على كثرة المشاكل التى حالت دون إقامة جسور حوار حقيقى بين الإسلام والغرب، وخلقت تراثاً من التوجس والشك بين الجانبين، وصل إلى حد العداء خلال الحقبة الاستعمارية التى اقتسم فيها البريطانيون والفرنسيون السيطرة على معظم أرجاء العالمين العربى والإسلامى، لم يحدث منذ حرب تحرير الجزائر أن وصلت علاقات الإسلام والغرب إلى هذه الدرجة العالية من التوتر التى بلغتها بعد حادث الهجوم على مقر مجلة شارلى إيبدو، رغم المصالح الاقتصادية الضخمة للغرب فى العالم العربى! ورغم وجود جاليات إسلامية وعربية استوطنت عديداً من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا التى تضم أكبر تجمع إسلامى فى أوروبا يتشكل من 7 ملايين مسلم فرنسى ينحدرون من أصول أفريقية وعربية! ورغم جهود العولمة التى تسعى لتوحيد أنماط الاستهلاك فى العالم أجمع، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً فى تحقيق التواصل الاجتماعى بين الثقافات والأديان والحضارات المختلفة رغم تعايشها على أرض واحدة، ورغم التطورات التكنولوجية التى طرأت على العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وأسقطت المسافات والحواجز الجغرافية وجعلت من العالم قرية صغيرة، لكنها لم تفلح فى أن تجعل العالم أكثر أمناً وسلاماً وقدرة على التعايش! ومع الأسف ساهمت مقولات عديدة خاطئة يروج لها الغرب فى الإبقاء على كثير من أسباب العنف الذى انتشر فى أرجاء العالم أجمع دون علاج حقيقى يجتث جذوره، ومن بين هذه المقولات الخاطئة عدم جواز تبرير أفعال الإرهاب وجرائمه وإدانته على نحو مطلق دون مناقشة أسبابه وبواعثه! لأن الإرهاب فى مفهوم هؤلاء ينهض فقط على محاولة أقلية باغية السيطرة على الغالبية مستخدمة القوة والعنف لتطويع إرادتها! وهى مقولة غير صحيحة استهدفت شطب حق الدول والشعوب المستضعفة فى مقاومة ومناهضة المحتل، وحالت دون إصلاح أخطاء قاتلة أبقت على الاحتلال الإسرائيلى إلى مطلع القرن الحادى والعشرين رغم الظلم الذى لحق بالشعب الفلسطينى! من بين المقولات الخاطئة أيضاً التى حافظت على الأمر الواقع، وغيبت شرعية القانون الدولى واحترامه، وأبقت على الظلم والجور ينهش أرجاء عالمنا، حق الدول الخمس الدائمة العضوية فى احتكار الفيتو الذى حول الشرعية الدولية إلى خيال مآتة لا يهش ولا ينش، تسلب المستضعفين حقوقهم فى تحرير أراضيهم، وتسلب المجتمع الدولى حقه فى تصحيح أخطاء الدول الكبرى، ونشر العدل والمساواة واحترام القانون الدولى دون تمييز على مستوى العالم أجمع. وأظن أن إنكار الحق فى مقاومة المحتل، وسلب الشعوب المحتلة حقها فى المقاومة لإزاحة الاحتلال، واستخدام الفيتو لتعويق حقوق الشعوب فى تقرير مصيرها، يشكلان أسباباً مهمة للإبقاء على الإرهاب تعادل فى خطورتها الفقر وغياب العدالة واستخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، وما من شك أن العالم كان يمكن أن يكون أقل عنفاً لو أنه كان أكثر عدالة يوازن بين حقوق دوله ومجتمعاته، وهذا هو مكمن الداء الذى يبقى على الإرهاب ويسوغ أفعاله فى ظل تكريس المعايير المزدوجة، لأنه إذا كان من حق المجتمع الأوروبى أن يغضب إلى هذا الحد البالغ بسبب جريمة «شارلى إيبدو» التى سقط فيها ما يقرب من 20 قتيلاً، فلماذا لا يكون من حق العرب والمسلمين أن يغضبوا لسقوط مئات الآلاف من الضحايا فى العراقوسوريا وغزة واليمن وليبيا، جميعهم راحوا ضحية إفراط إسرائيل وقوى الغرب فى استخدام العنف ضد شعوب مقهورة! ومع الأسف فإن ردود فعل جريمة «إيبدو» زادت العلاقات سوءاً بين الغرب والإسلام، فى ظل حملات الكراهية المتنامية التى تجتاح أوروبا، تقودها أحزاب اليمين العنصرى فى إنجلتراوفرنساوألمانيا، تلاحق الجاليات المسلمة فى العديد من الدول الأوروبية بالتهديد، وتلطخ جدران مساجدهم بشعارات عنصرية بغيضة، وتسيّر المظاهرات فى شوارع المدن الأوروبية تشكك فى ولائهم لأوطانهم، وتحض الصحف الأوروبية على إعادة نشر الرسوم المسيئة للدين الإسلامى ولرسوله محمد بدعوى الحفاظ على حرية الرأى، لكن الهدف الحقيقى هو إكراه الجاليات المسلمة فى هذه البلاد