أقل من شهر.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظتي القاهرة والجيزة    حى شرق أسيوط يزيل التعديات على مرسى نهر النيل ب«الدوان تاون»    من 8 ل12 ساعة.. قطع المياه عن عدة مناطق بمحافظة الدقهلية مساء السبت المقبل (تفاصيل)    الأسهم الأوروبية تنخفض عند الإغلاق مع استيعاب المستثمرين للأرباح الجديدة    بوتين يعلن اعتزامه زيارة الصين الشهر المقبل    الأهلي يختتم استعداداته لمباراة مازيمبي الكونغولي    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    مباحث الفيوم تلقي القبض على المتهمين بإشعال النيران في فتاة بسبب خلافات الجيرة    طرح البوستر الرسمي لفيلم السرب    مسرح فوزي فوزي بأسوان يشهد احتفالات ذكرى تحرير سيناء    هالة صدقي: «صلاح السعدني أنقى قلب تعاملت معه في الوسط الفني»    تخصيص غرف بالمستشفيات ل«الإجهاد الحراري» في سوهاج تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    عضو بالشيوخ: ذكرى تحرير سيناء تمثل ملحمة الفداء والإصرار لاستعادة الأرض    بفستان أبيض في أسود.. منى زكي بإطلالة جذابة في أحدث ظهور لها    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    الجيش الأردني ينفذ 6 إنزالات لمساعدات على شمال غزة    الكرملين حول الإمداد السري للصواريخ الأمريكية لكييف: تأكيد على تورط واشنطن في الصراع    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    "أنا مشجع كبير".. تشافي يكشف أسباب استمراره مع برشلونة    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    تشكيل الزمالك المتوقع أمام دريمز الغاني بعد عودة زيزو وفتوح    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تشيلي تستضيف الألعاب العالمية الصيفية 2027 السابعة عشر للأولمبياد الخاص بمشاركة 170 دولة من بينهم مصر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    "ميناء العريش": رصيف "تحيا مصر" طوله 1000 متر وجاهز لاستقبال السفن بحمولة 50 طن    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النيل بين شوقي والسنباطي وأم كلثوم
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 05 - 2011

أصارحك أن التحدث عن انطباعات ذاتية، بالتوقف أمام أبيات قصيدة النيل هو هدف هذه الكلمات، ليست دراسة من خلال قصيدة شعرية، ولا شرحاً لأبيات هذه القصيدة، لكن الهدف هو مناقشة التأثيرات التي تحدثها أبيات القصيدة في النفس العاشقة للنيل، المحبة لإبداعات الثلاثي : شوقي والسنباطي وأم كلثوم ، والتي تجد في أغنية " النيل " تحديداً إيماءات ودلالات وصوراً رافقت النفس ، منذ استمعت إليها في سني الطفولة الباكرة حتي الآن .
النيل في تقديري هي أروع قصائد شوقي علي الإطلاق. أرفض المقاييس الفنية إطاراً لكلماتي ، وإن كنت أوافق شوقي ضيف علي أنها " جسدت شخصية النيل المعنوية بجانب شخصيته الجسدية ". ولعلي أضيف أن الشاعر قد أجاد التصوير بدرجة مذهلة، جعل الحياة في النيل قريبة من أعيننا ونفوسنا.
يقول شوقي في تقديمه لقصائد مجموعته الأولي ومعظمها يدور حول القصر، والعاملين فيه، والقريبين منه أن هناك ملكاً كبيراً ما خلق الشعراء إلا ليتغنوا بمدحه، ويتغنوا بوصفه ، ذاهبين فيه كل مذهب ، آخذين منه بكل نصيب ، وهذا الملك هو الكون ، وكما يقول أستاذنا محمد خلف الله أحمد ، فقد كان هذا كلاماً جديداً " لعله يقال لأول مرة في تاريخ الأدب العربي ، وهو يمثل تحولاً لابد لمؤرخ الأدب الحديث أن يسجله ، وسواء كان التزام شوقي به ، في مستقبل حياته الفنية ، كلياً أم جزئياً ، فإن الذي لاشك فيه أن الفكرة قد وجدت طريقها إلي الفكر العربي من مصادر متعددة ، وأنها أثّرت بعد ذلك علي اتجاه الشعر العربي الحديث تأثيراً ملحوظاً " ( بحوث ومحاضرات مجمع اللغة العربية الدورة الخامسة والثلاثون )
هو مصري المولد والنشأة والموطن ، ومن أبوين كل منهما مصري المولد والنشأة والموطن ، وإن كان في أصوله أرومة جركسية .
