بلغ السيل الزبى، وهذه رسالة مباشرة إلى الرئيس السيسى باعتباره المسئول الأول عن أمن مصر وسياستها الخارجية وكرامتها الوطنية، التى بدأنا نشعر معه بأننا نسير حثيثاً فى طريق استعادتها، فقد دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على التدخل فى كافة شئوننا الداخلية بالتعليق أو محاولات التأثير أو بهما معاً، لكن هذا كله شىء وما حدث فى الأسبوع الأخير من يناير شىء آخر، ففى الأسبوع الأخير من يناير الماضى استقبلت الخارجية الأمريكية وفداً ضم ممثلين لقيادات بارزة فى جماعة الإخوان المسلمين جاءت للعمل من أجل تدشين معارضة جديدة للوضع فى مصر، وقد نظم الزيارة واستضافها «المركز الدراسى للإسلام والديمقراطية» وهو مركز عرف بعلاقته الممتدة مع الجماعة وعمله الدؤوب من أجل توفير الدعم لهم فى الساحة السياسية الأمريكية، وقد عقد هذا الوفد مؤتمراً فى 27 يناير فى النادى الوطنى للصحافة فى واشنطن لم يشهد حضوراً كثيفاً أو اهتماماً من وسائل الإعلام اللهم إلا ما وجه منها نقداً قاسياً للخارجية الأمريكية لاجتماعها بهذا الوفد. الواقعة بحد ذاتها شديدة الاستفزاز لكن الأدهى هو تعليق الخارجية الأمريكية الذى يمثل استخفافاً بالغاً بمصر. تقول المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية لا فض فوها إن الاجتماع «كان لقاءً للمجاملة»، ولم نكن نعلم قبلاً أن الخارجية الأمريكية تجامل الإرهابيين، وتضيف أن هذه الاجتماعات روتينية حيث نلتقى بانتظام مع قادة الأحزاب السياسية من مختلف أنحاء العالم، ولم تجشم نفسها للحظة واحدة مشقة الإشارة إلى الإشكالية المتضمنة فى وضع الإخوان فى مصر أو مناقشة مسئوليتهم عن الدماء الجارية فيها أو الخجل من ظهور شعار رابعة فى بعض الصور على مواقع التواصل الاجتماعى ومن خلفه شعار الخارجية الأمريكية، وهو بكل المقاييس عمل عدائى لمصر يشجع على المساس باستقرارها وأمنها، ولتتعجب عضوة الوفد الأمريكى رفيع المستوى الذى زار مصر مؤخراً كما تشاء من رد الفعل المصرى الذى تراه مبالغة ونراه أبسط تعبير عن الغضب من الاستخفاف بأمننا ودماء شهدائنا، وهو ما يتسق مع تحليل باتريك بول المتخصص فى الأمن فى صحيفة ال«واشنطن بوست» الذى يضع هذا الموقف من قبل الخارجية الأمريكية فى سياقه الصحيح، وهو أنها لا تعترف بالرفض الواسع لجماعة الإخوان المسلمين الذى كان 30 يونيو تعبيراً قوياً عنه. يؤصل الكاتب اللبنانى المعروف سركيس نعوم لهذه العلاقة فى عموده المنشور فى صحيفة النهار اللبنانية يوم الأربعاء الماضى بالإشارة إلى أن الرئيس أوباما وقّع فى عام 2010 توجيهاً طلب فيه من مجلس الأمن القومى وضع دراسة عن طريقة مواجهة الاحتجاجات المتنامية فى المنطقة، وقد أدت هذه الدراسة إلى توجيه رئاسى فى فبراير 2011 (لاحظ أن ذلك حدث بعد تنحى مبارك بيومين) طلب فيه متابعة الانفتاح على الإخوان فى مصر وتونس وليبيا وسوريا، وفى أبريل من السنة نفسها استقبل البيت الأبيض ووزارة الخارجية وفداً من التنظيم الدولى للإخوان وأعلنت وزيرة الخارجية آنذاك أن الولاياتالمتحدة ستستمر فى الاتصال المنتظم بالإخوان سواء صاروا فى السلطة أو خارجها لكن عندما بدأ الإخوان قمع المحتجين فى مصر فى نوفمبر 2012 ووجهوا ميليشياتهم للتعامل بوحشية مع الاحتجاجات بدأ بعض المسئولين فى واشنطن يتراجع عن دعمهم، وربما أكون قد حضرت إحدى حلقات البداية المبكرة لفكرة التحالف أو التنسيق مع الإخوان المسلمين فى 1992، حين دعيت إلى نيويورك للتعقيب على دراسة كتبها أحد الدبلوماسيين بالخارجية الأمريكية عن دور مصر الإقليمى فى حلقة نقاشية مغلقة، ضمت ممثلين لوزارتى الخارجية والدفاع وكذلك أجهزة الأمن القومى والإعلام، ودار نقاش طويل حول الخيار بين إصلاح النظم القائمة فى الوطن العربى أو التحالف مع خصومها، وكان مدعو الإسلام على رأسها فى ذلك الوقت، وكان شبح ما حدث فى إيران ماثلاً وكان واضحاً أن هاجس خسارة مماثلة لما حدث للنفوذ الأمريكى فى إيران بعد الثورة يلح على المشاركين. تم التراجع إذن عن مراجعة سياسة الاتصال بالإخوان والانفتاح عليهم بعد افتضاح أمرهم فى النصف الثانى من السنة الوحيدة التى حكموا مصر فيها، وعدنا من جديد إليها نتيجة التقييم الأمريكى التعيس لثورة 30 يونيو، وها نحن نتابع أسوأ صورها باستقبال الخارجية الأمريكية الوفد الإخوانى قبل أقل من أسبوعين، ولسنا وحدنا الذين ننظر إلى المسألة على هذا النحو، فباتريك بول الذى نقلنا عنه من قبل يصف التصرف الأمريكى بأنه «إهانة مباشرة لحلفائنا المصريين الذين يخوضون كفاحاً وجودياً ضد الإخوان»، ويشير سركيس نعوم صراحة، نقلاً عن أصدقاء له، إلى تلقى هبات ومنح مالية من مكتب الديمقراطية فى وزارة الخارجية وجهات أخرى. من هنا ضرورة الوقفة الجادة مع الولاياتالمتحدة، فليس الموقف الأمريكى إلا انفتاحاً على من يقتلون أبناءنا وتتخضب أياديهم بدمائهم الزكية، ناهيك عن إشاعة العنف والكراهية والخراب فى ربوع الوطن، وليس من تفسير لدىَّ لهذا الموقف إلا الرغبة فى إفشال عملية إحياء مصر التى تجرى حالياً أو سوء الفهم الذى يؤدى إلى النتيجة نفسها، وقد عانينا كثيراً من سوء الفهم هذا بل عانت منه الولاياتالمتحدة ذاتها فى الصومال والعراق واليمن وسوريا واليمن، ولسنا على استعداد لدفع فاتورة الغباء الأمريكى بافتراض حسن النية مجدداً.