«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشق السيدة
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 05 - 2012


يا فاتناً لولاهُ ما هزّني
وجدٌ ولا طعمُ الهوي طابَ لي
هذا فؤادي فامتلك أمره
واظلمه إن أحببتَ أو فاعدل
ماذا يعني أن تعشق السيدة، أم كلثوم، بعد الأربعين من عمرك، تنصت من كلِّ قلبك، تهيم بآهاتها، وتلينُ أحجارُ روحك في البحّة الفادحة؟
الترنيمة، وحدها، تلمسُ شيئاً في قاع نفسك هوي واستقر، ونبرة الألم، تقدح حزناً لم تكن قد تصورته ممكناً ذات يوم.
ها أنت ذا مأخوذ بها، واله، وحزين، تشفّ، مع الأربعين، وتعرف أن كل عاطفة تؤول إلي شجن.
تفكّر، أحياناً، أن علاقتك المستجدة بها، ولما تكمل العقد بعد، عتبة لفراق ما، غربة موعودة، غياب، بذرة موت سقطت في دواخلك، نبتت في الأرض المهجورة علي مهل وضربت جذورها عاماً بعد عام، بغير أن تُحسَّ، وها هي فتّقت تربة الجسد، وقد جفّ قليلاً، راحت غضارته، حتي استقامت شجرة، أغصانها الخضراء العفيّة تشقُّ الجلد، تمتد، أوراقها تتمايل مع الصوت الساحر العجيب كلما اشتدّ، وارتفع، وصاح، كلما طاب، وذاب، وتبغدد.
أحياناً تقول: هي كلُّ ما تبقي من ذكري زمن لم أعش من فتنته الكثير.
حنينٌ، أن تعشق أم كلثوم، بعد كلِّ هذا العمر، اشتياقٌ، وحشةٌ، وعد مكسور، رسالة، نفحة عطر ذاب وتبخّر، لذةٌ مهدورةٌ ليس لاستعادتها من سبيل.
أن تنتبه، بعد عقود، لعاطفة تنبض تحت جلدك، وتري أنك مأخوذ بما لم تعشه معها من أعوام، ذلك يعني أنك تتذكر، تحيا صوتاً موهوباً لزمن ليس هو الماضي بالضرورة، ليس هو الراهن العصي، إنما هو زمن الحكاية حينما تُصبح الحكاية ذكري، وتصبح الذكري عزاءً، أو ما يشبه العزاء، زمن يستعاد عبر الصوت، وبالصوت يكتب حكايته مثلما حكيت من قبل، بما في طياتها من مواجع وأحزان.
لا أكتب، بذلك، سيرة عمر مع أم كلثوم، لا أفتح باباً لأعود لفصل أول بعيد، إنما أمنح الصوت، بقماشته الساحرة، حق أن يترنم فيما تبدد من أيامنا، ما تسرّب وتبخّر وذاب، أيام لم تكن أم كلثوم سوي لغز في كل ذكري له برعم وغصن، هكذا هو صوت السيدة، وهكذا هي حكاية عشقنا، حقيقية كانت أم متخيلة، وقد تفتحت مثل زهرة.
بعد الأربعين
تنتظرنا السيدة هناك، في عطفة خفيفة الضوء، بعد الأربعين، تقف دونما كلال مثلما وقفت علي مسرحها طويلاً، بالفستان نفسه، بالخاتم، بالنظرة، بهزة اليد عندما يعلو النغم، وبارتعاشة المنديل، واثقة من قدومنا وقد رقق الزمن أرواحنا، وأخذنا نشفُّ مع التقدم في السن، نلتفت ونتذكر. لقاؤنا مع السيدة في عطفة العمر لقاء أطياف هي أقرب إلي الحياة ولوعتها، هي، علي نحو ما، خلاصتها، مثلما كانت ترنيمة السيدة خلاصة عاطفة عاشت طويلاً، عبرت، مثل فرس مجنحة، من عصر لعصر لتستقر بين يديها، وها هي تعود لتحليقها من جديد.