على الهجرة إلى أوطانهم الأصلية رغم إعلان جميع الدول العربية والإسلامية وجميع مرجعياتها الدينية دون استثناء رفضها للحادث وإدانتها للقتلة، ثم جاءت الطبعة الجديدة من مجلة «شارلى إيبدو» التى وزعت أكثر من 3 ملايين نسخة فى غضون ساعة واحدة لتشير إلى استشراء هذا الخطر الداهم، وباستثناء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وبابا الفاتيكان فرانسيس، صمت معظم قادة أوروبا على أن يقولوا قولة حق تضع الأمور فى نصابها الصحيح، وتوقف هذا السيل من الكراهية تجاه الإسلام والجاليات المسلمة، وحدها أنجيلا ميركل التى حذرت من قسمة البلاد، مؤكدة التزامها بحماية المسلمين الألمان لأنهم ألمان لهم كافة حقوق المواطنة، ووقفت بشجاعة بالغة ضد حركة بيجيدا العنصرية التى تقود المظاهرات فى مدينة درسدن تطالب بطرد الجاليات المسلمة من ألمانيا، ثم جاءت تصريحات البابا فرانسيس التى أكدت ضرورة التزام حريات التعبير والرأى بعدم السخرية وازدراء الأديان الأخرى، لأنه من الطبيعى والإنسانى أن يغضب الناس للسخرية من أديانهم، لتضع الأمور فى نصابها الصحيح. ومع الأسف لعب اليهود دوراً سلبياً فى هذه الأزمة، سواء فى ذلك ساستهم العنصريون من أمثال بنيامين نتنياهو الذى لعب دور البهلوان كى يتسلل إلى الصف الأول فى مظاهرة باريس داعياً اليهود الفرنسيين إلى الهجرة إلى إسرائيل، أو رؤساء تجمعاتهم الدينية والمدنية الذين اعتبروا فى تصريحات علنية بأن جريمة «إيبدو» حالة حرب جهادية، يشنها المسلمون على الغرب واليهود وحرية الرأى والتعبير! حتى حاخامات اليهود وشخوصهم الدينية تورطوا بعيداً فى محاولة توسيع شقة الخلاف بين الإسلام والغرب المسيحى، بدعوى أن الإسلام بطبيعته يرفض الديمقراطية ويحض على العنف وكراهية الآخر، ومن الصعوبة بمكان أن تتكيف الجاليات الإسلامية وتتعايش مع ثقافة الغرب وقيمه، ويزيد من خطورة الموقف الراهن تنامى الدعوات العنصرية إلى طرد الجاليات المسلمة بالقوة رغم أن جذورها تمتد إلى ما يقرب من مائة عام، وسحب الجنسية من آلاف الشباب المسلم الذى ذهب إلى سورياوالعراق ليحارب إلى جوار «داعش»، رغم أن هؤلاء الشباب يمثلون الجيل الثالث من أبناء المهاجرين الأوائل من أصول عربية وأفريقية، ولدوا فى أوروبا ويتمتعون بكل حقوق المواطنة فى هذه الدول، وانقطعت علاقاتهم بأوطانهم الإسلامية إلى حد يمكن أن نقول معه إنهم صناعة أوروبية لأنهم أبناء أوروبا! لكن الغرب الذى نجح فى قلب الحقائق وأنكر دوره فى تغييب معايير العدل وإهدار القانون الدولى، وتمكنت أجهزة إعلامه من أن تلبس الضحية ثوب الجلاد، يؤثر أن يتهم الإسلام بالإرهاب. وبالطبع لا يمكن إعفاء تنظيمات الإرهاب التى لعبت دور الحاضنة لمفاهيم العنف من مسئولية انتشار جرائم الإرهاب على مستوى العالم أجمع، لكن من يفحص تاريخ هذه المنظمات وأسباب نشأتها سوف يجد يد الغرب ضالعة فى صناعة هذه الجماعات، ابتداء من طالبان إلى القاعدة إلى داعش، كما تتحمل الدول العربية والإسلامية ومرجعياتها الدينية الأساسية خاصة الأزهر مسئولية تصحيح مفاهيم الفكر الإسلامى الخاطئ دفاعاً عن صحيح الإسلام، لأنها المسئولة أولاً وأخيراً عن فرز الغث من السمين فى هذه الأفكار، وإذا صح ما قالته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أن الألمان لا يكرهون الإسلام وإن داخل عقولهم الكثير من التشويش وعدم الفهم الذى يجعلهم يتساءلون، لماذا تبدو الأرواح رخيصة والحياة بلا ثمن فى عقول هؤلاء الذين يرتكبون جرائمهم باسم الإسلام؟! وأظن أنه ليس هناك غير الأزهر الذى يستطيع أن يجيب عن هذه الأسئلة ويطفئ هذا الحريق المشتعل بين الإسلام والغرب المسيحى، وربما لهذا السبب وحده يتحتم على الأزهر أن يرسل بعثة على مستوى عال من الشيوخ الثقات يحسن أن يرأسها شيخ الأزهر، تزور برلين كى تجيب عن أسئلة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وتزور الفاتيكان كى تناقش مع البابا فرانسيس طبيعة الضوابط التى ينبغى أن تلتزم بها حريات الرأى والتعبير، بحيث يمتنع على الجميع السخرية وازدراء كافة العقائد بما فى ذلك الإسلام.