لكن المكانة التي استطاع شوقي أن يحققها في مجتمعه، كانت هي مبعث اعتزازه الأول، فضلاً عن عدم تبعيته لعظيم، أو لحزب من الأحزاب، وكان يحرص في قصائده علي التأكيد علي وظيفته التعليمية، وأن دوره في توجيه الشباب إلي درب الوطنية، لا يقل عما أداه الزعماء السياسيون،
أنا من أشد المعجبين بصوت السنباطي وهو يغني: كل شيء هادئ البهجة حولي هاهنا.. أيها الساقي إذا شئت اسقنا، ثم اسقنا. فضلاً عن ذلك، فإني أوافق علي القول إن رياض السنباطي هو صانع أجمل غناء في القرن العشرين. بدايته تتفق إلي حد كبير مع بداية أم كلثوم .
ولعل سيد درويش كان أول أساتذة السنباطي ، يشي بذلك ما رواه السنباطي نفسه أن سيد درويش أعجبه بعزفه علي العود، وطلب أن يصحبه معه إلي الإسكندرية، ويرعاه فنياً، لكن والد رياض رفض هذا الطلب. وأدي السنباطي ألحان سيد درويش في البداية، ثم التحق 1930 أستاذاً للعود بمعهد الموسيقي العربية.
لحن السنباطي وغني 758 أغنية، غني له 42 مطرباً ومطربة، حظيت أم كلثوم بأعلي نصيب فيها: 183 قصيدة وأغنية وطقطوقة. قدم صوت أم كلثوم ألحان السنباطي منذ 1936، الكلمات لشعراء كبار. والأطلال هي درة قصائد السنباطي التي غنتها أم كلثوم، وكما يقول، فقد كانت أصعب ألحانه، بل إنه لم يكن واثقاً للمرة الأولي في حياته من أداء أم كلثوم، لكن أم كلثوم بحنجرتها الذهبية، وأدائها الاستثناء قضت علي مخاوفه، وتحققت للأطلال مكانتها المتقدمة بين أغنيات العصر.
يحيي حقي يتحدث عن موسيقا السنباطي ، فيري أن المستمع إليها يشعر بالثراء والتدفق والكرم ، كنوزه أضخم من أن يتسع لها قالب ، فهي تفيض من علي الجنبين بشيء من الاختلاط والتدافع الذي لا يخلو من ضجة ، إن نوره منبعث من إشعاع كأنه التصادم بين قرارات متعددة متناثرة، فهو يحب أن يحشد، لا أن يختار وينتقي.. وهو لم ينقل الموسيقا الشرقية في تقدير حقي نقلة نقول معها إننا انتقلنا من عهد إلي عهد (المساء 17/4/1967) القيمة الأولي لألحان السنباطي أنها تمزج بين اللحن ومعني الكلمات، بحيث يضيف اللحن إلي الكلمات، ولا ينبو عنها. عبد الوهاب يضع لحناً في غاية الرقة والطراوة، يعبر به عن مشاعر محب، يخاطب الراية وهو في طريقه إلي جبهة القتال. أغنية " فلسطين: لا تفترق في خصائصها اللحنية عما قدمه في أغنياته العاطفية ، بينما استطاع السنباطي في قدرة فائقة أن يهبنا الجو الديني من خلال ألحان أم كلثوم الدينية، والإحساس بالوطن من خلال " مصر التي في خاطري " و " مصر تتحدث عن نفسها " وغيرها. ومات السنباطي في 9 سبتمبر 1981.
النيل كقصيدة تحض قارئها علي تخيل المسار، الطريق التي شقها النيل بنفسه عبر البلاد والمدن والغابات والأحراش والوديان والجبال، منذ المنابع في وسط إفريقيا، إلي رشيد ودمياط علي البحر المتوسط ، وهي في لحن السنباطي تفيض بالكثير الكثير من الصور الموحية . القضية عند السنباطي ليست في مجرد النغم الجميل، النغم الذي يطرب، لكنها قضية التوافق بين الكلمات واللحن، وطبيعة الصوت المؤدي. ويروي محمد عبد الوهاب أنه ميز لحن قصيدة النيل من بين ألحان السنباطي. أعجب بما بذله من جهد، وقال الناقد الفني كمال النجمي إن السنباطي لحن القصيدة بأسلوب تفوق فيه علي نفسه.