مثل صيحة قطار، أليفة، عميقة، مترقّبة، وهي، إلي ذلك،موحشة، أخّاذة، مفاجئة، هكذا تبدو علاقتي بها اليوم، وليس غريباً أن يأخذنا تولّهنا بالسيدة إلي القطار، ولو علي سبيل التشبيه، فالقطار، قطار المعقل بالذات، جنّة من جنان العمر النادرة، حلم يبدأ بمحطة وينتهي بأخري، حياة بهيجة حافلة، أناس وأصوات وروائح ورغبات وأوقات، لكل وقت طعمٌ وشكلٌ ولون، حكاية الفتي وقد قاسمك غرفة الكوشيت في إحدي سفراتك الليلية لبغداد، زادت من حيرتك أمام عشق الناس لأم كلثوم، تولّههم بها، ووسعّت مالا تفهمه من أمر العلاقة، كان الفتي طالباً في الإعدادية، في مرحلتها الأخيرة أو ما قبلها، علي غير أوصاف أهل البصرة، حلو الملامح، طويل الشعر، برونزيه، رياضي القوام، أخذتنا حكاياتنا لعبدالحليم، فاتننا العليل، وأخذته روحه لأم كلثوم، حدّثنا عن تسابقه في عشقها مع مدرّس الرياضيات، حتي صارت هي امتحانه بدلاً من الأرقام والقوانين والمعادلات، يسأله المدرّس عن أغنية بعينها، وعلي الطالب أن يجيب ذاكراً كاتب كلماتها وملحنها، أحياناً يقلب المدرّس اللعبة، يذكر اسمي الشاعر والملحن ويترك لتلميذه أن يصطاد الأغنية، هكذا، وفي الحالين، دخل رامي، وناجي، والقصبجي، وزكريا أحمد، والشيخ أبوالعلا، والسنباطي، وعبدالوهاب، والموجي، وبليغ، وبيرم، وقباني، ومرسي جميل عزيز، وشوقي وسواهم درس الرياضيات، يا إلهي إنهم يدخلون درساً بعد آخر، بهيئاتهم الغريبة، يملأون الصف، وقد طردوا فيثاغورس وأغلقوا من خلفه الباب..الأرقام الوحيدة التي تلعلع بين الطالب ومدرّسه هي 4 مايو 1904، تاريخ ميلاد السيدة، كانا معاً يقفزان برشاقة فوق تاريخ وفاتها، يُغمضان أعينهما وهُبْا يقفزان، كأنهما يردمان هوة ميتتها، يرميان لها، في كل درس، حبل الحياة.
كان الفتي أحد أصغر المفتونين سناً الذين صادفتهم في حياتي، وكان القطار يخبُّ، مع حديثه، في الظلام، منفصلاً عن رمال العراق، صاعداً لدقهلية مصر، لمركز السنبلاوين يا لغرابة الأسماء مع الفجر يُبطئ قليلاً، تخفُّ اندفاعته، وتنقطع أصوات ركّابه، ربما نكون قد أسلمنا أنفسنا لملائكة النوم، لكننا نعرف أننا وصلنا قرية اسمها طماي الزهايرة، وفي نومنا ننتظر أن يتوقف القطار وتنقطع حركته أمام بيت متواضع فيها. هنا إبراهيم البلتاجي، إمام مسجد القرية ومؤذنه، وهنا زوجته فاطمة، فاطمة المليجي، التي ستهب العالم بذرة حشاشتها: أم كلثوم.
أم كلثوم لغزاً
حتي ما قبل دخولك الأربعين، بسنوات قليلة ربما، كانت أم كلثوم لغزاً، محض لغز يحوم من حولك، مثل طائر غريب يحطّ فجأة، وفجأة يطير، ضبابه موسيقي غير مفهومة تهوّم، حتي لتبدو أقصي من قدرتك وأنت الفتي الذي عرف الحزن علي قبول الصوت، قبولاً خالصاً، والذوبان فيه، وأعلي من إرادتك علي رفضه، رفضاً تاماً، ونشّ الطائر الغريب، والخلاص منه.
