حين عاد الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول، كان الطفل كمال الطويل عمره عاماً واحداً، إذن، فهو ابن صحوة وطنية وفي ثورة غليان وحراك سياسي مصري واسع التأثير. إنه واحد ممن عاشوا وتربوا وتكونت موهبتهم الموسيقية بداية من مرحلة الهواية إلي قلب دائرة الاحتراف، متأسياً بموسيقي جيل من العمالقة: محمد عبدالوهاب، السنباطي، زكريا أحمد، القصبجي، محمود الشريف وأحمد صدقي. أولئك الذين تعلموا جميعهم من سلامة حجازي وسيد درويش، وآخر عمالقة التلحين الذين عشق موسيقاهم صاحب هذه السيرة، هو محمد فوزي، الذي عبر الطريق للموسيقي العربية الشرقية الحديثة، وجاء جيل كمال الطويل ليفتح الغناء الجديد، وكان فوزي هو الإشارة التي اتبعها جيل الطويل بأكمله، ولم تكن أم كلثوم، ولم يكن عبدالحليم حافظ أو محمد قنديل أو محمد عبدالمطلب هم كل من غنوا ألحان كمال الطويل، ولكن هناك حقيقة فنية تقول إن كمال الطويل هو الذي تبني موهبة عبدالحليم حافظ ونجاة الصغيرة، وشادية ومحمد رشدي ووردة وشهرزاد وسعاد مكاوي وهدي سلطان وعفاف راضي ومن المطربين المتميزين عبدالغني السيد، ثم تزعيم صوت اللبنانية الجديدة ماجدة الرومي، بل هو الذي اكتشف في صوت سندريلا الشاشة المصرية سعاد حسني جانبا جميلاً للأداء الغنائي الخفيف، ولحن كذلك للمطرب محمد منير، والرصينة ليلي مراد، وصاحب الصوت الذهبي كارم محمود، والصوت الأصيل سيد إسماعيل وهو الذي جعل أصوات الممثلين الفكاهيين: فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولي يؤديان ألحانًا وجدت إعجابا لدي المتلقين. مولده ولد كمال محمود زكي عبدالحميد الطويل في منطقة الروضة في الحادي عشر من نوفمبر عام 1922 لأب كان مهندساً مدنياً في مصلحة حكومية، وكان دائم التنقل بحكم وظيفته، لكن استقر به المقام في القاهرة بعد ان وصل عمر ابنه كمال إلي نحو سبع سنوات ليلحقه في مدرسة الأورمان الابتدائية بالقسم الداخلي نظراً لظروفه العائلية التي كان يمر بها الأب بعد ان توفيت زوجته أم كمال وانشغال الأب بعمله واصطدم الفتي بمجتمع جديد ومختلف كل الاختلاف عما كان يعيشه في الجو الأسري الآمن، واختلاف الأعمار والمستويات في القسم الداخلي، هز قلب الفتي هذا التغيير الاجتماعي الكبير، وقدر كمال أن يكون مهادنا مسالما لأنه كان واهن الجسد ولا يرغب في مشاكسات متبادلة بينه وبين زملاء الدراسة، ولهذا عكف في غرفته ليجد نفسه يدندن ببعض الأغاني وإذا بالآذان تصيخ السمع إلي هذا الصوت الرائق، والتفت حوله القلوب من خلال إظهار هذه الموهبة لديه فكان الغناء بمثابة مولد جديد له في هذه الحياة الجديدة عليه وبخاصة أن بعض ابناء سراة المجتمع المصري من كبار التجار وأصحاب المناصب العليا في المجتمع، وكان أول من غني له والتقط طريقته في الغناء هي أغاني كان يشدو بها محمد عبدالمطلب فأحسن تقليد صوت عبدالمطلب وكان مدرس الموسيقي