لا أذكر من القائل : " آذان الناس تربت علي صوت أم كلثوم " ، لكنه قول صادق إلي حد بعيد .
كان العرب يجتمعون مساء الخميس الأول من كل شهر علي ثلاث أغنيات ، ثلاث وصلات ، الوصلة الواحدة تستغرق حوالي الساعة والنصف ، والوصلات الثلاث تبدأ في العاشرة حتي الثالثة من صباح اليوم التالي .
الظاهرة التي يتفرد بها صوت أم كلثوم أنه بلا شبيه ، تسمعه فتعرف أن أم كلثوم تغني ، يصعب أن يقترب من خصائصه صوت آخر ، تسمع مغنية فتري أن صوتها يقترب أحياناً من صوت فايزة أحمد ، وأحياناً أخري من صوت وردة ، ومغنية تذكرنا بشهرزاد في بعض أغنياتها ، وهي وردة في أغنيات أخري ، عفاف راضي تذكرنا بفيروز ، اقتراب في الذبذبات الصوتية ، والمساحة ، وطريقة الأداء ، مع الفارق النسبي لهذا الصوت أو ذاك . أما أم كلثوم فإن قماشة صوتها من نسيج متفرد ، بلا شبيه . لا أتحدث عن " التفوق " ، فتفوق صوت أم كلثوم حقيقة يصعب مناقشتها ، أنا أتحدث عن " التفرد " . صوت أم كلثوم في التحليل العلمي للدكتورة سمحة الخولي من الأصوات القادرة من ناحية الاتساع والنوعية وعدد الذبذبات والأصوات التوافقية في كل نغمة ، وينفرد صوتها باللون المميز ، وبنوع من الدرامية فيه ، فالنغمة تغنيها أم كلثوم لها لون يختلف عن النغمة نفسها عندما يؤديها آخرون . ثمة النهر والخضرة والنخيل والسواقي وجني القطن وليالي الحصاد .
ينتسب صوت أم كلثوم إلي الغناء المصري، العربي، انتساباً أصيلاً وواضحاً، بلا شبهة استعارة أو إفادة من أصوات أخري، أو موسيقا أجنبية. استوعب صوت أم كلثوم طفولتها، نشأتها الريفية، آيات القرآن والمدائح النبوية والابتهالات والإنشاد، وحين بدأت تعلم الغناء بأسلوب علمي كان ذلك علي يدي الشيخ أبو العلا محمد، وكان أول ما تلقته منه أداء القصائد العربية . استطاعت أستاذية الشيخ أبو العلا في تطويعه البارع لصوت أم كلثوم إبعاد العجمة العثمانية والفارسية والغجرية التي قد دانت لها الغلبة علي أصوات المطربين عشرات الأعوام ، بتأثير الغزوات الوافدة . لذلك جاء منطوق الكلمة عند أم كلثوم سليماً ومقتدراً ، وإن ظل علي فطرته .
مفردات صوت أم كلثوم هي المساحة الصوتية الواسعة ، النبرات الصافية ، استقامة موسيقا اللغة العربية ، الحصيلة المعرفية ، النطق الصحيح لمخارج الألفاظ ، الدقة في تخريج النغمات ، الحفاظ علي الطابع الشرقي الأصيل .
