افتتاح مدرسة نشيل الابتدائية الجديدة ضمن مبادرة «حياة كريمة» بالغربية    حزب العدل ينظم تدريبًا موسعًا لمسئولي العمل الميداني والجماهيري استعدادً لانتخابات النواب    البابا تواضروس الثاني يلتقي رهبان دير القديس الأنبا هرمينا بالبداري    مناقشة واستعراض آليات دعم الصناعات الموجودة داخل قرى الدقهلية    إعلام إسرائيلى: تفجير عبوة ناسفة فى قوة تابعة للجيش بغزة    رئيس الحكومة المغربية: مستعدون للتجاوب مع المطالب الاجتماعية والحوار    انضمام ثلاثي بيراميدز إلى منتخبات بلادهم لخوض تصفيات كأس العالم 2026    مصر في المجموعة الأولى ببطولة العالم لكرة اليد تحت 17 عامًا    سقوط أمطار على هذه المناطق.. الأرصاد تحذر من طقس الجمعة    توضيح مهم من وزارة التربية والتعليم بشأن امتحان اللغة الإنجليزية للثانوية العامة    ضبط طن مخللات غير صالحة للاستخدام الآدمي بالقناطر الخيرية    «أرفض بشكل قاطع».. حنان مطاوع تبدي استيائها بسبب فيديو لوالدها الراحل    هل البلاء موكّل بالمنطق؟.. خالد الجندي يوضّح ويكشف المفهوم الصحيح    رئيس الوزراء يوافق على رعاية النسخة التاسعة من مسابقة بورسعيد الدولية لحفظ القرآن الكريم والابتهال الديني    صرف أدوية مرضى السكري لشهرين كاملين بمنظومة الرعاية الصحية بالأقصر    تركيا.. زلزال بقوة 5 درجات يضرب بحر مرمرة    البلدوزر بخير.. أرقام عمرو زكى بعد شائعة تدهور حالته الصحية    النائب ياسر الهضيبي يتقدم باستقالته من مجلس الشيوخ    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    الكرملين: الاتصالات بين الإدارتين الروسية والأمريكية تتم عبر "قنوات عمل"    نجل غادة عادل يكشف كواليس علاقة والدته بوالده    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس لدعم حملة ترشح خالد العنانى فى اليونيسكو    مخاوف أمريكية من استغلال ترامب "الغلق" فى خفض القوى العاملة الفيدرالية    لأول مرة.. الرقابة المالية تصدر ضوابط إنشاء المنصات الرقمية للاستثمار في وثائق صناديق الملكية الخاصة    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2أكتوبر 2025.. موعد أذان العصر وجميع الفروض    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    شيخ الأزهر يستقبل «محاربة السرطان والإعاقة» الطالبة آية مهني الأولى على الإعدادية مكفوفين بسوهاج ويكرمها    لهجومه على مصر بمجلس الأمن، خبير مياه يلقن وزير خارجية إثيوبيا درسًا قاسيًا ويكشف كذبه    برناردو سيلفا: من المحبط أن نخرج من ملعب موناكو بنقطة واحدة فقط    المصري يختتم استعداداته لمواجهة البنك الأهلي والكوكي يقود من المدرجات    «غرقان في أحلامه» احذر هذه الصفات قبل الزواج من برج الحوت    بتكريم رواد الفن.. مهرجان القاهرة للعرائس يفتتح دورته الجديدة (صور)    بين شوارع المدن المغربية وهاشتاجات التواصل.. جيل زد يرفع صوته: الصحة والتعليم قبل المونديال    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    رئيس منطقة الإسماعيلية الأزهرية يتابع فعاليات مسابقة السنة النبوية (صور)    قطر تستنكر فشل مجلس الأمن فى اعتماد قرار بشأن المعاناة الإنسانية فى غزة    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    السيولة المحلية بالقطاع المصرفي ترتفع إلى 13.4 تريليون جنيه بنهاية أغسطس    14 مخالفة مرورية لا يجوز التصالح فيها.. عقوبات رادعة لحماية الأرواح وضبط الشارع المصري    وزير الري يكشف تداعيات واستعدادات مواجهة فيضان النيل    الكشف على 103 حالة من كبار السن وصرف العلاج بالمجان ضمن مبادرة "لمسة وفاء"    حمادة عبد البارى يعود لمنصب رئاسة الجهاز الإدارى لفريق يد الزمالك    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    تفاصيل انطلاق الدورة ال7 من معرض "تراثنا" بمشاركة أكثر من 1000 عارض    السفير التشيكي يزور دير المحرق بالقوصية ضمن جولته بمحافظة أسيوط    ياسين منصور وعبدالحفيظ ونجل العامري وجوه جديدة.. الخطيب يكشف عن قائمته في انتخابات الأهلي    تحذيرات مهمة من هيئة الدواء: 10 أدوية ومستلزمات مغشوشة (تعرف عليها)    القائم بأعمال وزير البيئة في جولة مفاجئة لمنظومة جمع قش الأرز بالدقهلية والقليوبية    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    جامعة بنها تطلق قافلة طبية لرعاية كبار السن بشبرا الخيمة    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشق السيدة
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 05 - 2012


يا فاتناً لولاهُ ما هزّني
وجدٌ ولا طعمُ الهوي طابَ لي
هذا فؤادي فامتلك أمره
واظلمه إن أحببتَ أو فاعدل
ماذا يعني أن تعشق السيدة، أم كلثوم، بعد الأربعين من عمرك، تنصت من كلِّ قلبك، تهيم بآهاتها، وتلينُ أحجارُ روحك في البحّة الفادحة؟
الترنيمة، وحدها، تلمسُ شيئاً في قاع نفسك هوي واستقر، ونبرة الألم، تقدح حزناً لم تكن قد تصورته ممكناً ذات يوم.
ها أنت ذا مأخوذ بها، واله، وحزين، تشفّ، مع الأربعين، وتعرف أن كل عاطفة تؤول إلي شجن.
تفكّر، أحياناً، أن علاقتك المستجدة بها، ولما تكمل العقد بعد، عتبة لفراق ما، غربة موعودة، غياب، بذرة موت سقطت في دواخلك، نبتت في الأرض المهجورة علي مهل وضربت جذورها عاماً بعد عام، بغير أن تُحسَّ، وها هي فتّقت تربة الجسد، وقد جفّ قليلاً، راحت غضارته، حتي استقامت شجرة، أغصانها الخضراء العفيّة تشقُّ الجلد، تمتد، أوراقها تتمايل مع الصوت الساحر العجيب كلما اشتدّ، وارتفع، وصاح، كلما طاب، وذاب، وتبغدد.
أحياناً تقول: هي كلُّ ما تبقي من ذكري زمن لم أعش من فتنته الكثير.
حنينٌ، أن تعشق أم كلثوم، بعد كلِّ هذا العمر، اشتياقٌ، وحشةٌ، وعد مكسور، رسالة، نفحة عطر ذاب وتبخّر، لذةٌ مهدورةٌ ليس لاستعادتها من سبيل.
أن تنتبه، بعد عقود، لعاطفة تنبض تحت جلدك، وتري أنك مأخوذ بما لم تعشه معها من أعوام، ذلك يعني أنك تتذكر، تحيا صوتاً موهوباً لزمن ليس هو الماضي بالضرورة، ليس هو الراهن العصي، إنما هو زمن الحكاية حينما تُصبح الحكاية ذكري، وتصبح الذكري عزاءً، أو ما يشبه العزاء، زمن يستعاد عبر الصوت، وبالصوت يكتب حكايته مثلما حكيت من قبل، بما في طياتها من مواجع وأحزان.
لا أكتب، بذلك، سيرة عمر مع أم كلثوم، لا أفتح باباً لأعود لفصل أول بعيد، إنما أمنح الصوت، بقماشته الساحرة، حق أن يترنم فيما تبدد من أيامنا، ما تسرّب وتبخّر وذاب، أيام لم تكن أم كلثوم سوي لغز في كل ذكري له برعم وغصن، هكذا هو صوت السيدة، وهكذا هي حكاية عشقنا، حقيقية كانت أم متخيلة، وقد تفتحت مثل زهرة.
بعد الأربعين
تنتظرنا السيدة هناك، في عطفة خفيفة الضوء، بعد الأربعين، تقف دونما كلال مثلما وقفت علي مسرحها طويلاً، بالفستان نفسه، بالخاتم، بالنظرة، بهزة اليد عندما يعلو النغم، وبارتعاشة المنديل، واثقة من قدومنا وقد رقق الزمن أرواحنا، وأخذنا نشفُّ مع التقدم في السن، نلتفت ونتذكر. لقاؤنا مع السيدة في عطفة العمر لقاء أطياف هي أقرب إلي الحياة ولوعتها، هي، علي نحو ما، خلاصتها، مثلما كانت ترنيمة السيدة خلاصة عاطفة عاشت طويلاً، عبرت، مثل فرس مجنحة، من عصر لعصر لتستقر بين يديها، وها هي تعود لتحليقها من جديد.
مثل صيحة قطار، أليفة، عميقة، مترقّبة، وهي، إلي ذلك،موحشة، أخّاذة، مفاجئة، هكذا تبدو علاقتي بها اليوم، وليس غريباً أن يأخذنا تولّهنا بالسيدة إلي القطار، ولو علي سبيل التشبيه، فالقطار، قطار المعقل بالذات، جنّة من جنان العمر النادرة، حلم يبدأ بمحطة وينتهي بأخري، حياة بهيجة حافلة، أناس وأصوات وروائح ورغبات وأوقات، لكل وقت طعمٌ وشكلٌ ولون، حكاية الفتي وقد قاسمك غرفة الكوشيت في إحدي سفراتك الليلية لبغداد، زادت من حيرتك أمام عشق الناس لأم كلثوم، تولّههم بها، ووسعّت مالا تفهمه من أمر العلاقة، كان الفتي طالباً في الإعدادية، في مرحلتها الأخيرة أو ما قبلها، علي غير أوصاف أهل البصرة، حلو الملامح، طويل الشعر، برونزيه، رياضي القوام، أخذتنا حكاياتنا لعبدالحليم، فاتننا العليل، وأخذته روحه لأم كلثوم، حدّثنا عن تسابقه في عشقها مع مدرّس الرياضيات، حتي صارت هي امتحانه بدلاً من الأرقام والقوانين والمعادلات، يسأله المدرّس عن أغنية بعينها، وعلي الطالب أن يجيب ذاكراً كاتب كلماتها وملحنها، أحياناً يقلب المدرّس اللعبة، يذكر اسمي الشاعر والملحن ويترك لتلميذه أن يصطاد الأغنية، هكذا، وفي الحالين، دخل رامي، وناجي، والقصبجي، وزكريا أحمد، والشيخ أبوالعلا، والسنباطي، وعبدالوهاب، والموجي، وبليغ، وبيرم، وقباني، ومرسي جميل عزيز، وشوقي وسواهم درس الرياضيات، يا إلهي إنهم يدخلون درساً بعد آخر، بهيئاتهم الغريبة، يملأون الصف، وقد طردوا فيثاغورس وأغلقوا من خلفه الباب..الأرقام الوحيدة التي تلعلع بين الطالب ومدرّسه هي 4 مايو 1904، تاريخ ميلاد السيدة، كانا معاً يقفزان برشاقة فوق تاريخ وفاتها، يُغمضان أعينهما وهُبْا يقفزان، كأنهما يردمان هوة ميتتها، يرميان لها، في كل درس، حبل الحياة.
كان الفتي أحد أصغر المفتونين سناً الذين صادفتهم في حياتي، وكان القطار يخبُّ، مع حديثه، في الظلام، منفصلاً عن رمال العراق، صاعداً لدقهلية مصر، لمركز السنبلاوين يا لغرابة الأسماء مع الفجر يُبطئ قليلاً، تخفُّ اندفاعته، وتنقطع أصوات ركّابه، ربما نكون قد أسلمنا أنفسنا لملائكة النوم، لكننا نعرف أننا وصلنا قرية اسمها طماي الزهايرة، وفي نومنا ننتظر أن يتوقف القطار وتنقطع حركته أمام بيت متواضع فيها. هنا إبراهيم البلتاجي، إمام مسجد القرية ومؤذنه، وهنا زوجته فاطمة، فاطمة المليجي، التي ستهب العالم بذرة حشاشتها: أم كلثوم.
أم كلثوم لغزاً
حتي ما قبل دخولك الأربعين، بسنوات قليلة ربما، كانت أم كلثوم لغزاً، محض لغز يحوم من حولك، مثل طائر غريب يحطّ فجأة، وفجأة يطير، ضبابه موسيقي غير مفهومة تهوّم، حتي لتبدو أقصي من قدرتك وأنت الفتي الذي عرف الحزن علي قبول الصوت، قبولاً خالصاً، والذوبان فيه، وأعلي من إرادتك علي رفضه، رفضاً تاماً، ونشّ الطائر الغريب، والخلاص منه.
لم تكن قد استجبت تماماً لمواقيت النغم التي سنّتها إذاعة بغداد، فغدت عُرفاً وطنياً قائماً حتي اليوم: فيروز لساعات الصباح الأولي، وأم كلثوم للواحدة بعد الظهر وأقصي السهرة، سيدتان تتقاسمان أيامنا، لكنك، وبدافع من انكسارات عاطفة صبيانية وجدت نفسك علي جرف عبد الحليم، صحبة مجموعة مولهة من الأصدقاء، تأخذكم لوعة أصابعه وهي تموج مع النغم، كنت تتقلّب من حال لحال، مشدوداً للوعة صوته، يغطيك رمل أحزانه، وتغسلك أمواج سعاداته الخاطفة.
كان سحر أم كلثوم حاضراً يناوشنا من بعيد، أغاني الطقوس والمناسبات جعلت منها، لا من أغنياتها فحسب، أيقونة البهجة وبوابتها، ولم يكن الأمر موقوفاً علي ارتباطنا بها أو بسواها، كان للطقس والمناسبة حكمهما الذي يلمُّنا جميعاً، علي اختلاف من نهوي: عبد الحليم أو فيروز أو فريد الأطرش، أو عبد الوهاب بالنسبة لآبائنا، فلا يحلُّ العيد ولا يكتمل بما يُعلنه جامع (الأبلّة)، شئ ما يظل ناقصاً، غير رائحة الكليجة، والملابس الجديدة، والألعاب التي تُنصب في السوق. أم كلثوم، وحدها، توقد نجمة العيد وتؤكد هلاله بندائها (يا ليلة العيد)، طقطوقة رامي والسنباطي، ببساطة كلماتها وسلاسة لحنها ورشاقته، السنباطي سيكون حاضراً كذلك في فواتح عيد الأضحي، صحبة أحمد شوقي هذه المرّة، لحظة تغني أم كلثوم (إلي عرفات الله).
إذاعة بغداد
لم يكن الصباح موهوباً كله لفيروز، كانت لأم كلثوم حصة فيه، ذلك ما سنّته إذاعة بغداد وهي تحيي مستمعيها عبر ترنيم السيدة (يا صباح الخير يا اللي معانا)، الأغنية التي انسابت منذ عام 1948 من فيلم (فاطمة)، لتسبح طويلاً في نهر أيامنا، ممهورة بكلمات بيرم التونسي وألحان القصبجي، سأسمعها بواكير الصباح، مع النصف الأول من الثمانينيات، عقد القسوة التي نحتتها حرب طويلة قاهرة، تبثها اذاعات التوجيه السياسي في معسكرات التدريب، وفي الوحدات العسكرية أني انتقلت، جرياً علي عادة اذاعة بغداد، بعد أناشيد سيد النقشبندي ومدائحه، بصوته الفخم الذي يجلجل بين المنام والصحو، يأخذني دفق نوره لوراء ما يُنشد، حيث سماء اللوعة بلا حدود، وستعني لي أغنية السيدة وقتها أكثر مما تعنيه أغنية لفتي، سيتكسر زجاج في صدر الفتي الجندي كل صباح، مع سذاجة الدعوة التي تعلنها الأغنية، وهو يعرف أن لا كروان ينتظرهُ في قسوة أيام العسكر، ولا نسيم.
كانت أم كلثوم، حتي قبل أن تغفو في الثالث من فبراير عام خمسة وسبعين، اثنين رحيلها، ظلاً يطوّف حول حياتنا المنزلية، يدخلها من دون دعوة ويكون فيها، يدور صوتها معنا حيث ندور في المعقل، في المنزل والشارع والسوق، يأتينا من راديو الجيران في كل وقت، وهم يعبرون بمؤشره من إذاعة لأخري، من صورتها الفوتوغرافية الكبيرة العالية في غرفة الضيوف، من تفجّعهم بموتها، المرّة الأولي التي أكتشفت فيها أن لربطة العنق صلة بالموت كانت مع رحيل أم كلثوم، فقد كان لنا جار يميزه عن جيران المعقل تعلّقه بأم كلثوم وأناقته المفرطة، بنطلوناته الشارلستون المكويّة بإتقان، قمصانه السادة أو المزهرة بقماشها الخفيف، وسِتَرَه المقلّمة بياقاتها العريضة وأزرارها الكبيرة اللامعة، وأربطة العنق التي لا عدّ لها، مع رحيل أم كلثوم لم يعد يرتدي منها، لسنوات طويلة، سوي الربطة السوداء، ربطة تعرض مرّة وتستدق أخري، تحنو في عقدة فرنسية طيعة أو تشتد، لكنها تظل سوداء في كل وقت، عندما أستعيد الرجل اليوم، محتفياً بحضوره بين عشاق السيدة، أتذكر أشياء كثيرة ذابت أو تغيرت، لكنني لا أتذكره بربطة عنق ملوّنة.
مع أم كلثوم يلتقي التاريخان العام والخاص، يتضافران ويتواشجان، يعيدان بلقائهما سرد وقائعنا، الشخصية منها والعامة، يكتبانها علي نحو جديد بعد أن يدور الزمان دورته، وتغرق في نهره أحلام وتفسيرات ودعاوي وأفكار، يظل الصوت وحده مئذنة من ذهب.
أيقونة الحب الأول
إن أكثر ما رسّخ أغنيات جيل العمالقة في حياتنا، وأغاني أم كلثوم في القلب منها، هو قدرتها علي تدوين لحظاتنا، تثبيتها علي نحو ما في الروح والذاكرة. تعيش الأغنيات، بذلك، ترجمتها الفردية في الوقت الذي تتلبس عواطفنا، لتصبح، وهي الأغنيات التي تعيش في الشعور العام، تضئ وتنبض، مفاتيح تواريخ شخصية وعلامات، لن تكون أغنية (الأطلال)، بهذا التصوّر، إلا إيقونة حبي الأول، حب الصبا الأقرب إلي التولّه والقداسة والجنون، وقد أهدتني إحدي صديقات المعقل شريط الأغنية، فوجدت نفسي أعيش ألماً ثلاثي العوالم: أُرفع عالياً بدفق أنغام السنباطي التي أتصوّرها تنبثق من أعلي جبل، تلفُّ وتدور قبل أن تصل إليّ، تهب من حولي وتأخذني فأتنفسها وأعيش دقائق أنغامها، وتسليم قصيدة ابراهيم ناجي بقدريتها الجارحة، وجبروت صوت أم كلثوم، تأخذني، أنا الصبي غضّ العود، وتلقي بي علي ضفة إلي صلابة الصخر أقرب، إلي عتق لونه وهول ما يكتم من أسرار، تغيّبني موجة وتعيدني أخري، ووجه فاتنتي، صاحبة الشريط، يتجلي مع كل موجة وكل نغم.
إنها واحدة من ثمار ستينيات أم كلثوم، وقد دخلت عصرها الذهبي بكامل قدرتها وجلال هيبتها، العقد الذي عاشت الأغنية العربية خلاله واحداً من أكثر عقودها عبقرية ودلالاً.
