بعينى طائر يحلق فوق الأرض، يرصد ويراقب التفاصيل، ويدون الوقائع والأحداث. سجل الدبلوماسى والسياسى د. بطرس غالى شهادته فى كتاب: «بانتظار بدر البدور» الذى تناولت بعضاً من شذراته فى مقالى السابق. وها أنا أستكمل ما بدأته حول قضية الصراع على مياه النيل، ذلك الخطر الذى يهدد حياة المصريين وأمنهم القومى والسياسى، وتداعياته الشائكة على أمننا المائى والغذائى والاقتصادى. ولا أغالى إذا قلت إن أكبر الكبائر التى ارتكبها الرئيس الأسبق حسنى مبارك ونظامه، تكمن فى الإهمال المتعمد لتلك القضية التى تعد «قضية وجود» وليس مجرد توجهات وخلافات، والتجاهل المقصود على مدى 30 عاماً لمصالح مصر مع دول القارة السمراء، وتمزق الروابط والأواصر الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية مع دول حوض النيل، منذ تعرضه لمحاولة الاغتيال فى أديس أبابا عام 1995، وما ترتب على ذلك من تراجع وانسحاب للوجود المصرى فى مقابل تصاعد النفوذ الإسرائيلى والغربى!! ناهيك عن التخبط والعشوائية واستراتيجية تجنب المواجهة التى تعامل بها النظام المصرى مع تلك القضية منذ البداية، والصمت الرهيب من قبل الدولة تجاه عمليات إنشاء السدود فى دول حوض النيل خلال السنوات العشر الأخيرة، والتى كانت بمثابة إشارات إنذار مبكر، قبل أن تصل القضية لمرحلتها الحاسمة عام 2010 بتوقيع اتفاقية «عنتيبى» فى أوغندا!! ولكن ما يثير الدهشة حقاً تلك التصريحات والمقالات والتحليلات التحريضية التى ما زال يطلقها د. محمد نصر الدين علام، وزير الرى والموارد المائية فى عصر مبارك، والتى لا أجد لها الآن موقعاً من الإعراب، بعد ما عجز الرجل عن احتواء هذه القضية، وكان أحد عناصر انهيار المفاوضات، وفشل فى التوصل لاتفاق إطارى مع دول المنبع التى قررت بعدها التوقيع المنفرد على الاتفاقية، ولا أجد مبرراً منطقياً لدأبه على استعراض الانتقادات والاتهامات العدائية من الجانب الإثيوبى، لإثارة الغضب وتهييج الرأى العام، وتناسى التصريحات العنترية والتهديدات العسكرية والمقالات العنصرية البغيضة التى شهدتها الساحة المصرية على مدى سنوات طويلة!! ما أيسر التهديد والوعيد، وما أسهل دق طبول الحرب التى يؤججها مرتزقة الحروب لإنهاك مصر وإضعافها!! وما أبسط التوجه لتدويل القضية وطرحها على مجلس الأمن، مثلما يطالب د. هانى رسلان، رئيس وحدة السودان بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، الذى يرى أن ما تفعله دول المنبع مخالف للأمن الدولى، لكننى أختلف تماماً مع هذا التوجه، وأرى أن القضية يجب أن تظل شأناً أفريقياً خالصاً، لا يتعلق سوى بدول حوض النيل العشر فقط، حتى لا نفتح الطريق أمام التدخل الغربى، وما أدراك ما التدخل الغربى!! فالمؤكد أنه لن يكون فى صالح مصر، لما يمكن أن تمارسه إسرائيل من ضغوط ومؤامرات دولية، فلا يخفى على القاصى والدانى الدور الصهيونى فى إذكاء نيران الفتنة والوقيعة بين دول فى حوض النيل، والتغلغل الإسرائيلى المتزايد فى دول المنبع، وهو ما دفع أحد الوزراء فى كينيا للقول: إذا كان من حق مصر بيع الغاز لإسرائيل، فمن حق دول المنبع أن تبيع لإسرائيل المياه!! ولم يعد سراً أيضاً ما تقدمه تل أبيب من دعم ومساندة وتعاون وثيق للحكومة الإثيوبية، ولم تعد تخفى على عيون الناظرين المعدات والحفّارات المقبلة من الشركات الإسرائيلية للعمل فى سد النهضة الإثيوبى، وتزايد نمو العلاقات بين البلدين فى شتى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياحية!! وليس هذا الاهتمام الإسرائيلى بمياه النيل وليد الأمس أو اليوم، وإنما يعود إلى بدايات مشروع الكيان الصهيونى، والبحث عن مياه لرى صحراء النقب، وامتداد تلك المحاولات إلى مفاوضات كامب ديفيد، للحصول على مياه النيل عبر خط أنابيب أسفل قناة السويس. صحيح أن تل أبيب لم تصنع القضية، لكنها رسخت لمفهوم «المصالح الحصرية» لدى إثيوبيا، وحرضت وأججت الخلافات لكى تحقق مطامعها فى مياه النيل التى فشلت فى الحصول عليها من خلال مصر!! وللحديث بقية..