في مدرسة الأورمان محمد صلاح الدين، الذي وقف في ردهة غرف الأولاد ليلتقط هذا الصوت الذي يجيد إحكام الغناء وضبط النغم وأدرك ان أذن هذا الولد أذن موسيقية، فدخل الغرفة وتعرف علي التلميذ المقلد لصوت عبدالمطلب ليضم كمال الطويل إلي فريق الأناشيد في مدرسة الأورمان، وحتي وصل هذا التلميذ إلي رئيس فريق الأناشيد مما اعتبره كمال نقلة نفسية جعلته يهتم بالموسيقي، وان الحب الذي زرعه مدرس الأناشيد في قلبه، انتزعه مدرس أناشيد آخر. الوحدة والموهبة الصدفة ساقت له فرصة معرفته بالفنان حلمي أمين ليتعرف عليه عن طريق أحد الموظفين في مصلحة الأشغال العمومية وكان هذا الموظف يعمل ليلاً مدرب رقص في أحد الملاهي الليلية، وحين تم اللقاء وتكرر وتعارفت موهبة كل منهما بالآخر، عرض عليه حلمي أمين ان يلتحق معه بمعهد الموسيقي بالإسكندرية كان يديره عازف القانون - عباس جمجوم- وكان الاشتراك في هذا المعهد ثلاثين قرشا في الشهر. والتحق كمال بالمعهد حتي يملأ وقت فراغه وكذلك لكي يدرس الموسيقي التي يعشقها.. وبالفعل يقترب كمال الطويل بنفس حذره، لأنه لم يكن يدرك الموهبة التي بداخله وأن هذه الموهبة هي التي ستقوده إلي عالم الموسيقي والألحان من أوسع أبوابه. وبدأت تتأصل الموهبة من أنغام وألحان الآخرين، وبعد فترة السماع والاستبيان النغمي والتذوق والتمتع ومعرفة الفوارق لم يعد كمال هاويا. بل انتقل إلي مرحلة تعلم العزف علي العود حتي أجاد العزف وصار بارعًا فيه. وحاول كثيرًا بينه وبين نفسه أن يغني ألحان العمالقة بينه وبين عوده، فإذا به يدرك مدي عشقه للطرب والألحان وللغناء الذي يخصه وحده. وفي هذه الفترة تعرف علي عازف الكمان الأشهر وقتذاك أنور منسي. والملحن رءوف ذهني وتعددت اللقاءات معه في مدينة الثغر. وتوطدت الصلة بينه وبين رءوف ذهني الذي كان يعمل مديرًا لمكتب محمد عبدالوهاب. وهكذا نري أن الصدفة قد لعبت دورا كبيرا في إظهار موهبة الطويل وتقديمه إلي الوسط الفني، فالصدفة هي التي قادته إلي القاهرة في زيارة خاطفة ليسأل عن صديقه الذي تعرف به في الإسكندرية أنور منسي، وبالصدفة هي التي جعلت أنور منسي يكون مشغولا في بروفة في معهد الموسيقي العربية فيذهب لملاقاته، وهنا وقعت حادثة مزعجة لكمال، فقد وصل كمال إلي معهد الموسيقي واستدل علي مكان الأستاذ أنور منسي فقيل له إنه في إحدي الحجرات فأسرع كمال الخطي إلي الغرفة التي اشاروا عليها، وفتح الباب بلا استئذان فإذا به وجها لوجه أمام عدد كبير من العازفين في بروفة لأغنية يجري بروفاتها ملحنها الكبير الأستاذ محمد عبدالوهاب، وما أن دخل كمال بهذه الطريقة المفاجئة، والتي جعلت كل الأنظار تتجه إليه، وإذا بنظرات محمد عبدالوهاب تصوب إلي كمال وكأنها طلقات رصاصة سريعة وجهت إلي صدره فانحني كمال خجلا، وتراجع وأغلق باب الغرفة ولا تزال نظرات عبدالوهاب تشيعه باللعنات، وحين تراجع تناهي إلي سمعه لحن «اتمخطري واتمايلي ياخيل» الذي كان يعده عبدالوهاب ضمن ألحان فيلم «غزل البنات» وجلس كمال مأخوذا بالنغم وأن لم تفارقه روح التعجب من الغضب الشديد والنظرات النارية لمحمد عبدالوهاب له، وحينما خرج أنور منسي من البروفة لاستقبال كمال وعقب علي معاملة محمد عبدالوهاب له بأنها كانت مبالغ فيها، وإذا بمنسي يضحك قائلا له: إن أي ملحن يكون منقولا بوضع لحن جديد والقيام بتحفيظ كل العازفين وضبط اللحن والنغم والطرب لابد أن يكون بكل عصبية وحساسية عبدالوهاب. هذا الدرس العملي الذي تعلمه كمال الطويل كان في مارس عام 1947 وأدرك بعد شرح منسي للموقف كم كان موقفه شيئا صعبا علي الموسيقار محمد عبدالوهاب لكن كمال لم يقتنع بكلام صديقه منسي واعلن في غضب أنه سوف يكون ملحنا وأنه لن يكون عصبيا مثلما كان محمد عبدالوهاب، وغادر معهد الموسيقي العربية مودعا صديقه مقررا عدم دخوله إلي هذا المكان وطار إلي الإسكندرية بأقصي سرعة ليلتحق بها للدراسة في المعهد العالي للموسيقي المسرحية وحصل علي دبلوم المعهد بعد عامين من الدراسة. أي عام 1949 ولم يكن قد تعرف بأحد أو مارس نشاطًا موسيقيا يذكر طوال فترة دراسته بالمعهد. والصدفة تلعب دورًا آخر في حياة كمال الطويل. فقد أعلن كمال بعد ظهور نتيجة السنة الثانية للمعهد وأن درجاته لم تكن مرضية لطموحه. فإذا به يثور ويعلن أنه لن يكمل سنتي اكتمال الدبلوم العالي لأنه لم يكن يدرك صعوبة الدراسة في معهد الموسيقي المسرحية وأن معهد الموسيقي العربية أسهل وأجمل. وفي هذه اللحظة تقدم إليه شاب نحيل قصير نسبىًا وقد علت وجهه ابتسامة صافية رقيقة وهمس لكمال الطويل قائلاً في هدوء: - اهدأ ولا تجعل الغضب يتملك نفسك. وأنا أعدك بأن أساعدك؟! وترك عبدالحليم ساحة المعهد وترك كمال يسأل عن هذا الشاب فقيل له إنه عبدالحليم شبانة - حافظ- فيما بعد، وأسرع كمال الخطي ليلتحق بالفتي وأن يوطد علاقته به، واستمع كمال إلي نصيحة عبدالحليم واكمل دراسته العليا في المعهد، وتعمقت علاقة كمال بعبدالحليم الذي كان يري أن كمال الطويل يمتلك موهبة التلحين، وامتدت الصداقة وتعددت اللقاءات وطرحت الأفلام والأنغام وكان عبدالحليم يحفظ كل نغمة تصدر من كمال، وكان أول لحن لكمال هو أغنية «دعاء» التي تغنت بها نجاة. ويتخرج كمال في معهد الإسكندرية العالي للموسيقي المسرحية، وتقوده الصدفة إلي التقدم للعمل بالإذاعة فيصبح مراقبًا للموسيقي والغناء في الإذاعة المصرية لأن المكان كان شاغرًا ودبلومة معهد الإسكندرية أهلته لأن يحصل علي هذه الوظيفة وبالطبع كان بطبيعة عمله أن يكون عضوًا في لجنة النصوص. وكذلك في لجنة الاستماع بحكم وظيفته. ووقع بين يديه نص لأغنية وجدها تحرك بداخله نغمات امتلكت عليه فؤاده. وكانت كلمات الأغنية: يا رايحين الغورية.. هاتو لحبيبي هدية وكان قد أعجب كمال بصوت قوي هو صوت المطرب محمد قنديل فقرر أن تكون الأغنية له. وكان مع