منذ أن أغوانى صوت النداهة وتركت قريتى فى النصف الأول من ستينيات القرن الماضى وأجبرت على الحياة فى مدينة من الحديد والأسمنت. لا يعرف سكانها بعضهم. وما إن تأتى ليلة عيد الفطر الذى نسميه فى قريتنا: العيد الصُغَيَّرْ، وعيد الأضحى الذى يطلقون عليه: العيد الكبير. وأستمع لأغنية أم كلثوم: يا ليلة العيد أنستينا وجددتى الأمل فينا. حتى تحدث لى حالة من الشجن الجميل الذى ربما تجمعت الدموع فى العين رغم أننى منذ أن سكنت المدينة مصاب بجفاف العين. وأضع دموعاً صناعية حتى تبقى للعين قدرتها على الرؤيا. ما إن أستمع لصوت أم كلثوم مع اللحن القديم. مع الغناء المذهل حتى أرحل بخيالى. والخيال أعظم نعمة منحها الله لبنى البشر. وهى التى تميزهم عن باقى المخلوقات. بالخيال أترك مكانى فى مجتمع الزحام والضوضاء. وأرحل لقريتى البعيدة. قرية الستينيات التى لم يكن قد دخلها النور بعد. وكان القمر ابنها البكر الذى لا يظهر سوى فوق القرى. وإن ظهر فوق المدن يكون كالغريب. فى كل عيد أتأمل حالى فأحزن. ثم أتأمل أحوال البلاد والعباد فيزداد حزنى. تفرض أخبار الواقع نفسها علىَّ. فأصاب برعب وبفزع وأقول لنفسى إن أكبر عقوبة تقع على الإنسان أن يجد نفسه مضطراً لأن يحيا فى زمن ليس زمنه. وأن يعيش فى أيام ليست أيامه. وأن يضطر للتعامل مع فصيل من أبناء بلده لا يستحقون أن يقال عنهم أنهم من أهل مصر. تطاردنى وجوه الضحايا. تطلب منى عدم الصمت. وكأن الكتابة ستعدل المايل. مع أنه فى قريتى كانوا يقولون مثلاً ينطبق على من يكتبون الآن: القول ضايع والعدو رايع. لكن إن توقفنا عن القول فماذا بقى لنا لكى نواصل المسيرة؟ إن دخول القبور ونحن أحياء قد يكون نعمة ربما لا نأمل بالحصول عليها. أنظر إلى الشارع وأقول لنفسى: هل هؤلاء هم أهل مصر؟ هل يعبرون عن عراقة مصر وحضارتها وتاريخها وريادتها للدنيا كلها؟ هل هذه هى مصر التى بناها حلوانى؟ والتى أهدت للدنيا كل ما هو جميل عندها الآن ابتداء من الفن والفكر والأدب ونظام الحكم والأخلاقيات. بل والكفاح ضد الفناء. فجميع الآثار التى تركها لنا أجدادنا تقاوم الفناء وتجعل من ماتوا تحت الأرض لهم فى الدنيا مثل من يتحركون فوقها. نشاهد التليفزيون – ونادراً ما أشاهده – فأجد الجميع يتكلمون. أتذكر عبارة الحكيم المصرى القديم: ويل لأمة يتكلم كل أهلها لأنه لن يوجد واحد ينصت لما يقال. وأيضاً فإن كان للكلام ميزة. فإن للصمت مزايا كثيرة. يكفى أنه بالتفكير والتدرب وتقليل الأمور يمكن أن نعرف الخطوة الأولى على الطريق. لن أنسى بكائية "أبو الطيب" المتنبى: - عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيد.