بعد أيام من الانتظار ووسط شائعات عن تعديل ومراجعة واختلافات وتعتيم إعلامى على محتوياتها، تم أخيراً توقيع اتفاقية أو وثيقة مبادئ سد النهضة ولا أدرى ما الاسم الأصح «وثيقة» أم «اتفاقية» أم «إعلان» (Declaration)، فقد اختلفت المسميات فى وسائل الإعلام. وهل هى وثيقة قانونية يُعتد بها أم أنّها فقط إعلان نوايا، كخطوة سياسية، للتوصل إلى اتفاقيات قانونية لاحقة؟ لقد تم التوقيع فى الخرطوم يوم الاثنين الموافق 23 مارس 2015 فى وسط زخم من الحضور من المسئولين من الدول الثلاث، والعديد من القادة ومسئولين إقليميين ومن المنظمات الدولية. الوثيقة تشمل عشرة مبادئ، الأول ينص على النوايا الحسنة للدول الثلاث وأساسيات التعاون من مكسب للجميع وتفهم لاحتياجات الآخر واحترام مبادئ القانون الدولى. والمبدأ الثانى ينص على الهدف من سد النهضة من توليد الطاقة والمساهمة فى التنمية الاقتصادية والتعاون والتكامل الإقليمى. ونتساءل هنا لماذا تم إدراج مصطلح التنمية الاقتصادية هنا، وهل هذه التنمية تشمل التنمية الزراعية، طيب ولماذا لا نذكر صراحة أنّ إثيوبيا سوف تستخدم السد للطاقة والرى والزراعة وغيرها من الأنشطة التنموية. أم أنّ المقصود شىء آخر لا نعلمه فنرجو التفسير خاصة أنّ وزيرى الخارجية والرى المصريين نفيا إمكانية استخدام مياه السد فى الزراعة الإثيوبية. وينص المبدأ الثالث من الوثيقة على تجنب إحداث ضرر ذى شأن لاستخدامات مياه النيل الأزرق والنيل الرئيسى لأى دولة، وقيام الدولة المسئولة عن إحداث الضرر باتخاذ الإجراءات المناسبة لتخفيفه أو منعه، أو بالتعويض إذا كان ذلك مناسباً. وهذا البند لا معنى له ولا قيمة إلا إذا تم الاتفاق حول معنى كلمة أو مصطلح «استخدام»، فهل المقصود مثلاً «الحصص المائية» للدول الثلاث. ولكن إثيوبيا لا تعترف بالحصص المائية لمصر والسودان، وأيضاً لا توجد حصة مائية مخصصة لإثيوبيا علشان نتجنب أضرارها. طيب إيه هى الحكاية، وما معنى مصطلح «الاستخدام» وكيف نقدّر الضرر ونحن لا نعرف كيفية تحديد كمية استخدامات كل دولة. بالإضافة إلى هذا الغموض نجد أنّ هذا المبدأ نفسه يتحدّث عن استخدام النيل الأزرق واستخدام النيل الرئيسى، بينما يقول المسئولون عندنا إنّ الوثيقة مختصة فقط بسد النهضة الجارى تشييده على النيل الأزرق. هل يتحدث هذا المبدأ عن استخدامات الدول الثلاث من مياه النيل كله، وهل تتحدث الوثيقة عن إعادة توزيع مياه النيل بين دوله وتحديد حصة جديدة لكل دولة. توضيح هذا الغموض واللبس جاء فى المبدأ الرابع من الوثيقة المسمى بمبدأ الاستخدام المنصف والمناسب للمياه. وهذا المبدأ منسوخ من اتفاقية «عنتيبى» لعام 2010. إنّ المبدأ الرابع من الوثيقة يحدد العناصر «المعايير» التى يجب أخذها فى الاعتبار لتحديد كميات الاستخدامات المائية المنصفة لكل دولة. وحدد هذا البند عشرة من هذه المعايير، منها مساحة الحوض الواقعة فى كل دولة، وعدد السكان، والاحتياجات المائية الحالية والمستقبلية، ومساهمة كل دولة فى مياه نهر النيل. ولم