العادة أن المغني يبدأ بتقليد المعروفين من مطربي الفترة قبل أن يقدم أغنيته الأولي . أم كلثوم لم تقلد أحداً، أنشدت المدائح والابتهالات الدينية وألحان الفطرة ، قبل أن تتعلم أصول الغناء علي يدي الشيخ أبو العلا ، فلما بدأت الغناء في المدينة لم يكن صوتها قد هجر أصالته ، أو حاول التقليد ، بالإضافة إلي أنها لم تغادر ظروف نشأتها ، حتي بعد أن تحقق لها التفرد في ساحة الغناء العربي ، بمعني أنها كانت تحرص علي اختيار الكلمات واللحن، عدا بعض الأغنيات الخفيفة التي اضطرت لأدائها في بواكير البداية. من هنا يأتي تفوقها علي مغنية متفوقة في وقتها، هي منيرة المهدية، أو " الغندورة " كما كانت تسمي. تمسكت منيرة والرأي للناقد الفني عادل الهاشمي بأشكال غنائية تجاوزها الزمن، ولما حل الصراع بين ما تمثله هي، وما يمثله الجديد النابت. لم تدرك أبعاد هذا الصراع، وتصرفت بتمسك لا يتزعزع بتقاليد الغناء في ذلك العصر، لكن الجديد كان يحمل في داخله ديمومة البقاء، فانتصر، وتجاوز المرحلة التي أصرت منيرة المهدية علي استلهام معاييرها.
حتي عندما استعان ملحنو أم كلثوم كانت موافقتها ، بالطبع ، شرطاً أولاً ! ببعض الآلات الغربية ، الأكورديون مثلاً أو البيانو، أو الأرغن في النسيج اللحني لأغنياتها ، فإن ذلك لم يأت علي حساب " شرقية " اللحن بعامة، لا إفراط في استخدام تلك الآلات، إنما تحدد استخدامها في مقاطع معينة في اللحن، كنوع من إثراء التعبير الموسيقي.
السهل الممتنع ، لا أجد ما هو أكثر انطباقاً علي هذا التعبير ، أو أن هذا التعبير أكثر انطباقاً عليه من صوت أم كلثوم ، يعانق العفوية في صداقة حميمة وطول معاشرة ، لكنه متمكن ومقتدر بلا حد ، لا يخطئ حتي في قصائد الفصحي .
أحمد رامي ينصح محبي الشعر صقلاً لمواهبهم أن يقرءوا الجيد من الشعر العربي والعالمي ، ويكثروا من الاستماع إلي أم كلثوم ، أم كلثوم تجلو الألفاظ ، تجعلها واضحة مشحونة بالعاطفة ، وتخلق لدي من يسمعها إحساساً عميقاً بالكلمة والنغم وعذوبة الأداء .
والحق أن أم كلثوم لم تكن مجرد صوت جميل ، لكنها رغم حصيلتها المعرفية المحدودة كانت اختياراً جميلاً ، فهي قد حرصت علي اختيار الكلمة واللحن ، كانت عاملاً مباشراً في اكتشاف القدرات الكامنة، والتي لم تعد تستغل في ملحني عصرها. وعلي سبيل المثال، فقد لحن محمد القصبجي قبل تعرفه إلي أم كلثوم لمنيرة المهدية ورتيبة أحمد وفاطمة قدري ونعيمة المصرية. كان أول ألحانه لها : قال إيه حلف ما يكلمنيش. اللحن بداية طريق جديدة لكليهما، ثم تخلصت أم كلثوم من فرقة المنشدين ، وكونت فرقة موسيقية قوامها: القصبجي عازفاً للعود، محمد العقاد عازفاً للقانون ، سامي الشوا عازفاً للكمان ، محمود رحمي ضابطاً للإيقاع، ثم توالت ألحان القصبجي لأم كلثوم .
كان السنباطي واحداً من ملحني عصره، فلما اكتشفه صوت أم كلثوم أقصد المعني تماماً ظهر كموسيقي كبير، بل إن قيمة عبد الوهاب الموسيقية وهي قيمة يتفق فيها الجميع أضافت إلي نفسها الكثير من خلال " انت عمري " أول الألحان التي غنتها له أم كلثوم، ثم ما تلا ذلك من الألحان. وعلي الرغم من عشرات الأصوات التي غنت من ألحان فريد الأطرش، فإن أمنية حياته، وعقدة حياته أيضاً باعترافه هي أن ألحانه لم تعرف طريقها إلي صوت أم كلثوم.
من حديث أنس في حديث المعراج ، أن النبي [ قال : " ثم رفعت إلي سدرة المنتهي ، فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة.
قلت: ما هذا يا جبريل؟
قال: هذا سدرة المنتهي.
وإذا أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران.
