عرضنا فى المقال السابق أهم ما جاء فى الجزأين الأول والثانى من شهادة دكتور بول جيروم سوليفان بخصوص سد النهضة أمام إحدى اللجان الفرعية للجنة الشئون الخارجية بالكونجرس الأمريكى. والدكتور سوليفان -كما أشرنا فى المقال السابق- يعمل كأستاذ بجامعة الدفاع الوطنى الأمريكية وهو مقرب من مؤسسة البنتاجون، ويعد من أبرز الخبراء الأمريكان فى مجال اقتصاديات المياه والطاقة من المنظور الأمنى والاستراتيجى. وفى هذا المقال نستعرض أهم ما جاء فى الجزأين الثالث والرابع من هذه الشهادة. وقد تطرق دكتور سوليفان فى الجزء الثالث من الشهادة إلى السيناريوهات المحتملة لأزمة سد النهضة، فأكد أن سد النهضة سوف يعرض مصر للعديد من المشاكل المائية والكهرومائية أثناء سنوات الملء والتخزين، وأن إثيوبيا استغلت فترة السيولة، التى سادت أرجاء مصر أثناء ثورة يناير، وقامت بإجراءات بناء السد، وعندما بدأت مصر فى الاستقرار كان الوقت متأخراً لاتخاذ قرار حاسم بشأن السد. وأضاف أنّ أى تسوية لأزمة سد النهضة لن تكون على أسس فنية أو مائية، لكنها سوف تعتمد على التوازنات الاقتصادية والسياسية والعسكرية بين البلدين (مصر وإثيوبيا). وذكر دكتور سوليفان أن مصر هى الأقوى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، وذلك بالرغم من أنّ مصر تتعرض لموجات إرهابية من الداخل والخارج، وحدودها الشرقية والغربية غير مستقرة. وذكر سيادته أنّ مصر لديها القدرة العسكرية على تدمير هذا السد أو أى سدود إثيوبية أخرى على النيل الأزرق، لكنه أكّد أنه لا يعتقد أنّ مصر سوف تدمر السد وهو ممتلئ بالمياه لأن تداعيات انهياره سوف تكون هائلة. وأضاف أن مصر تعانى من مشاكل اقتصادية ولا تستطيع الدخول فى حرب بمواردها الذاتية إلا إذا ساعدتها دول الخليج، وأن دول الخليج لها شواغلها الأخرى من مشاكل داخلية، وأحداث دموية فى سوريا والعراق، ولها أيضاً استثماراتها الضخمة فى دول حوض النيل. وأكّد أنّه بالرغم من صعوبة موقف مصر فإنه ما زال لديها وجود قوى فى شرق أفريقيا وتستطيع بشكل غير مباشر أن تثير متاعب عديدة فى الداخل الإثيوبى. وأشار دكتور سوليفان إلى أن مصر تحاول تطوير علاقاتها التجارية والسياسية مع إثيوبيا، وأنها قد توافق على السد إذا ما حصلت على بعض التنازلات من الجانب الإثيوبى. وأضاف أن هناك مباحثات قائمة بين البلدين قد تتسع لتشمل الأوضاع فى السودان وجنوب السودان وإسرائيل والصومال وإريتريا واليمن ودول الخليج. وأضاف أن المباحثات فى الغالب ستمتد إلى سنوات ملء خزان السد، واستخدامات المياه فى الزراعة فى إثيوبيا، وسياسات تشغيل السد. ومن ناحية أخرى، ذكر دكتور سوليفان أن مصر عليها إعادة التفكير فى طريقتها للرى بالغمر، وأنواع المحاصيل التى تزرعها (يقصد غالباً الأرز وقصب السكر)، وتسعير المياه، والمشاركة فى الربط الكهربائى الإقليمى لاستيراد الكهرباء الإثيوبية. وتوقع أن المياه قد تقود