وبدافع من الملل والضجر أثناء انتظار عزيز مساعدة الصوفيين له للسفر لمكة والمدينة، وفى تلك التكية المنعدمة من مظاهر الحياة الحديثة بل مظاهر الحياة عموماً بدأ عزيز يقرأ فى الفلسفة الصوفية وأشعارها، ومن ثم بدأ يهتم ويصيبه الفضول والانجذاب وبدأ يتوق للمزيد، وكان لأشعار الرومى تأثير كبير عليه وعكف عليها يدرسها ويفهمها ويشعرها جيداً. وبعد ثلاثة أشهر قال السيد ساميد، مسئول التكية، لعزيز إن عزيزاً يذكره بدرويش متجول يدعى شمس التبريزى وقال له أيضاً: «إن البعض يعتبر «شمس» زنديقاً صفيقاً لكنك لو سألت الرومى لأجابك أنه الشمس والقمر»، وأعجب عزيز الحديث وظل يفكر بالأمر وظل السيد ساميد يحدثه عن شمس إلى أن بهر وسحر به حتى أن ذاك السحر وصل إلى درجة أن عزيزاً انتابته ٌقشعريرة غريبة وراوده شعور بأنه رأى «شمس» من قبل، ويقسم لإيلا بأنه فى تلك اللحظة التى كان السيد ساميد الصوفى يحدثه عن شمس سمع أصواتاً غريبة وكأن «شمس» فى الجوار وهنا عرف عزيز أنه ليس بحاجة إلى الذهاب إلى أى مكان، فقد كان كل ما يحتاج إليه هو البقاء والنظر إلى داخله، وقد أطلق على ذاك الجزء من حياته الحرف «ف» فى كلمة صوفى ورسالتى: توقفوا قليلاً واهدأوا وفكروا عميقاً ثم انظروا لدواخلكم، ماذا ترون؟! والآن قرروا وفوراً ابدأوا. دخل ديفيد يوما بعينين لامعتين ولسان متلعثم وتأتأة شديدة عرفت إيلا من خلالها أنه يعانى اكتئاباً حاداً وبأداء غاية فى الرومانسية وراغباً فى التأثير، اقترب من إيلا قائلاً: «حبيبتى» افتتح مطعم تايلاندى جديد لماذا لا نذهب إليه أنا وأنت فقط، وكان هذا آخر ما يلزمها عشاء مع ديفيد وفقط.. وبالطبع حاولت الرفض ولكن ديفيد أصر. ولم يكن أمامها سوى القبول وفى مطعم هادئ لطيف بديكورات ناعمة تمزج بين الأبيض والأسود وكثير من المرايا، طلبا العشاء وكأسى نبيذ وتحدثا لدقائق عن أناقة الديكور وتأثير تضاد الألوان، ثم ساد صمت موحش وهنا قالت إيلا لنفسها: عشرون سنة من النوم فى الفراش نفسه والمشاركة فى الحمام ذاته ومشاركة الطعام وتربية ثلاثة أطفال كل هذه الأحداث ما استطاعت التغلب على ذاك الصمت القاهر، ورسالتى: اقض عمرك مع من تشاء وأحبه قدر ما وكيفما تشاء، وتشارك معه لحظاتك وعمرك وحياتك ولكن.. دائماً وأبداً كن مستعداً للفراق بأى شكل كان، وكسر ديفيد الصمت بعبارة «أرى أنك تقرأين الرومى» وهنا دهشت إيلا من الجملة، أو يعرف ديفيد عن الرومى!! أو يهتم ديفيد بما تقرأ؟! ورسالتى: عندما يتوقف المحب عن متابعة أخبارك، عندما يتوقف عن الاهتمام بتغيرات مزاجك وعندما يتوقف عن الاهتمام بكل أو بعض تفاصيلك لا تصدق أنها مشاغل الحياة بل هو انشغاله وانصرافه عنك. عنك أنت، فالمحبون لا ينشغلون عن أحبائهم ولو كانوا فى ساحات الوغى أو على فراش الموت. وردت إيلا على ديفيد بأنها بدأت بقراءة قصائد الرومى لأنها تساعدها فى كتابة تقريرها عن رواية الكفر الحلو وأكملت: «ثم اهتممت بالأشعار وبدأت أقرأها لنفسى» وهنا شرد ديفيد محدقاً فى بقعة نبيذ سقطت على مفرش الطاولة وعلى بقعة ونكأة سوداء وقعت فى نفسه وباغتها قائلاً: «إيلا إنى أعرف ماذا يجرى.. أعرف كل شىء»، عم تتحدث سألته إيلا وهى غير راغبة فى سماع الإجابة ولكنه أجاب (ديفيد المتهرب دائماً أصبح ملاحقاً)، وأكمل: «عن.. عن علاقتك الغرامية.. .. »، قال ديفيد مستمراً فى تلعثمه إنى أعرف، وتوترت إيلا وتوتر صوتها وعلا وقالت: علاقتى الغرامية!! وعندما فطنت أن رواد المطعم انتبهوا إليها خفضت صوتها مكررة أى علاقة غرامية؟ وأجابها «إيلا أنا لست غبياً فقد فتحت بريدك الإلكترونى وقرأت رسائلك مع ذلك الرجل» فصرخت به إيلا «ماذا فعلت؟!» وكان رده «لا ألومك يا إيلا فأنا أستحق ذلك فقد أهملتك وبدأت تبحثين عن العاطفة فى مكان آخر»، خفضت إيلا رأسها ونظرت إلى كأسها وخيل لها أن على سطح كأس النبيذ نقاط ذات ألوان قزحية، فقد تعلمت كيف تحيا وحيدة وسط الجمع! واستمر ديفيد فى الحديث قائلاً «إنى مستعد لأن أسامحك وننسى ما حدث» ولكن إيلا ما زالت صامتة وقد بدت حادة وهازئة، متوترة ودراماتيكية، وبعينين لامعتين قويتين قد أخذتا بثأرهما تواً قالت: «وماذا عن علاقاتك الغرامية؟ هل ستنساها أيضاً؟!»، وحضر عشاؤهما مع نادلة أنيقة وأخذت تصب لهما النبيذ فى كياسة وانصرفت، وهنا أكمل ديفيد وهو يائس حزين مستعطف، وقد أكل منه القلق وشرب: «هكذا إذن.. هل هذا انتقام؟!» فأجابت إيلا: «إنه ليس انتقاماً ولم يكن كذلك على الإطلاق»، وسألها ديفيد بفزع ملهوف متوتر: «إذن ما هو!؟» وهنا عقدت إيلا يديها وانتابها شعور بأن كل شىء منصت ومستعد فى حماس وترقب لما سوف تقول، الزبائن وعمال المطعم حتى أطباق وشراشف وجدران المطعم.. العالم بأسره قد توقف لسماع ما سوف تقوله!! وقالت إيلا «إن للأمر علاقة بالحب.. فأنا أحب عزيز.. ».