لم تكن قد استجبت تماماً لمواقيت النغم التي سنّتها إذاعة بغداد، فغدت عُرفاً وطنياً قائماً حتي اليوم: فيروز لساعات الصباح الأولي، وأم كلثوم للواحدة بعد الظهر وأقصي السهرة، سيدتان تتقاسمان أيامنا، لكنك، وبدافع من انكسارات عاطفة صبيانية وجدت نفسك علي جرف عبد الحليم، صحبة مجموعة مولهة من الأصدقاء، تأخذكم لوعة أصابعه وهي تموج مع النغم، كنت تتقلّب من حال لحال، مشدوداً للوعة صوته، يغطيك رمل أحزانه، وتغسلك أمواج سعاداته الخاطفة.
كان سحر أم كلثوم حاضراً يناوشنا من بعيد، أغاني الطقوس والمناسبات جعلت منها، لا من أغنياتها فحسب، أيقونة البهجة وبوابتها، ولم يكن الأمر موقوفاً علي ارتباطنا بها أو بسواها، كان للطقس والمناسبة حكمهما الذي يلمُّنا جميعاً، علي اختلاف من نهوي: عبد الحليم أو فيروز أو فريد الأطرش، أو عبد الوهاب بالنسبة لآبائنا، فلا يحلُّ العيد ولا يكتمل بما يُعلنه جامع (الأبلّة)، شئ ما يظل ناقصاً، غير رائحة الكليجة، والملابس الجديدة، والألعاب التي تُنصب في السوق. أم كلثوم، وحدها، توقد نجمة العيد وتؤكد هلاله بندائها (يا ليلة العيد)، طقطوقة رامي والسنباطي، ببساطة كلماتها وسلاسة لحنها ورشاقته، السنباطي سيكون حاضراً كذلك في فواتح عيد الأضحي، صحبة أحمد شوقي هذه المرّة، لحظة تغني أم كلثوم (إلي عرفات الله).
إذاعة بغداد
لم يكن الصباح موهوباً كله لفيروز، كانت لأم كلثوم حصة فيه، ذلك ما سنّته إذاعة بغداد وهي تحيي مستمعيها عبر ترنيم السيدة (يا صباح الخير يا اللي معانا)، الأغنية التي انسابت منذ عام 1948 من فيلم (فاطمة)، لتسبح طويلاً في نهر أيامنا، ممهورة بكلمات بيرم التونسي وألحان القصبجي، سأسمعها بواكير الصباح، مع النصف الأول من الثمانينيات، عقد القسوة التي نحتتها حرب طويلة قاهرة، تبثها اذاعات التوجيه السياسي في معسكرات التدريب، وفي الوحدات العسكرية أني انتقلت، جرياً علي عادة اذاعة بغداد، بعد أناشيد سيد النقشبندي ومدائحه، بصوته الفخم الذي يجلجل بين المنام والصحو، يأخذني دفق نوره لوراء ما يُنشد، حيث سماء اللوعة بلا حدود، وستعني لي أغنية السيدة وقتها أكثر مما تعنيه أغنية لفتي، سيتكسر زجاج في صدر الفتي الجندي كل صباح، مع سذاجة الدعوة التي تعلنها الأغنية، وهو يعرف أن لا كروان ينتظرهُ في قسوة أيام العسكر، ولا نسيم.
