وبعد أن قرأت إيلا رسالة الهاتف النقال التى قال فيها عزيز إنه وصل بوسطن ويريد رؤيتها وبعد أن ارتبكت وأربكت، ألقت الهاتف جانباً ملقية معه صدمتها الحلوة وأكملت الجلسة مع أسرتها مشرعة فى تناول الحلو ولكن رأسها كان ما زال يدور، وكان ديفيد المتربص منتبهاً يملؤه الأسى والندم والخوف وسألها هل وصلتك رسالة؟! وعلى الفور أجابت إيلا: نعم إنها من ميشيل، وكانت شبه متأكدة أن ديفيد لم يصدقها، وبالفعل ترك المائدة ولم يكمل التحلية وقال: «حسناً» ببؤس شديد واستسلام أقسى، ولكن إيلا لم يكن فى وسعها التراجع لا عن ادعاء أن الرسالة من ميشيل فى دار النشر ولا بخصوص الذهاب لمقابلة عزيز، لهذا ثبتت على ادعائها بل وتمادت فى تأليف قصة فورية من نسج خيالها، مفادها أنه يتوجب عليها السفر لبوسطن، حيث إن هناك اجتماعاً مهماً فى دار النشر غداً صباحاً وأثناء روايتها هذه يتدخل ديفيد ويعرض أن يوصلها بسيارته فالمسافة بعيدة ومرهقة (ساعتان بالسيارة) بل وبلغت به التضحية أنه على استعداد لأن يؤجل مواعيده غداً بغية أن يرافقها فى سفرتها تلك محاولاً بذلك إثناءها عما برأسها وعما قرأه بعينيها، ونسى ديفيد أن فرصه قد نفدت بالفعل. رسالة: أيجب أن نفقد الأشياء الجميلة كى نشعر بقيمتها؟! لماذا لا نمتن إذا ما أُعطينا النعم؟ ولماذا يكون الامتنان بعد فوات الأوان حيث لا ينفع الندم؟ وأثناء رفضها لعرض ديفيد الحنون بتوصيلها، ومن خلال ابتسامتها الصفراء التى صوبتها نحوه خطر ببالها فكرة فى التو واللحظة (لماذا لا تذهب الآن إلى بوسطن)؟! وبهذا تكسب وقتاً كى تقابل ميشيل قبل اجتماع الغد! (هذا ما قالته) أما الحقيقة فهى أنها اضطربت لفكرة انتظار مقابلة عزيز فى الغد، وهو الذى قطع كل هذه المسافة من أمسترداملبوسطن لمقابلتها، ولم تعد تستطيع صبراً ولهذا فجرت قنبلتها بأنها ستسافر بالسيارة الآن وبمفردها، ورأى ديفيد فى عينيها شيئاً غريباً لم يحاول مقاومته، فقد تأكد الآن أنها عزمت على مقابلة رجل غيره ولن تتراجع وأن جميع فرصه لاسترجاعها باءت بالفشل، وبالتأكيد وصل لإيلا قلقه، ولطمأنته قالت بصوت واضح وأمام الجميع إنها سوف تنام فى شقتهم فى بوسطن بعد مقابلتها لمساعدة مدير دار النشر (ميشيل) وكأنها تؤكد لديفيد أنها لن تقوم بعمل علاقة مع أحد!! وأذعن ديفيد للأمر وذكرّها أحد ابنيها التوأم بأنها إن سافرت من سيساعده بالفروض المدرسية، ولكنها طلبت منه التأجيل للغد ثم صعدت لغرفتها كى تتمكن من الوصول إلى بوسطن قبل العاشرة مساء، وما إن أغلقت حجرتها حتى تنهدت وتنفست وابتسمت وجُنت وكتبت لعزيز الرد: «لا أستطيع أن أصدق أنك هنا سأكون فى فتدق أونيكس بعد ساعتين». وأرسلت رسالتها وأرسلت معها جزءاً من عقلها فبدت مضطربة مترددة حتى أنها غيرت فستانها أكثر من أربع مرات ووضعت عطراً كان مهجوراً (لأن ديفيد لم يكن يحب العطور) وبعد أن أخذت حمامها وأنفاسها وأحلامها، وضعت قليلاً من الماكياج، وفى غضون تلك الفترة التى تجهزت بها خطر ببالها أن لماذا لم يخبرها عزيز بعزمه على القدوم لكانت استعدت أكثر وبشكل أفضل، بأن تغير تسريحة شعرها مثلاً، أو تطلى أظافرها!! فماذا لو لم يُعجب عزيز بمظهرها؟! ماذا لو لم يحدث بينهما انجذاب؟! وأفاقت من هذا الجدل الداخلى نافضة كعادتها التفكير غير المنطقى إذ إنه ومن الأساس ما مقابلة عزيز سوى مغامرة ومقامرة أما قواعدها وأيامها الفائتة والمقبلة هنا فى بيتها هذا مع زوجها وأطفالها، هكذا أقنعت نفسها لتهرب من ذاتها لآخر لحظة ولآخر مرة، وبالفعل قبّلت أطفالها وأمسكت بمفاتيح سيارتها وانطلقت إلى بوسطن واختفى ديفيد من المشهد، فلم تره ولكنها رأت قلبها يدلف قبلها إلى السيارة وكفى بالقلب دليلاً. ورسالتى: أنه فى سبيل التمرد على أحباء تأذينا منهم نحاول أن نفعل كل ما لم نكن نفعله أيام كنا معهم وكذلك لا نكرر ما كنّا نقوم به وإن كان من فضائل الأفعال وأرقاها. ورسالتى: أنه أحياناً ما نكذب على أنفسنا بل وننكر عواطفنا خجلاً وهرباً من ذاتنا، عواطفنا التى تقررها أرواحنا رغماً عنا ودون إرادتنا. ووصلت إيلا للفندق متوترة خائفة قلقة متحمسة، يخالط خجلها لهفة وشوق، ويصارع ترددها فضول وتوق، وفى محاولة فاشلة للتغلب على ارتباكها كانت تنظر إلى اللوحات المعلقة على الحائط، ولكن روحها الباحثة عن عزيز وجدته يجلس فى قاعة الاجتماعات وكان وصف عزيز هكذا: «كان يرتدى قميصاً كاكى اللون وبنطالاً قصيراً داكناً وبدا لها أنه لم يحلق ذقنه منذ يومين مما جعله جذاباً وقد تهدل شعره الكستنائى المجعد فوق عينيه الخضراوين فمنحه قدراً من الثقة والمكر فى آن واحد، كان نحيلاً وطويلاً خفيفاً ورقيقاً كان مختلفاً عن ديفيد الذى يرتدى عادة بدلات غالية الثمن تفصل خصيصاً له، كان يتكلم بلكنة اسكتلندية رأت فيها سحراً، ويبتسم برقة وسهولة، وبدا سعيداً لرؤيتها، وقالت إيلا لنفسها ما الضير فى احتساء فنجان قهوة معه!! ثم أصبح الفنجان فنجانين!!! ثم.. ..