قلت: ما هذا يا جبريل ؟
قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات ( خطط المقريزي 1/91 )
لقد ظهرت الأراضي الخصبة في مصر مع نهر النيل، الذي حول طبيعة الأرض في الوادي والدلتا من صخور رملية في الجنوب، وجيرية في الشمال إلي تربة رسوبية بما يطرحه فوقها من طمي ". يقول ابن فضل الله العمري: " ساقه الله تعالي إلي مصر، وأحيا به بلدة ميتة ، وسقاه أمة عظمي، وإن لم تكن هي المنفردة بنفعه ، فإنها كالمنفردة ".
وسيدي أبو العلا هو حامي النيل، كم منع التماسيح من السير في النيل شمالاً، وأجبرها علي العودة إلي الجنوب ، وظلت أعدادها في تناقص ، حتي اختفت تماماً.
النيل من المنبع إلي المصب يمر في ست دول هي: بوروندي، رواندا، الكونغو الديمقراطية، تنزانيا، يوغندة ، كينيا، أثيوبيا، السودان، مصر.
وإذا كانت مصر هبة النيل، فإن النيل هو الذي اختار موقع القاهرة عاصمة لمصر، ذلك لأنه عند هذا الموقع يلتقي الوادي بالدلتا ، الممتدة إلي الشرق والغرب.
وثمة ظاهرة يجدر بنا التوقف أمامها ، وهي أن توالي الأديان والمذاهب والحكام علي مصر، لم يحل بين المصريين والاحتفال بوفاء النيل. ظل الاحتفال عادة ثابتة، متكررة، لا يكتفي الحاكم أيا يكن بقبولها، لكنه حتي ولو مسايرة لمشاعر الناس! كان يشارك فيها بحضوره الشخصي، أو بإنابة بعض وزرائه.
كان رصد المقياس يسبق دائماً احتفال فتح الخليج، بلوغ النيل ستة عشر ذراعاً يؤذن بوفاء النيل، وببدء المهرجانات احتفالاً بالمناسبة العظيمة. يعلق علي الشباك الكبير، في الجبهة الشرقية من دار المقياس، ستر أصغر ليعلم الناس بالوفاء، وتوقد القناديل والشموع، ويحضر كبار الأمراء والوزراء والكتبة والقادة، وتوزع الخلع والهبات، ويتناوب القراء تلاوة آيات القرآن الكريم، كما يؤدي المغنون أغنيات تعبر عن الفرحة بقدوم المناسبة. إذا حل الوقت، ولم يصل النيل إلي معدله المعتاد، صلي الحاكم ركعتين، وطالب القضاة بالابتهال إلي الله حتي يفيض النهر بمياهه، فإذا وصل المنسوب إلي معدله المطلوب، بدأت الاحتفالات، ويأمر الحاكم بكسر سد الخليج لتدخله مياه النيل.
النيل هو ترمومتر الحياة في الأرض المصرية، يعلو النداء: عوف الله! عوف الله! يعلم الجميع أن النيل أتي من الجنوب، محملاً بالمياه والطمي والحياة. فإذا ارتفع الفيضان، أغرق ما علي الضفتين، وأتلف المزروعات، وارتفعت أسعار الغلال. أما إذا امتنع ورود الفيضان، فإن مياه النيل، وتتناقص مياه الري بالتالي، وتجف المزروعات، ويقل الإنتاج الزراعي، وترتفع الأسعار، وربما زادت الظروف من قسوتها، فتنشر الجدب والموت والدمار.
كان فيضان النيل إحدي العجائب في رأي الشاعر الروماني " لوكريتوس " لأنه النهر الوحيد في العالم الذي يفيض في الصيف، يبلغ أقصي ارتفاعه في شهر مسري، ما يقابل أغسطس في التقويم الغربي الحديث، لم يحدث مرة واحدة تأخر وروده إلي شهر توت، أو سبتمبر، من هنا جاء المثل " لا خير في زاد ييجي مشحوط، ولا نيل ييجي في توت ".
الأسطورة تقول إن فيضان النيل مصدره دموع إيزيس ، حين كانت تبكي حزناً علي موت زوجها وأخيها ، أوزوريس وحورس .