كانت أم كلثوم، حتي قبل أن تغفو في الثالث من فبراير عام خمسة وسبعين، اثنين رحيلها، ظلاً يطوّف حول حياتنا المنزلية، يدخلها من دون دعوة ويكون فيها، يدور صوتها معنا حيث ندور في المعقل، في المنزل والشارع والسوق، يأتينا من راديو الجيران في كل وقت، وهم يعبرون بمؤشره من إذاعة لأخري، من صورتها الفوتوغرافية الكبيرة العالية في غرفة الضيوف، من تفجّعهم بموتها، المرّة الأولي التي أكتشفت فيها أن لربطة العنق صلة بالموت كانت مع رحيل أم كلثوم، فقد كان لنا جار يميزه عن جيران المعقل تعلّقه بأم كلثوم وأناقته المفرطة، بنطلوناته الشارلستون المكويّة بإتقان، قمصانه السادة أو المزهرة بقماشها الخفيف، وسِتَرَه المقلّمة بياقاتها العريضة وأزرارها الكبيرة اللامعة، وأربطة العنق التي لا عدّ لها، مع رحيل أم كلثوم لم يعد يرتدي منها، لسنوات طويلة، سوي الربطة السوداء، ربطة تعرض مرّة وتستدق أخري، تحنو في عقدة فرنسية طيعة أو تشتد، لكنها تظل سوداء في كل وقت، عندما أستعيد الرجل اليوم، محتفياً بحضوره بين عشاق السيدة، أتذكر أشياء كثيرة ذابت أو تغيرت، لكنني لا أتذكره بربطة عنق ملوّنة.
مع أم كلثوم يلتقي التاريخان العام والخاص، يتضافران ويتواشجان، يعيدان بلقائهما سرد وقائعنا، الشخصية منها والعامة، يكتبانها علي نحو جديد بعد أن يدور الزمان دورته، وتغرق في نهره أحلام وتفسيرات ودعاوي وأفكار، يظل الصوت وحده مئذنة من ذهب.
أيقونة الحب الأول
إن أكثر ما رسّخ أغنيات جيل العمالقة في حياتنا، وأغاني أم كلثوم في القلب منها، هو قدرتها علي تدوين لحظاتنا، تثبيتها علي نحو ما في الروح والذاكرة. تعيش الأغنيات، بذلك، ترجمتها الفردية في الوقت الذي تتلبس عواطفنا، لتصبح، وهي الأغنيات التي تعيش في الشعور العام، تضئ وتنبض، مفاتيح تواريخ شخصية وعلامات، لن تكون أغنية (الأطلال)، بهذا التصوّر، إلا إيقونة حبي الأول، حب الصبا الأقرب إلي التولّه والقداسة والجنون، وقد أهدتني إحدي صديقات المعقل شريط الأغنية، فوجدت نفسي أعيش ألماً ثلاثي العوالم: أُرفع عالياً بدفق أنغام السنباطي التي أتصوّرها تنبثق من أعلي جبل، تلفُّ وتدور قبل أن تصل إليّ، تهب من حولي وتأخذني فأتنفسها وأعيش دقائق أنغامها، وتسليم قصيدة ابراهيم ناجي بقدريتها الجارحة، وجبروت صوت أم كلثوم، تأخذني، أنا الصبي غضّ العود، وتلقي بي علي ضفة إلي صلابة الصخر أقرب، إلي عتق لونه وهول ما يكتم من أسرار، تغيّبني موجة وتعيدني أخري، ووجه فاتنتي، صاحبة الشريط، يتجلي مع كل موجة وكل نغم.
إنها واحدة من ثمار ستينيات أم كلثوم، وقد دخلت عصرها الذهبي بكامل قدرتها وجلال هيبتها، العقد الذي عاشت الأغنية العربية خلاله واحداً من أكثر عقودها عبقرية ودلالاً.