في لقاء التاريخين، العام والخاص، وتواشجهما، يحدث أن تنقلب المعاني وتتغيّر الدلالات، مثلما غدت (أنت عمري) قصيدة أحمد شفيق كامل التي دسّها محمد عبد الوهاب في درج مكتبه خمس سنوات تقريباً، ولم تخرج إلا برغبة من جمال عبد الناصرنفسه بالنسبة لي، اغنية حرب بامتياز، لا بما تعنيه أغنية الحرب من ذهاب إلي الحماسة والبطولة والفداء، إلي فداحة العمي وهو يسبق الموت وقسوته، بل بما عشته معها من ليال في سواتر شرق البصرة، وقد قاسمني الملجأ أحد عشاق أم كلثوم وهم كثر في كل حضيرة وفصيل وسرية وفوج يصادفك جيش من عشاق السيدة، يجعل سواتر الحرب أخفَّ قسوة ولياليها أقلَّ وحشة وظلاماً كان في الملجأ أكثر من راديو ترانزستور تتنقل مؤشراتها من البي بي سي إلي مونتي كارلو، بحثاً عن أمل بارق عسير، لكنها تصمت، بعد وقت ليس بالبعيد، ويظل صوت أم كلثوم يضئ الملجأ بحثاً عن عينين تعيداننا، نحن فتيان الحرب، لأحلامنا، تعلماننا الندم علي ماض لم نعشه.
هل كنا نصالح، مع أم كلثوم، أيامنا، نسامح زماننا، وننسي الشجن؟
إنني أستعيد بذار أم كلثوم في حياتي، أرصد ملامح فتنتها، أُدخل التاريخ الشخصي بالتاريخ العام، أجمعهما في لحظة، وأعرف أننا حينما نكتب عن عشق السيدة، فإننا نناور لكتابة حياتنا، نحتال لتدوين بعض من أوجاعنا، والتقاط تأريخ أرواحنا الذي تصعب استعادته بغير طاقة الفن وقدرته علي ملاعبة الزمان..
مع أم كلثوم اكتشفت أن الأمر لا يقف عند حدود أن أحب أو لا أحب.. إنه فصل من فصول حياتنا خارج مسار العاطفة، ومواقيت القبول والرفض، وأبعد منهما..
للعاطفة مع أم كلثوم معني يتشكل في المنطقة الشفيفة بين السعادة والحزن، بين الفرح المورق بلقاء الحبيب ولوعة غيابه، يسحب وجهاً ملتبساً للعلاقة بين التسليم لعبودية المحبوب ورفضه والاحتجاج عليه، عاطفة تهبّ عاتية من كتاب الصحراء، من أقصي فصوله لوعة وعذاباً.
ربما يكون من الأجدي السؤال عن الكيفية التي عشت صوتها، تنفسته، وحييت فيه، لتكون الكتابة عن حياتنا الشخصية بتفاصيلها الخفيّة، عن حبيباتنا وأهلنا وأصدقائنا، عن قسوة سنواتنا، في نص واحد مناسبة تماماً، فنحن، عبر صوت أم كلثوم، ننادي الزمان، نفتح له باباً ونرسم حلماً لم نعش لذاذاته، نُنصت لها، من جديد، وفي دواخلنا ينبض سؤال عن العمر الذي تغنيه، تهتف من أجله، تملؤه كأساً بعد كأس، تهديه لمحبوب، أيُّ عمر، ذاك الذي يبرق في صوتها، وقد التفّت علي رحيلها عقود طويلة وعقود؟..
لكن علاقتي بها تظل، علي الرغم من كل ذلك، نوعاً من لغز، لغز مضبب يحوم من حولي..
ربما كان مزاج أبي، لا صبابته، هو ما أورثني، بعد عقود، عشق السيدة.
أم كلثوم وأبي
لم يكن أبي يعشق أم كلثوم، ذلك ما ينبغي أن أتأمله، عامل الميناء كان مثل عمّال الكون، لا يختلف عنهم كثيراً، لا بسحنته، ولا ببدلته الزرقاء، ولا برائحته عندما يعود من العمل، ولا بخوفه الموصول، خوف غريب وغير مفهوم بالنسبة لي، رغم التعب الذي يهدُّ بدنه يوماً بعد يوم، يسكر أحياناً، يصلّي ويصوم أحياناً، لكنه لم يكن يعشق أم كلثوم، لم يكن هواه، علي كل حال، مع الأغنية.
