السياسة هى فن الممكن وليست رحلة للبحث عن المستحيل. ومصر لم تستطع، بسبب ظروفها الداخلية على مدى السنوات الأربع، منع بناء سد النهضة، ولم يكن لها تأثير خارجى يؤهلها للضغط على إثيوبيا للتراجع عما بدأته باستثناء تعطيل التمويلات الخارجية لإنشاء السد لبعض الوقت. وهذا طبيعى، فالدولة التى تعانى من مشكلات داخلية، يتعرض تأثيرها الدولى للانكماش. علاوة على أن توقيت بدء إنشاء سد النهضة تزامن مع فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى الذى كان منعدم الخبرة كرجل دولة، وحينما بدأ فى مناقشة الأزمة فضحنا بجلسته السرية الشهيرة التى كانت مذاعة على الهواء مباشرة، واستمعنا فى هذا الاجتماع لنخبة من أهل الثقة والعشيرة آنذاك وتصوراتهم الكوميدية لحل الأزمة. وبالطبع كان هذا الاجتماع وحده دافعاً لإثيوبيا كى تمضى قدماً نحو تنفيذ مشروعها. وأنجزت فيه مراحل كبيرة. وفى تقديرى أن الاتفاق الذى تم توقيعه منذ أيام هو أول خطوة صحيحة فى هذا الملف الملغوم منذ أكثر من عامين. فما دامت مصر لن تستطيع أن تمنع بناء السد، فالصحيح هو التعامل مع الأمر الواقع بسرعة لتحقيق المصلحة الوطنية للدولة والحفاظ على حصة مصر التاريخية من مياه النيل، والاتفاق بلا شك وضع مصر فى وضع أفضل مما كانت عليه قبل توقيع الاتفاق، وأصبحت مشاركة بنسبة مع إثيوبيا والسودان فى منظومة للحفاظ على مصالح الأطراف الثلاثة، ووضع الاتفاق أساساً لتعاون إقليمى بما يضمن تحقيق هذه المصالح لمدى زمنى. وقد نجح الاتفاق فى سد ثغرات المسار الفنى الذى كان قائماً، وشمل تعهداً إثيوبياً باحترام نتائج الدراسات الفنية، ووضع تصور لقواعد ملء الخزان وتشغيله فى ضوء تلك الدراسات. كما شمل الاتفاق آلية لتسوية النزاعات بين مصر وإثيوبيا عن طريق التشاور أو الوساطة أو التوفيق. وقبل هذا الاتفاق كانت إثيوبيا ماضية فى طريقها ولا يوجد لديها أى التزامات تجاه المصالح المصرية، ولا تعبأ بما يقال فى وسائل الإعلام المصرية من تصورات، وربما تهديدات. لأن إثيوبيا أيضاً لها مصالح تسعى لتحقيقها، فإما أن نتعاون لبناء مصالح مشتركة أو سنتعرض لتضارب المصالح. والبعض يستند فى انتقاده للاتفاق على أن مصر بدورها وتاريخها كان يجب عليها أن تمنع بناء السد، وإن استمر العناد الإثيوبى تقوم بنسف هذا السد، والحقيقة أن هذا الأمر لم يعد ممكناً الآن لأسباب كثيرة، منها أن المجتمع الدولى لم يعد مواتياً لتلك النوعية من الأفكار، ومصر لديها حالياً 3 جبهات مفتوحة ولا يمكن المغامرة بفتح جبهة رابعة بعيدة فى هذه الظروف، والأصل أن ما يمكن بالحلول السلمية أفضل من اللجوء إلى الحلول غير السلمية. ومصر الآن تحتاج لإغلاق الجبهات المفتوحة للتركيز فى عملية التنمية الداخلية التى توقفت تماماً منذ 2011، وهو الأمر الذى سيترتب عليه استعادة الدور الدولى المفقود، وبالتالى استعادة التأثير الذى لم نعد نشعر به. هذا الاتفاق خطوة مهمة للغاية، وأعتقد أنه امتص شحنة غضب إثيوبية كبيرة من بعض التصريحات المصرية. وكما قلنا فإن هذا هو أفضل الحلول المتاحة فى تلك الظروف، وكل ما كان يُطرح هو تجاوز للواقع، ولا يمكن لقائد أن يقود أمة بعيداً عن الواقع وإلا أغرق هذه الأمة. والذين يوجهون النقد لاتفاق المبادئ هم أيضاً معذورون، فقد وضعنا الإعلام خلال العامين الماضيين فى حالة شحن معنوى لم تكن تنتهى لحلول منطقية. وكان الحديث الدائم عن تدخل إسرائيل فى هذا الملف بشكل كبير.. وعلينا فقط هنا أن نفكر فى سؤال مهم: هل نترك الملعب مفتوحاً لإسرائيل مع إثيوبيا فى هذا الملف بغض النظر عن النتائج التى قد تترتب فى المستقبل، أم نكون جزءاً من المعادلة ونوقع على اتفاق مبادئ تلتزم فيه إثيوبيا بعدم الإضرار بمصالحنا المائية. الأمر هنا لا يستحق الحناجر العالية بغض النظر عن النتائج، فقد ورطتنا هذه السياسة فى أمور كثيرة لأننا لم نحكّم عقولنا واستخدمنا حناجرنا أكثر من اللازم. وفى ظنى أن بداية التعامل الصحيح مع الأزمة هو ذلك الاتفاق الذى تم توقيعه منذ أيام. وهو اتفاق يعنى وقف نزيف الخسائر، وإعادة فرض واقع جديد يمكن على أساسه إجراء مفاوضات خاصة بالمستقبل، وعلينا الآن أن نطوى هذه الصفحة ونفكر فى كيفية التعاون مع دول حوض النيل لتعظيم استفادة الجميع من مياهه.