توضح الوثيقة مَن الجهة المسئولة عن تحديد استخدامات كل دولة على ضوء المعايير التى يتفق عليها، ولم تحدد الوثيقة توقيتاً زمنياً لتحديد كمية هذه الاستخدامات، ولا نعرف كيف نقيس الضرر فى غياب أى مرجعية لقياسه. والمبدأ الخامس من الوثيقة للتعاون فى ملء وتشغيل السد، طيب فين السعة الضخمة للسد وتأثيرها الجسيم على مصر. الغريب أنّ هناك تصريحاً من السيد وزير الخارجية الإثيوبى لوكالة الأناضول يوم 23 مارس 2015 بأنّ مصر لم تطلب أثناء المفاوضات إدراج سعة السد فى الوثيقة، وأنّه لم يحدث خلاف مع مصر حول سعة السد، طبعاً مش عارفين نصدّق مين والله. وينص المبدأ الخامس على قيام اللجنة الثلاثية باستكمال دراسات السد والتوافق حول نتائجها وحول سياسات التشغيل والتخزين خلال فترة خمسة عشر شهراً من تاريخ البدء فى الدراسات، التى لم تبدأ بعد. والبند السادس من الوثيقة ينص على إعطاء أولوية شراء كهرباء سد النهضة لدولتى المصب، والحقيقة أنّ هذا النص كوميدى، أولاً لأنّ مصر والسودان هما الدولتان الوحيدتان الممكن تصدير كهرباء هذا السد لهما، وثانياً لأنّ دون شراء مصر والسودان (خاصة مصر) كهرباء هذا السد ستُقفل توربيناته ويفقد السد جدواه الاقتصادية وتهدد سلامته الإنشائية. والبند السابع من الوثيقة يتحدث عن تعاون الدول الثلاث فى توفير البيانات اللازمة لاستكمال دراسات السد. والمبدأ الثامن يختص بالسلامة الإنشائية للسد وتتعهّد إثيوبيا بتنفيذ كامل توصيات اللجنة الثلاثية الدولية فى هذا الشأن. والمبدأ التاسع ينص على احترام سيادة كل دولة ووحدة أراضيها. والمبدأ العاشر والأخير ينص على الوسائل المتفّق عليها بين الدول الثلاث للتسوية السلمية لأى خلافات قد تنشأ بينها بخصوص السد، وهذه الوسائل هى المشاورات والتفاوض والتوفيق والوساطة، أو إحالة المشكلة إلى رؤساء الدول. ولم ينص هذا المبدأ على التحكيم أو الذهاب إلى مجلس الأمن أو حتى الاتحاد الأفريقى، فماذا يحدث إذا لم يتفق الرؤساء. هذه هى الوثيقة، فماذا كسبت منها مصر؟ ولماذا هذه العجالة؟ هل تم الاتفاق على دراسة حجم أصغر للسد؟ والإجابة «لا». وهل لدينا فرص لتقليل حجم السد إذا أثبتت الدراسات ذلك؟ والإجابة أيضاً «لا»، لأن المفاوضات ستأخذ خمسة عشر شهراً من بداية الدراسات التى لم تبدأ حتى تاريخه، ومع نهاية الدراسات قد يكون من الصعب تغيير تصميمات السد. وإثيوبيا لم تتعهّد بعدم الإضرار بحصتنا المائية، بل وافقت فقط على عدم الإضرار بالاستخدام المنصف للمياه، وقد نأخذ سنوات وسنوات نتفاوض أثناءها حول تصور لما يُسمى بالاستخدام المنصف لكل دولة، وقد لا نصل إلى اتفاق. وفوق ذلك تعهدنا بعدم الذهاب للتحكيم الدولى أو إلى المنظمات الدولية ذات الشأن، فهل تستحق الوثيقة كل هذا التهليل والتبشير؟ أعتقد بل أكاد أجزم أنّ هناك شيئاً غير معلن ولا نعرفه، فالقيادة المصرية بلا شك واعية ومدركة للمخاطر، وقد يكون من الأفضل الانتظار الجميل لما سوف يظهر مع الأيام، خاصة فيما بعد الانتخابات الإثيوبية والسودانية.