ولعل ابن عبد الحكم هو أول من تحدث من المؤرخين العرب عن احتفال المصريين بزفاف عروس مصرية إلي النيل في موعد الفيضان. قال إنه حين فتح عمرو بن العاص مصر، قال له أهلها عند قدوم شهر بؤونة: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها. قال لهم: وما ذاك؟. قالوا: إنه كلما جاءت الليلة الثانية عشرة من هذا الشهر، عمدنا إلي جارية بكر، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل. فقال لهم عمرو : هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يجب ما قبله، فأقاموا شهور بؤونة وأبيب ومسري ، والفيضان لا يأتي. وكتب عمرو إلي الخليفة عمر، فكتب إليه عمر: قد أصبت، فإن الإسلام يهدم ما كان قبله، وقد بعثت إليك برقعة، فألقها في النيل إذا أتاك كتابي، وقرأ عمرو ما في الرقعة " من عبد الله أمير المؤمنين إلي نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجري، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك ، فلنسأل الله الواحد القهار أن يجريك. وألقي عمرو الرقعة في النيل، وكان أهل مصر علي حد تعبير ابن عبد الحكم قد تهيئوا للجلاء عنها، والخروج منها، لأنه لا يقوم بمصلحتهم إلا النيل، وأصبحوا وقد أجراه الله تعالي ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة.
واللافت أن الكثير من المؤرخين اليونانيين والرومانيين الذين قاموا بزيارة مصر قبل الفتح العربي، لم يتناولوا ولو بالإشارة السريعة تلك الحكاية المثيرة عن النيل الذي يتزوج عروساً كل يوم.. نسخة سابقة من شهريار ألف ليلة!
الحكاية مثيرة بلا جدال. ولو أنها تنتسب إلي الصحة، فمن المؤكد أنها كانت ستجد حفاوة في كتابات مؤرخي اليونان والرومان.
وفاء النيل يعني قدوم الفيضان في موعده، المياه التي تروي البشر والأرض، والطمي الذي يخصّب الأرض، ويهبها المزيد من الصحة والعافية وتواصل العطاء.
يقول شوقي في ألحان عبد الوهاب :
النيل نجاشي حليوه أسمر
عجب للونه دهب ومرمر
أرغوله ف إيده يسبّح لسيده
حياة بلدنا يارب زيده
ويقول محمود حسن إسماعيل عن النيل في ألحان عبد الوهاب :
مسافر زاده الخيال
والسحر والعطر والظلال
ظمآن والكأس في يديه
والحب والفن والجمال
ثمة رأي أن إلقاء عروس في النيل أيام الفيضان، يعني والتعبير لنبيلة إبراهيم أن " النيل الذي وصل في نهاية العام إلي حالة الإنهاك، لابد أن يعود إلي كامل قواه وحيويته عن طريق الزواج الجديد " ( الأقلام مايو 1976 )
عروس من بنات النيل، يجري كل عام، وفي موعد الفيضان، والاحتفال بوفاء النيل يجري إلقاؤها في مياهه، بعد أن تزين بفاخر الحلي والثياب، ويحتضنها النيل في عناق حميم ، بينما مظاهر الفرح والابتهاج تتعالي بدقات الطبول والزغاريد والأغنيات.
الصورة التي يهبها شوقي في قصيدته للعروس التي تحتضن النيل في يوم وفائه العظيم، تنبض بالمعاني والدلالات ، وتنبض بالصدق أيضاً .
وفاء النيل في تقدير بعض المفسرين هو اليوم الذي وعد فيه فرعون موسي بالاجتماع في قوله تعالي " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحي ".
مع ذلك، فإن الثابت تاريخياً أن عروس النيل الموسمية لم تكن حقيقة في يوم من الأيام .
يقول المقريزي : " ويحصل لأهل مصر بوفاء النيل ست عشرة ذراعاً، فرح عظيم، فإن ذلك كان قانون الري في القديم، واستمر ذلك إلي يوما هذا، ويتخذ ذلك اليوم عيداً يركب فيه السلطان بعساكره، وينزل في المراكب لتخليق المقياس " (خطط المقريزي 1/111 )
هل كنت تلك العروس التي تعانق مياه النيل باختيارها يوم الاحتفال بوفائه ، تعبيراً عن قربان أسطوري، بداياته في الأيام الأولي لتخلق الحياة علي ضفتي النهر، أو أنه تعبير عن الخصوبة التي كانت تنشدها الأرض في مياه النيل، وطميه ؟
لست أدري!.
