. استلفنا وجمعنا الفلوس عشان نرضيه».. وكان يعدهما بإرسال كل الأموال التى اقترضاها من جيرانهما بعد عمله فى إيطاليا. ومرت 7 أشهر منذ خروج الشبان من البلد فى أغسطس 2014، واختفى «بطرس» وزملاؤه، فلا يعرف الأب والأم طريقاً لنجلهما، فلا هو مات مثل بعض من أبناء أهل القرية الذين يموتون فى الطريق، ولا هو ما زال حياً، أو حتى يعرفا له مكاناً، بل الأكثر من ذلك ما يثار من تكهنات عن مكانهم: «عايزين نبيع روحنا عشان نشوف عيالنا»، فالبعض يتحدث عن اختطاف فى ليبيا، وهو ما يستدعى مصير 21 قبطياً ذبحهم تنظيم داعش فى ليبيا مؤخراً. والبعض الآخر، كما يقول الأب، يتحدث عن «بيع الشبان لتجار الأعضاء البشرية، اللى بيغرق فى البحر بيتعرف.. لكن إحنا لا عارفين ميتين ولا حيين، ولا أى حاجة عنهم»، فيما تشير أصابع «خيرى» وباقى الأهالى نحو سمسار الهجرة غير الشرعية بالاتهام، وتؤكد الأم أنه ما زال يعيش وسط أهله بالقرية دون أى قلق، ولم تقبض الشرطة عليه حتى الآن.