كمال الطويل في لجنة النصوص الإعلامي حافظ عبدالوهاب وحصل كمال من لجنة النصوص بعد عناء علي نص الأغنية واتصل بكاتبها: محمد علي أحمد وساقت الصدفة أن يقع كمال بعد عامين علي تلحينه لأغنية «يا رايحين الغورية» ونجاحها الساحق أن يرسل ذات المؤلف أغنية أخري يعجب بها كمال الطويل ويقوم بتلحينها هي أغنية لمحمد قنديل أيضًا وهي أغنية: بين شطين وميه عشقتهم عنيا.. وذاع صيت الأغنية وكانت الأشهر والأجمل ما بين عامي 1950- 1951 وكثرت المشاحنات الوظيفية ليترك كمال الطويل مغصوبًا عليه نقلاً تعسفىًا إلي وزارة التموين لأنه كان وفدىًا ورؤساؤه في الوظائف يبغضون الوفديين. ولم يدم نقله طويلاً لأن الصدفة أيضًا قد لعبت في حياة كمال دورًا مهمًا آخر. وهو أن الوزارة تتغير ويتغير موقف الوفديين فيعود كمال إلي سابق وظيفته في الإذاعة. ابن الثورة قامت الثورة عام 1952 وكمال الطويل اسم مدرك ومحقق كملحن اشتهر من خلال صوت محمد قنديل القوي، لكن الثورة جعلت من كمال الطويل نجمًا بأن منحته الطفرة السياسية وتغيير المجتمع المصري فيقوم بتلحين أعظم أغنيات ثورة يوليو 1952: «والله زمان يا سلاحي. اشتقتلك في كفاحي انطق وقول أنا صاحي. يا نصر والله زمان» وبصوت من؟ بصوت قمة الغناء السيدة أم كلثوم ليصير كمال الطويل بوابة الخلود. وتتعاقب الأغنيات وتتعمق العلاقة بينه وبين عبدالحليم حافظ وتملأ الأسماع أغنيات وطنية مثل: دي مسئولية من أشعار صلاح جاهين وأغنية صورة، وأغنية بالأحضان، وأغنية بلدي يا بلدي. وبركان الغضب، وخلي السلاح صاحي. هذا هو كمال الطويل يولد ميلادًا جديدًا مع ميلاد الثورة. وأغنية السد العالي وأكد عبدالحليم موهبة كمال الطويل التي تنبأ له بها ووعده بالمساعدة فكان صوت عبدالحليم الذي تغني بكل هذه الأغنيات الوطنية التي لا تزال تعيش في وجداننا حتي الآن. وتعددت الأغنيات الوطنية بصوت عبدالحليم مثل: غير إني مكلت زمامي، وأغنية: ابنك يقولك يا بطل، أغنية تغنت بها نجاة هي وعديد من المطربين والمطربات مثل محمد رشدي وعفاف راضي وهي أغنية: الباقي هو الشعب واحنا شبابك يا بلادي، وآه يا بلد.. ويولد مع كمال الطويل كموهبة دارسة جيل جديد من الأصوات المحترمة الواعية والواعدة صنعت وجوده القوي وسط عواصف سياسية تعرضت لها مصر . وصعد نجم كل من محمد الموجي، علي إسماعيل، والكثير من أبناء ثورة يوليو. قرار من الرئيس جمال عبدالناصر بنقل كمال الطويل من الإذاعة إلي مفتش موسيقي قرر كمال الطويل أن يتفرغ إلي التلحين والتمع نجمه في الساحة الغنائية والموسيقية فاستقال كمال من الوظيفة الحكومية بوزارة المعارف العمومية. وكانت أغنيات أفلام عبدالحليم حافظ وغيره، إلا أن أغنيات مثل: علي قد الشوق قد كانت فتحًا رائعًا لكل من عبدالحليم وكمال الطويل. واستطاع كمال أن يكون نجمًا في جيله. يترك إحساسه الصافي للاستماع إلي موسيقاه التي تمتع كل الناس بلا حدود.