يبدو أن الأجواء التى نعيشها وأحداث السنوات الأخيرة قد أنست الكثيرين أهمية التفاوض والعمل السياسى حتى إن البعض انزعج كثيراً من زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى إثيوبيا وتوقيعه على الاتفاق الإطارى الثلاثى زعماً منهم أن هذا من شأنه الإضرار بمستقبل حصة مصر من مياه النيل، أو أنه يعد نوعاً من أنواع التفريط أو الاستسلام، غير أن الأمر فى حقيقته يبدو مختلفاً عن هذا التصوّر إذا ما أعدنا قراءة تاريخ العلاقات بين مصر وإثيوبيا من جديد وما مرت به من صعود وهبوط يُلقى على مصر الجديدة مسئولية تاريخية لإصلاح العلاقات والتقارب من جديد من منطلق مكانتها، وكذلك للتوصل إلى حلول دبلوماسية لحل أزمة سد النهضة، خاصة أن الجانب الإثيوبى كان بصدد بنائه فى جميع الأحوال، مما يعزز من أهمية الاتفاق الإطارى الذى وقّعته مصر مع كل من الجانبين الإثيوبى والسودانى، لأنه سينظم فيما بعد إجراءات تقسيم المياه، كما أنه سيضمن حصة مصر منها، إضافة إلى تفاصيل أخرى كثيرة سيتضمنها الاتفاق المقبل التفصيلى، غير أنه من الجدير بالذكر أن الجانب الإثيوبى قد وافق بالفعل على تشكيل لجنة خبراء مصرية - إثيوبية، للتأكد من أن بناء سد النهضة -أو سد الألفية العظيم- لن يؤثر بالفعل على حصة مصر من مياه النيل وتعهد بتغيير تصميماته الهندسية فى حال ثبوت تضرّر مصر منها، مضيفين ترحابهم الكبير بالتقارب مجدداً مع مصر والتعاون فى العمل بملف وادى النيل، على اعتبار أنه مصير مشترك، مشيرين إلى أن هذا الملف فى الماضى كانت تتعامل معه مصر من منظور أمنى بحت حتى إن الإشراف عليه كانت تقوم به جهة أمنية سيادية كبيرة، غير أن الرئيس عبدالفتاح السيسى فتح صفحة جديدة فى هذا الملف الحساس بمجهوداته الدبلوماسية وحلوله السياسية التى أعادت إلى الأذهان العصر الذهبى للعلاقات المصرية - الإثيوبية إبان عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر والإمبراطور هيلا سلاسى، التى ارتكزت على الجانب الدينى فى وقت كانت فيه الكنيسة بإثيوبيا تابعة للكنيسة الأرثوذكسية المصريّة التى كانت تعتبر الكنيسة الأم، فكانت تقوم بإرسال القساوسة من مصر للعمل هناك بكنائس إثيوبيا، كما كان الرئيس عبدالناصر كثيراً ما يوظف هذا لخدمة المصالح المشتركة بين البلدين، متضمنة ملف نهر النيل، ولهذا وبعودة العلاقات -تدريجياً- إلى سابق عهدها فى ظل تلك السياسة التى ينتهجها الرئيس حالياً نجد أن الأمور قد وُضعت فى نصابها الصحيح من جديد، وبالتالى فلا توجد مبررات من وجهة نظرى لأى مخاوف قد تنشأ هنا بمصر بشأن مستقبل المياه فى أعقاب بناء سد النهضة، كما أعتقد أن المخاوف الإثيوبية بشأن أسلوب التعامل المصرى مع هذا الملف قد تبدّدت إلى حد كبير، خاصة مع كلمة الرئيس السيسى الودودة أمام البرلمان الإثيوبى، التى خاطب بها الشعب الإثيوبى بشكل مباشر فى كلمة لاقت استحساناً كبيراً من الحضور وأشاعت أجواءً جديدة من الود والثقة بين البلدين شعباً وحكومة، إعلاءً لصوت السياسة والدبلوماسية المصرية مجدداً وعودتها للتألق.