إلى نزاعات فى حوض النيل، خاصة بين مصر وإثيوبيا، وإن لم يكن نزاعاً مباشراً سيكون نزاعاً غير مباشر. وتوقع أيضاً أن الوضع المائى الصعب فى مصر وكذلك فى السودان قد يؤدى إلى شرائهما للمياه من الدول التى بها وفرة مائية كبيرة مثل جنوب السودان وبعض دول حوض النيل الأخرى، مما يخلق مورداً مالياً ضخماً لهذه الدول. وذكر أنه من المهم الاستثمار فى الزراعة فى دول المنبع لتصدير الغذاء لدول المصب. ويرى دكتور سوليفان أن هناك تبايناً كبيراً بين موقفى مصر وإثيوبيا، فمصر لا تعترف باتفاقية «عنتيبى» بينما إثيوبيا لا تعترف بحصة مصر المائية، ومصر تطالب باحترام ما جاء فى المادة السابعة لاتفاقية الأممالمتحدة للأنهار المشتركة التى تنص على عدم التسبب فى ضرر ملموس بالدول المتشاطئة فى النهر، بينما تنادى إثيوبيا بنصيب عادل من مياه النيل. وذكر أن أحكام القانون الدولى لا توجد قوة تحميها أو تجبر الدول المتنازعة على تنفيذها، وأعطى مثالاً على ذلك بقيام إثيوبيا ببناء سلسلة سدود «جيب» الإثيوبية على نهر أومو المشترك مع كينيا، وزراعتها مساحات هائلة من محصول قصب السكر على هذه السدود، مما أدى إلى حدوث أضرار كبيرة بسكان كينيا، ومع هذا ما زالت المباحثات مستمرة بين الحكومتين الكينية والإثيوبية بينما السدود فى طريقها للاكتمال. وأشار إلى إمكانية لجوء مصر إلى مجلس الأمن، ولكنه يرى أنّ حلفاء إثيوبيا فى مجلس الأمن قد يمنعون صدور أى قرار يدينها. وفى الجزء الرابع والأخير من شهادة دكتور سوليفان، تطرق فيها إلى أهمية أفريقيا للولايات المتحدةالأمريكية، فأشار إلى أن موارد القارة الأفريقية هائلة وأنه ينتظرها مستقبل باهر كقوة عسكرية وسياسية واقتصادية عملاقة، وأن أمريكا يجب أن تكون جزءاً من هذا المستقبل. وذكر أن مصر وإثيوبيا حليفين وشريكين مهمين للولايات المتحدةالأمريكية لأسباب عديدة أهمها المساعدة فى تحقيق السلام والأمن فى الشمال الأفريقى والساحل والقرن الأفريقى، وأن نشوب نزاع بين الدولتين ستكون له عواقب وخيمة على المنطقة وعلى المصالح الأمريكية. ثم ناقش الخيارات المتاحة للولايات المتحدة للتدخل فى هذا النزاع تتمثل فى المشاركة كوسيط بين الأطراف المتنازعة، والضغط عليهم للوصول إلى حل عادل ومنصف بالقدر المستطاع. والتواصل مع الدول الكبرى الأخرى صاحبة المصالح فى المنطقة للتوافق حول تفاهمات عملية لحل مثل هذه النزاعات المائية، وإلى آليات لمشاريع السدود الكهرومائية لتكون أكثر فعالية وكفاءة وتراعى الآثار السلبية على دول الجوار، والعمل على التوصل إلى اتفاقية جديدة شاملة لدول حوض النيل. وبالرغم من تأكيد دكتور سوليفان أمام لجنة الكونجرس أنه لا يتحدث باسم البنتاجون أو أى جهة أخرى ينتسب إليها، فإن شهادته تعكس جانباً كبيراً من الرؤية الأمريكية الاستراتيجية حول هذه الأزمة، ومن الأهمية تحليل ما جاء فى هذه الشهادة من معلومات وتصورات وأطروحات، وللحديث بقية.