في لقاء التاريخين، العام والخاص، وتواشجهما، يحدث أن تنقلب المعاني وتتغيّر الدلالات، مثلما غدت (أنت عمري) قصيدة أحمد شفيق كامل التي دسّها محمد عبد الوهاب في درج مكتبه خمس سنوات تقريباً، ولم تخرج إلا برغبة من جمال عبد الناصرنفسه بالنسبة لي، اغنية حرب بامتياز، لا بما تعنيه أغنية الحرب من ذهاب إلي الحماسة والبطولة والفداء، إلي فداحة العمي وهو يسبق الموت وقسوته، بل بما عشته معها من ليال في سواتر شرق البصرة، وقد قاسمني الملجأ أحد عشاق أم كلثوم وهم كثر في كل حضيرة وفصيل وسرية وفوج يصادفك جيش من عشاق السيدة، يجعل سواتر الحرب أخفَّ قسوة ولياليها أقلَّ وحشة وظلاماً كان في الملجأ أكثر من راديو ترانزستور تتنقل مؤشراتها من البي بي سي إلي مونتي كارلو، بحثاً عن أمل بارق عسير، لكنها تصمت، بعد وقت ليس بالبعيد، ويظل صوت أم كلثوم يضئ الملجأ بحثاً عن عينين تعيداننا، نحن فتيان الحرب، لأحلامنا، تعلماننا الندم علي ماض لم نعشه.
هل كنا نصالح، مع أم كلثوم، أيامنا، نسامح زماننا، وننسي الشجن؟
إنني أستعيد بذار أم كلثوم في حياتي، أرصد ملامح فتنتها، أُدخل التاريخ الشخصي بالتاريخ العام، أجمعهما في لحظة، وأعرف أننا حينما نكتب عن عشق السيدة، فإننا نناور لكتابة حياتنا، نحتال لتدوين بعض من أوجاعنا، والتقاط تأريخ أرواحنا الذي تصعب استعادته بغير طاقة الفن وقدرته علي ملاعبة الزمان..
مع أم كلثوم اكتشفت أن الأمر لا يقف عند حدود أن أحب أو لا أحب.. إنه فصل من فصول حياتنا خارج مسار العاطفة، ومواقيت القبول والرفض، وأبعد منهما..
للعاطفة مع أم كلثوم معني يتشكل في المنطقة الشفيفة بين السعادة والحزن، بين الفرح المورق بلقاء الحبيب ولوعة غيابه، يسحب وجهاً ملتبساً للعلاقة بين التسليم لعبودية المحبوب ورفضه والاحتجاج عليه، عاطفة تهبّ عاتية من كتاب الصحراء، من أقصي فصوله لوعة وعذاباً.
ربما يكون من الأجدي السؤال عن الكيفية التي عشت صوتها، تنفسته، وحييت فيه، لتكون الكتابة عن حياتنا الشخصية بتفاصيلها الخفيّة، عن حبيباتنا وأهلنا وأصدقائنا، عن قسوة سنواتنا، في نص واحد مناسبة تماماً، فنحن، عبر صوت أم كلثوم، ننادي الزمان، نفتح له باباً ونرسم حلماً لم نعش لذاذاته، نُنصت لها، من جديد، وفي دواخلنا ينبض سؤال عن العمر الذي تغنيه، تهتف من أجله، تملؤه كأساً بعد كأس، تهديه لمحبوب، أيُّ عمر، ذاك الذي يبرق في صوتها، وقد التفّت علي رحيلها عقود طويلة وعقود؟..
لكن علاقتي بها تظل، علي الرغم من كل ذلك، نوعاً من لغز، لغز مضبب يحوم من حولي..
ربما كان مزاج أبي، لا صبابته، هو ما أورثني، بعد عقود، عشق السيدة.
أم كلثوم وأبي
لم يكن أبي يعشق أم كلثوم، ذلك ما ينبغي أن أتأمله، عامل الميناء كان مثل عمّال الكون، لا يختلف عنهم كثيراً، لا بسحنته، ولا ببدلته الزرقاء، ولا برائحته عندما يعود من العمل، ولا بخوفه الموصول، خوف غريب وغير مفهوم بالنسبة لي، رغم التعب الذي يهدُّ بدنه يوماً بعد يوم، يسكر أحياناً، يصلّي ويصوم أحياناً، لكنه لم يكن يعشق أم كلثوم، لم يكن هواه، علي كل حال، مع الأغنية.