المرّة الأولي التي دخل جهاز التسجيل فيها بيتنا كانت جرّاء حادثة اصطدام، كان أبي، في أواسط عمره تقريباً، يسوق الدرّاجة النارية وله معها شأن، من ال MZ، الخنزيرة وأختها، إلي ال Scooter، الفزبة منفوخة البطن، إلي ال Traidnt، درّاجة شرطة المرور المخيفة العالية باسمها الرنّان مثل أسماء الطائرات، جميعها بالطبع مُلك شركة الموانئ العراقية، ولم يكن قد ركبها إلا بعدما أصبح ملاحظاً في قسم الماء والكهرباء أوائل السبعينيات، مترقياً، بعد عقود من الجهد والخوف، من عامل تأسيسات مائية، عمل الملاحظ يتسع، وزمنه يبدو أكثر سرعة وآلية من زمن درّاجة العمّال الهوائية. الترايدنت هي التي أدخلت جهاز التسجيل إلي بيتنا، فقد حدث أن صدمتها سيارة مرسيدس، سوداء أو رصاصية، برقم كويتي، وطرحت أبي علي الإسفلت، كسرت ساقه اليسري، وزلزلت عموده الفقري، زارنا صاحب السيارة في عصر صيف، بعد خروج أبي من المستشفي، وكان إيرانيا أبيض الوجه، هكذا أتذكره أو أتصوّره، أغمض عينيّ فأستعيده وأراه، شعره أسود، سرح، كأنه أحد أعضاء فرقة الإنشاد الوطنية، كما وصفته في (مدينة الصور) بالتمام والكمال، وقد تلاعبتُ بالمناسبة التي قادته لبيتنا. حمل معه، علي سبيل الترضية، هدايا عديدة، لم يعلق منها في فمي غير طعم شرائح قمر الدين، وقد رطبتها حرارة صيف البصرة، ولم يتبق منها في ذاكرتي غير جهاز تسجيل بسماعتين كبيرتين، كانت عزيزة جلال، وليس أم كلثوم أوعبد الحليم، تغني داخله ليالي الأنس لأسمهان، كأنها تناديها.
كان مزاج أبي حاداً، مزاج رجل أميل إلي التوحد والعنف، شكّاك، يحدّث نفسه بصوت مسموع، كلماته غير مفهومة، في كل وقت، سواء كان وحده أو وسط جيش من الناس، تلك علامته الفارقة، غير النظارة ذات الإطار البلاستك الأسود الثخين وشاربه المحدّد مثل خيط صوف، وكان يطقطق بأسنانه حينما ينام، أسمعه كأننا مازلنا ننام علي سطح بيتنا بترابه المرشوش، كما لو كان يقرض حبلاً طويلاً لا ينتهي. حينما تضيق بوجهه الدنيا، وهي غالباً ما تضيق، يسجن نفسه في الظلمة، كأنه يحاسبها ليلاً علي ما جري في النهار، وحيداً يجلس في ظلمة قاهرة، قبل أن يغيب عن عينيه النور شيئاً فشيئاً وقد فتك به مرض السكري، ويعيش ظلمة ممتدة ليل نهار، ولا يعود يراني، في زياراتي المتباعدة لبيتنا القديم، إلا براحة يده التي رقّ جلدها والتمع ولان، ولا يعرف ولديّ، وقد كبرا قليلاً، إلا من صوتيهما.
أنا الآن في مثل العمر الذي كان أبي يسجن نفسه فيه، لم أركب درّاجة نارية من أي نوع، ولم أجلس في الظلمة وحدي، لكن الصوت المجلجل أخذني في عذاباته سنة بعد أخري، حتي وجدتني غارقاً فيه. أفكّر في مسألة أم كلثوم التي أعشق، وأراها عراقية الطابع، بصريّة الروح والهوي، زمانها زمان الحلم في البصرة، في شارع الكورنيش، في شارع الوطن، في البرجسية، في حديقة الأمة أو حديقة الأندلس، في ساعات اللوعة والمرارة والعذاب، كم جمّعت من أناس وكم فرّقت، في أوقات السُكر المتباعدة وانتشاءاتها الخفيفة العابرة، في لمّة الصداقات التي بددتها الحروب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.