كتب «عزيز» ل«آيلا» بأنه سعيد لأنها أحبت روايته، كما ذكر لها أيضاً أنه لم يعتد الحديث عن الماضى، إلا أنه شعر بالارتياح عندما حكى لها ذاك الماضى، وكيف كانت خطوات تحوله إلى الإسلام ثم الصوفية (أو بالأحرى الصوفية ثم الإسلام)، وأكمل لها فى رسالته أنه أمضى صيف عام 1977 مع مجموعة من الصوفيين فى المغرب بغية أن يوصلوه لطريقة يسافر بها إلى مكة أو المدينة دون أن يعاقب كونه غير مسلم، إذ إن هاتين المدينتين لا يدخلهما إلا المسلمون وذلك ليكمل عملة كمصور محترف. وبالفعل عاش مع هذه الجماعة الصوفية فى غرفة بسيطة، صغيرة وبيضاء لم يكن بها إلا الضروريات: حصيرة للنوم وقنديل ومسبحة من العنبر وأزهار بجانب النافذة وتعويذة لدرء العين الشريرة وطاولة بأحد أدراجها ديوان الرومى، ولم يكن فى الحجرة كهرباء ولا هاتف ولا تلفاز، ومع ذلك لم يهتم «عزيز» بذلك، ربما لأن التجربة كانت جديدة وفريدة، وربما لأنه بالفعل ذاق التشرد قبلها فأصبح معتاداً على صعب العيش!! وربما كان هناك سر آخر سوف يتأتى لنا معرفته لاحقاً!! ورسالتى: تمر حياتنا حاملة معها أحداثنا وأنفاسنا وأرواحنا ودقات قلوبنا، فرحنا ويأسنا، سعادتنا وآلامنا، أصوات ضحكات وهمهمات وبكاء، مشاهد رائعة وأخرى مريعة ومع الوقت تتحول اللحظات الراهنة إلى ماضٍ! هكذا فجأة تصبح حياتنا ماضينا، منا من يحب اجتراره، بل والعيش بين طياته، ومنا من يتجنبه ويتجنب اقترابه، بل ربما نغلق أبواباً ثقالاً على تلك الذكريات ونصب عليها مصهور الحديد والنحاس والرصاص لإغلاقها إلى الأبد قارئين عليه جميع تعاويذ وتمائم العالم خشية أن يخرج ذاك المارد المخيف فيجدد أحزاننا وآلامنا ووجعنا، وهكذا فعل «عزيز» أنه تحاشى الحديث عن الماضى واكتفى باللحظة الراهنة والغد تركه لفعل الأقدار! عزيز الصوفى فعل هذا بماضيه فماذا فعلتم أنتم؟! أفكرتم من قبل؟! ومع أول ليلة فى التكية كان هناك السيد ساميد، الذى رحب بوجود «عزيز» بينهم، ولكنه ودون مقدمات حذر «عزيز» من تعاطى المخدرات!!! وعندها استغرب «عزيز» كيف عرف السيد ساميد أنه مدمن مخدرات، مع أن «عزيز» كان يعتقد أن أموره تحت سيطرته، وأنه لم يصل إلى حد الإدمان الكامل بعد!! وبالفعل فعلها «عزيز» يوماً وحصل على المخدر ويومها عوقب بالمبيت فى حديقة التكية ولم يحدثه السيد ساميد فى الأمر أبداً، بل إنه اكتفى بإغلاق باب التكية فى هدوء، وهنا فهم «عزيز» الرسالة والتزم القواعد من بعدها؛ قواعد التكية وقواعد الصوفية وقواعد العشق. ورسالتى هى أن بعض الرسالات تكون أكثر فعالية وأقوى أثراً إذا ما تجنبنا الحديث المباشر واستعضنا عنه بالفعل المباشر، ولكن حينها فإن الأمر كل الأمر يتوقف على استقبال متلقى تلك الرسائل الفعلية ودرجة إدراكه وإحساسه واستجابته وإلا فإنك تحدث نفسك، وتراسل ذاتك!!! استمتع «عزيز» بالهدوء الذى كان يميز التكية، فقد أعطاه الأمر سكينة وسلاماً، كان فى حاجة إليهما، ففى التكية كان ظاهر الحياة هو أنها مشتركة، أما الحقيقة فقد كانت شيئاً آخر تماماً، حيث إن كل فرد منهم كان يدور فى عالمه الخاص، بحسب أصول الصوفية، وكان عليهم النظر داخل أنفسهم، وبذلك يكونون وحيدين فى وسط الجمع بغية أن يدربوا أرواحهم كيف تكون وحيدة وسط جمع من الناس، وفى الوقت ذاته كان عليهم إدراك أن ذاك الجمع يقبع فى داخل وحدتهم! معقدة بعض الشىء تلك الصوفية! أليس كذلك؟! ورسالتى: أن هذا التدريب والمظهر الصوفى هو بذاته حال العشاق والمحبين لفكرة أو لحلم أو لشخص فهم كمرضى التوحد يكررون أرقاماً وحسابات ويشيدون الممالك والقصور ويقضون أروع اللحظات مع من يحبون، ولكن فى ذاك العالم الافتراضى ألا وهو وجدانهم وذاتهم، فكما هو مظهر صوفى ذاك الانعزال والنظر إلى داخل النفس فهو كذلك وبالأساس مبدأ من مبادئ العشق والهيام. الصوفية عشق ووهم وهم وحلم كبير!!!