لكن النيل له دوره المهم في المعتقدات الشعبية، وهو دور يشابه دور الأولياء، فمياهه علي سبيل المثال تبرئ من العقم، وكثرة البكاء عند الأطفال، امتداداً للمعتقد المصري القديم. ولاشك أن تعدد معتقدات وممارسات المصريين المتصلة بالنيل مبعثها تعدد أبعاد خطورة النيل في حياة المصريين :
لقد تعلم المصريون الكثير من النيل. كانت الزراعة بالطبع هي أول ما تعلموه ، أصبحوا بفضله أول مجتمع زراعي في تاريخ الجنس البشري ، وتعلموا من أجل الزراعة الكتابة والحساب والهندسة والفلك وعلم قياس الأرض. علمهم فيضان النيل أن السنة تتكون من 365 يوماً وربع يوم، وأنها تنقسم كذلك إلي فصول ذات خصائص ثابتة، يفيده في اختيار مواعيد الغرس والإرواء والرعاية والحصاد. وإذا كان المصري القديم قد وجد صورة الإله في تدبير الملك، وفي الإخصاب الحيواني العجل أبيس فإنه وجد صورة الإله أيضاً في قوة الإخصاب النباتي التي تصدر عن النيل.
وفي المقابل، فإن فيضانه في حالتي الزيادة أو الشح يمثل خطراً مؤكداً، تنتشر المجاعات، ويعم الغلاء، وتتفشي الأوبئة. النيل هو الذي علم المصريين الخوف من الفيضان، من حيث فيضانه الوافر، أو تحاريقه التي تهلك. لذلك كانوا يسترضونه بأغلي فتياتهم .
هل نغالي لو قلنا إن النيل هو الذي فرض صورة الحياة الحالية، في المجتمع المصري؟
المركزية التي يدين بها المجتمع المصري منذ بدايات تكوينه هي ضرورة أملاها جريان النيل بين الضفتين ، وحاجة الناس لمياهه ، وسيطرة الحاكم علي توزيع المياه .
وكان النيل بخواصه المميزة في مقدمة العوامل بل لعله العامل الأهم التي فرضت علي المصريين القدامي، والأجيال التالية من بعد، أن يلتزموا بالطاعة للرئيس، سواء كان ملكاً أو حاكماً أو زعيم قبيلة أو رب أسرة. لذلك كانت " الحكومة " ضرورة لازمة للحياة المصرية في فجرها الأول ، تلازمت مع انبثاق فجر الحياة الزراعية بما تعنيه من استقرار علي ضفتي الوادي .
والحق أني فكرت طويلاً في القول بأن النيل قد علم المصريين أن يعبدوا الطغيان . لماذا لا يكون العكس هو الصحيح ؟. ولقد كان ذلك كذلك بالفعل. يصح القول الغريب لو أن المصريين واجهوا ثورات النيل باستكانة، ولم يحاولوا السيطرة علي مياهه، لكنهم حاولوا منذ عرفوا الزراعة علي ضفتي النهر، وأفلحوا في ذلك بتوالي الأيام.
مصر هبة النيل، مقولة هيرودوت التي توارثها المؤرخون، لكن محمد شفيق غربال يري أن النيل هبة المصريين، فهم الذين استزرعوا ضفتيه، وهم الذين شقوا المجري في مناطق كثيرة، وهم الذين واجهوا التحدي، فأنشئوا أول مجتمع زراعي في التاريخ.
في تقدير نعمات أحمد فؤاد أن قصيدة النيل كلها تعزز مزية أم كلثوم في النطق والأداء، هذه القصيدة العصية بمقاماتها علي النطق القارئ، فما بالك بالغناء؟.. ولكن أم كلثوم طوّعتها، ثم رقرقتها في المطلع، ثم تهّدرت بها في خفة الفرح بالمهرجان، فتدفقت كالفيضان الذي يحتفل به صوتها المزغرد في البيت:
في مهرجان هزت الدنيا به أعطافها واختال فيه المشرق
ويعترف السنباطي بأن لحن قصيدة النيل نعمة أنعم الله بها عليّ، ولكن أين كان مكانها لو لم يقيّض الله لها صوت أم كلثوم يؤديها ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.