المرّة الأولي التي دخل جهاز التسجيل فيها بيتنا كانت جرّاء حادثة اصطدام، كان أبي، في أواسط عمره تقريباً، يسوق الدرّاجة النارية وله معها شأن، من ال MZ، الخنزيرة وأختها، إلي ال Scooter، الفزبة منفوخة البطن، إلي ال Traidnt، درّاجة شرطة المرور المخيفة العالية باسمها الرنّان مثل أسماء الطائرات، جميعها بالطبع مُلك شركة الموانئ العراقية، ولم يكن قد ركبها إلا بعدما أصبح ملاحظاً في قسم الماء والكهرباء أوائل السبعينيات، مترقياً، بعد عقود من الجهد والخوف، من عامل تأسيسات مائية، عمل الملاحظ يتسع، وزمنه يبدو أكثر سرعة وآلية من زمن درّاجة العمّال الهوائية. الترايدنت هي التي أدخلت جهاز التسجيل إلي بيتنا، فقد حدث أن صدمتها سيارة مرسيدس، سوداء أو رصاصية، برقم كويتي، وطرحت أبي علي الإسفلت، كسرت ساقه اليسري، وزلزلت عموده الفقري، زارنا صاحب السيارة في عصر صيف، بعد خروج أبي من المستشفي، وكان إيرانيا أبيض الوجه، هكذا أتذكره أو أتصوّره، أغمض عينيّ فأستعيده وأراه، شعره أسود، سرح، كأنه أحد أعضاء فرقة الإنشاد الوطنية، كما وصفته في (مدينة الصور) بالتمام والكمال، وقد تلاعبتُ بالمناسبة التي قادته لبيتنا. حمل معه، علي سبيل الترضية، هدايا عديدة، لم يعلق منها في فمي غير طعم شرائح قمر الدين، وقد رطبتها حرارة صيف البصرة، ولم يتبق منها في ذاكرتي غير جهاز تسجيل بسماعتين كبيرتين، كانت عزيزة جلال، وليس أم كلثوم أوعبد الحليم، تغني داخله ليالي الأنس لأسمهان، كأنها تناديها.
كان مزاج أبي حاداً، مزاج رجل أميل إلي التوحد والعنف، شكّاك، يحدّث نفسه بصوت مسموع، كلماته غير مفهومة، في كل وقت، سواء كان وحده أو وسط جيش من الناس، تلك علامته الفارقة، غير النظارة ذات الإطار البلاستك الأسود الثخين وشاربه المحدّد مثل خيط صوف، وكان يطقطق بأسنانه حينما ينام، أسمعه كأننا مازلنا ننام علي سطح بيتنا بترابه المرشوش، كما لو كان يقرض حبلاً طويلاً لا ينتهي. حينما تضيق بوجهه الدنيا، وهي غالباً ما تضيق، يسجن نفسه في الظلمة، كأنه يحاسبها ليلاً علي ما جري في النهار، وحيداً يجلس في ظلمة قاهرة، قبل أن يغيب عن عينيه النور شيئاً فشيئاً وقد فتك به مرض السكري، ويعيش ظلمة ممتدة ليل نهار، ولا يعود يراني، في زياراتي المتباعدة لبيتنا القديم، إلا براحة يده التي رقّ جلدها والتمع ولان، ولا يعرف ولديّ، وقد كبرا قليلاً، إلا من صوتيهما.
أنا الآن في مثل العمر الذي كان أبي يسجن نفسه فيه، لم أركب درّاجة نارية من أي نوع، ولم أجلس في الظلمة وحدي، لكن الصوت المجلجل أخذني في عذاباته سنة بعد أخري، حتي وجدتني غارقاً فيه. أفكّر في مسألة أم كلثوم التي أعشق، وأراها عراقية الطابع، بصريّة الروح والهوي، زمانها زمان الحلم في البصرة، في شارع الكورنيش، في شارع الوطن، في البرجسية، في حديقة الأمة أو حديقة الأندلس، في ساعات اللوعة والمرارة والعذاب، كم جمّعت من أناس وكم فرّقت، في أوقات السُكر المتباعدة وانتشاءاتها الخفيفة العابرة، في لمّة الصداقات التي بددتها الحروب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.